الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم عبد اللطيف النكاوي

ملاحظات أولية حول الثورات العربية

لعل أول مفعول للثورات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس لتنتشر كالنار في الهشيم في غيرها من الدول العربية، هو الدهشة التي أصابت الملاحظين المتابعين للشأن العربي ومعهم قسم كبير من النخبة العربية. دهشة ترجمتها النعوت الأولى التي ألصقت بهذه الثورة وعلى راس هذه النعوت "المفاجأة". وإذا كان لهذا النعت ما يبرره بالنظر للوتيرة التي أخذتها الأحداث فانه يتبطن في تحاليل الملاحظ والمتتبع الغربي، جهلا بالتناقضات التي ظلت تخترق هذه المجتمعات رغم الهدوء السطحي الذي ظل يوحي به ظاهرها. جهل يقتات من التمثلات والاجترار والأحكام القبلية التي ظلت تتحكم في ثوابت الرؤية الغربية للعرب. ولعل أول انعكاس لهذه الثورات هو التصدع العميق الذي أحدثته في هذه الرؤية، إذ قلبت موازينها وردّت عليها نظرية صراع الحضارات وكشفت عورة اختزالاتها الوهمية : الإنسان العربي خارج التاريخ، ألف العبودية، لا يحب الحرية، غير ديموقراطي، إرهابي، متعصب.....
الثورة مفهوم إحالي يحيل على مرحلتين : مرحلة ما قبل الثورة والمرحلة التي تليها وأهلية صفة الثورة والثورية تتوقف على مدى عمق وجذرية القطيعة التي ستقيمها المرحلة اللاحقة للثورة مع الحقبة السابقة والمسببة لها. وعليه فالتحركات التي يشهدها العالم العربي اليوم هي ثورية في الروح والإرادة التي تحرّكها ولكن القطيعة التي ستقيمها مع ماضي المجتمعات العربية وحدها كفيلة بإكسابها أو سلبها صفة الثورية. فالثورة رؤية ومشروع ككل المشاريع المجتمعية، مفتوح على المستقبل يقوى ويتجذّر بتحوّل أفكاره وشعاراته إلى وقائع تقطع مع الماضي وتحسّها الناس فيزداد تمسكها بثورتها، ولا يكفي أن نقيم هيئات أو مؤسسات تسهر على حماية الثورة والسعي إلى تحقيق أهدافها لنجنّبها الانحراف أو التقهقر، فكم هي الهيئات والمؤسسات - وصفحات التاريخ تعجّ بالأمثلة - التي خرجت من أحشاء الثورات لتصبح عائقا ومثبّطا للمشروع الثوري لهذه الثورات.

لا أنوي في هذا المقام أن أؤرخ لهذه الثورات وكيف التاريخ لأحداث ملتهبة لم تتّضح بعد كل معالم الصفحة التي ستكتبها في مستقبل هذه الشعوب، بل سأكتفي بمساءلة بعض القضايا والمفاهيم التي أثيرت وستثار بدون شك في المستقبل القريب لهذه الثورات.

وبداية أذكّر ببعض المحطات التاريخية الأولية لهذه الثورات:

• 17 دجنبر 2010 محمد البوعزيزي، بائع متجول، يحرق نفسه في سيدي بوزيد في تونس

• 14 يناير 2011 رحيل زين العابدين بن علي عن الحكم

• 25 يناير 2011 بداية المظاهرات في القاهرة

• 2 فبراير 2011 نداءات للتظاهر ضد الحكم السوري على الشبكات الاجتماعية

• 11 فبراير 2011 الرئيس المصري يرحل عن الحكم

• 14 فبراير 2011 بداية المظاهرات في البحرين

• 15 فبراير2011 بداية الانتفاضة ضد معمر القدافي في ليبيا

• 23 فبراير 2011 بداية المظاهرات في صنعاء في اليمن

• 23 مارس 2011 الجيش السوري يطلق النار على المتظاهرين في درعة......

• يتبع

1. من التراكم إلى الإعصار:

تقارب وتتابع هذه المحطات الثائرة والتي يعرف الجميع انطلاقتها ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمحطتها الأخيرة، فضلا عن كونها تتكلم العربية، تكشف عن عمق التشابه والتقاطع في الأرضيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية المحركة لهذه الثورات.

فهذه الثورات على فجاءتها الظاهرية لا يمكن انتزاعها من سياقاتها المحلية والإقليمية والدولية. فالنضالات الشعبية العربية المتراكمة، والأنظمة السياسية العربية ملكية كانت أو شبه ملكية المترهلة ومعها القوى السياسة المدجلة – مع خفوت روح الثورة والتغيير في العالم مع انهيار ثنائية القطبين- والتي تحولت إلى حارس لهذه الأنظمة ومشارك في عملية النصب على الإرادة الشعبية، وانهيار ثقة الشباب العربي في جدية وفاعلية العمل السياسي بطرقه وأساليبه التقليدية المتقادمة معبرا بذلك عن حداثته ومترجما قبل غيره من شباب العالