الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عبد اللطيف النكاوي

تأملات في وجه مدينتي الحزين

إلى بقايا وجوه وصدى أصوات وخيالات أمكنة تظللني وتغدق في العطاء

1- نشيد العودة:

أبركان2. تسمّيت بلون الرجل الذي اختارك مأوى وملاذا أخيرا في تطوافه الصوفي3، خلعت عنك صفاء الرجل وارتضيت لنفسك عزاء السواد الطابع لحيطانك، سيقول فيك العابر الجاهل بخبايا دروبك: مدينة ضربها طاعون الخراب فقشّر حيطانها وحفّر دروبها وتبهدل حتى سواد اللون فيها. وقد يقول فيك السائح اللاهث وراء كل غريب عجيب: مدينة من بقايا طوفان نوح. والحق أن الطوفان يعرفك في غياب نوح.

بيني وبينك أبركاني حكي طويل: من أحراش كنت أرعى فيها الغنم وانسج خيوط علاقة أولى مع العالم، قادتني رحلة العيش والشقاء إلى أحضانك طفلا يكتشف انه عدا الأغنام والأحراش هناك عالم آخر اسمه المدرسة. في دهشة اللقاء صرت أعفّر عباءتي الحرشاء ببعض لين عوالمك. كنت وقتها أبركاني، رغم الدهشة، رغم الوحشة أليفة كالحمل الوديع غنيّة رغم الفقر، فاتنة رغم الذبول. تدحرجت في شوارعك حافي القدمين، صافي الذهن. لم تكوني وقتها وان ترامت أطرافك في ثنايا السهول، عندي، غير مدرسة " الرشاد"4 التزم بأوقات خروجها ودخولها وقاعة "زكزل"5 للسينما آوي إليها أبحث عن بعض السفر والجنون عبر أفلام الهند المجنحة، وعن بعض الجموح والحماسة عبر أفلام الصين المصارعة.

فضاء من الرتابة وضيق الحال تهدهده لعبة الصفراء والشكشكة6، أنين السكارى وسواد دروبك عند نزول الليل. كان صيفك وقتها مطاقا رغم قيضه. أطفالك تأوي إلى وادي ملوية أووادي شرّاعة7 تضمّد حرقة الشمس: مسبحك البلدي قاطع أحياءك مذ كان فقاطعته.

كنت وقتها أبركاني بيضاء واسمك للسواد. كنت أليفة رغم عقم الأسياد وشحّهم. وها أنذا، الآن، اقف مشدوها، باهتا، عند أبوابك ادقّق البصر في تجاعيد وجهك الحزين علّني اظفر بشيء يذكرني بك فلا أجد غير الدمار. دمار تنكره تلك التي ظلت شابّة تسافر في متاعي إلى ديار غريبة فكانت مأواي متى اشتدّ الحنين. فارقتك على مضض اركب أحلاما نسجناها سواء، أعود اركب حرقة اللقاء فألعن ريحا وحشية هبّت عليك، فكّت ضفائرك وحفرت التجاعيد على وجهك الحزين...

2- تباريح المقام:

أبركاني بيني وبينك حزن شديد: أتدحرج في دروبك، ألملم وجهك من أنقاض، من أزبال وأتربة وهشيم. قبلة لا زلت لأكثر من حالم شحّ في وجهه الوطن. تغدقين بلا حساب وعلى جودك جادوا بكل هذا الخراب. تزاحمت فيك المقاهي لتمنع ناسك من السير خيفة أن ينقشع الضباب فترى الأعين كل هذا العراء. أسيادك في نوم طويل ي يغطّون، يجمعون الضرائب على وقوف السيارات في مدينة بلا مواقف للسيارات. وعند الاعتراض يزغردون بتعاويذ وأشياء لست افهمها. عوّدوا ناسك على البناء على الدمار فكنت دمارا في دمار. مدينة يعاف الجن سكناها. صابرة أنت على الضياع، صامتة على الخراب. وأنا عزيزتي اكره فيك الصبر والصمت معا.

حلقة كنت لكل الحلقات، لمن يبيع ويشتري ولمن يحكي مكنون العهود الغابرة، هجرت الأيدي بيعك وشراءك وحكيك وتركتك دوائر من غبار. سرقوا ثمار حقولك ووهبوك للدمار. اسمك صوفي، وأبوهذيلة – بوهديلة-8 صوفي آخر هاجمته المياه فجازوه بالظلام. سأسميك عاشقة الظلام وليمونك للضياء. واسميك عاشقة الغبار وسهولك في اخضرار، واسميك عاشقة الحفر ووضعك في انبطاح واسميك.... أبوهذيلة، بوهديلة، كم ضربته الطبيعة وتضربه كلما تجهّم وجه السماء فإذا كفّت عنه الطبيعة ضربتموه بالظلام والمدينة بالخراب والدمار، كم دمعة سكبت أبركاني وعمقك بركان يهدّد بانفجار !

بين سهول بوغريبة9 وبوشاقور10 وأخرى ترحل عبر مداغ11 نحوالبحر12 والتي تسلّقت الجبال عبر ورطاس13 وزكزل14...كم تثمرين وتكرمين حين تفتحين ذراعيك لرجال ونساء طلّقتها الخميسات15، تازة16، أوالغرب17 النافع جاءوا يتوسّلوا فيك شرقا18 حكمت عليه ذئاب مرت من هنا بعدم النفع.
سرت في مسارب اعرفها وأخرى اكتشفها عساني أذكرك واذكرني في رسم، في طلل عفت عليه الرياح والأتربة فلم اظفر بغير الإهمال سيّدا للمقام يشهر الغبار والأزبال والحفر ليغطي على آخر ما تبقى منك فيك.

إلى الجبال، تظللك تسلقت أدس بعض خيبتي أتنسّم ريح جذورك الأولى. عروسا كانت زكزل وقبلة لملاحقة الجذور. جفّفوا منابعها وسيّجوا مداخلها وعوض الماء ها هي تصفّر للفراغ. زفّتوا بعض جوانبها ووقفوا على أبوابها يسطون على الجيوب، يبيعون ما تبقى من زينة العروس. أجرجر أذيال خيبتي، واصلت الصعود نحوالمنطلق والمفترق: تافوغالت19، قرية تتزيّن، لعريس يجهل عنوانها وليس يعرف أنّ له عاشقة سكنت أحضانا يزناسنية20، كانت بالأمس معقلا للنار اللاهبة لكل الذئاب العاشقة.

وكنت أعود إليك بعد كل تحويسة في ضواحيك لأرحل من جديد. أحطّ الآن بقرية رأس الماء21 – كابويوا – بلغة القرية، قابعة تحرس البحر ويحرسها وقد علت وجهها تجاعيد الاستثمارات الخسّيسة. تقتات على ما تأتى به سفنها الصيادة المتواضعة من سمك يكون قد أفلت من شباك كاسحات الإفرنج التي خفّ هديرها هذه الأيام في مياهنا. أقف عند مدخل الشاطئ لوجود حاجز حديدي الفته لكثرة ما فرّخت الحواجز والحدود في هذه البلاد. يتقدم القابض متثاقلا من نافذة السيارة:
  درهمان من فضلك.
  مقابل ماذا ؟
  مقابل البحر والشاطئ
  البحر لله والشاطئ كذلك.
  مقابل......
  مقابل الازبال والقاذورات التي تتسلق رمال الشاطئ ربما ؟
  ربما...

ادفع مخافة أن أتحول إلى وحش كاسح وامضي، ويبقى التسلط المفضوح العقيم ثابت مكانه يسطوعلى جيوب هلكها الجفاف وغلاء المعيشة وانعدام سبل العيش الكريم. أعود إليك عزيزتي ابحث فيك عن جريدة أدس فيها بعض عريي وحسرتي. أجدها مرة وتفلت مني مرات لقلة العدد أولتخّلف القطار.

منهكا آوي، أجرجر أحلامي وخيبتي، إلى حيّي لأجده غارقا في الظلام. تخلف المجلس القروي السابق في تسديد مستحقات الإنارة العمومية ويسدد المجلس الحالي مستحقات البارحة وسيسدد مجلس الغد مستحقات اليوم ليبقى بوهديلة في الظلام. سأسميه حي الظلام ولا مجالس. اهترأت أسوار مقبرتيه اليهودية والنصرانية22 فاختلطت المساكن بالقبور...تساكنت القبور مع القبور لتعلن نوعا من الوحدة تحت نباح الكلاب وعياط السكارى ونوم الأسياد الغائبين.

3- نشيد الرحيل:

أبركاني، بيني وبينك عهد رغم الرحيل: أولّيك ظهري واهتراء جدرانك يسكنني. فرحيلي عنك إليك وان اختلف المكان، أمري أمرك فنحن في المحنة سيان. في أحضانك قطفت أول النجاح فعقدنا العزم على غزوكل النجاح وحين انتصرنا فتح الأسياد لنا، مرحبين، أبواب الشقاء، ومن الشقاء كنا وضد الشقاء كان انتصارنا. لا خير في وطن، عزيزتي، ينكرني متى أشهرت في وجهه حبي. ولا أمل في بلد، عزيزتي، يتنكر لنجاح أبنائه. وإذا هم غضبوا عاقبهم على النجاح. سأكذب شظايا روحي المشتت في دروبك، وأخون أحلامي يمشي بها أطفالك الحفاة، إن أنا قلت باني سأغضب وأقاطع. أنت عزيزتي، رغم التنكّر والنكران والعقاب، أنت الوطن، كل الوطن. إليك سأهرول من المجهول البعيد، متى أعوزني الحلم والأمل. أنا، سودائي، ما اخترت الرحيل وانما قضى الوطن لي بالرحيل. وجدتك عزيزتي على هشيم وعلى هشيم أتركك وبيننا الأمل في اكثر من لقاء....على مضض أودعك والوجه يغرق في الدموع وفي النفس حرقة وسؤال....

هوامش:

1 باحث من أصل مغربي يعيش ويدرّس بفرنسا

2 مدينة في شرق المغرب الأقصى تشتهر بحوامضحها ونشاطها الفلاحي وتعني بالبربرية اللون الأسود

3 سيدي أحمد أبركان له ضريح في مخرج المدينة في اتجاه مدينة الناضور وعليه تسمّت المدينة

4 مدرسة الرشاد للبنين والبنات، احدى مدارس المدينة القديمة

5 من أقدم قاعات السينما في المدينة

6 نوع من القمار ينشط أمام مداخل قاعات السينما

7 اسم وادي في مخرج المدينة أعطى اسمه لقرية فلاحية في ضواحي المدينة

8 اسم حي شعبي عريق اقترن اسمه بالفضيانات التي ضربت المنطقة في ستينيات القرن العشرين

9 قرية فلاحية في ضواحي المدينة

10 منطقة فلاحية

11 قرية فلاحية في ضواحي المدينة وبها مقر الزاوية البوتشيشية

12 البحر الأبيض المتوسط

13 قرية في ضواحي المدينة

14 هواسم قرية في ضواحي المدينة أيضا

15 مدينة مغربية

16 مدينة مغربية

17 منطقة فلاحية في غرب المغرب

18 إشارة إلى تقسيم المغرب من طرف الاستعمار الفرنسي الى مغرب نافع في الغرب والوسط وغير نافع في الشرق

19 قرية سياحية جبلية

20 سلسلة جبلية هي امتداد لجبال الريف شرقا تسمت باسم ساكنتها أي قبائل بني يزناسن

21 قرية ساحلية تعيش على الصيد البحري وساكنتها من تنحدر من جبال كبدانة

22 إشارة إلى مقبرتي المدينة اليهودية والنصرانية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى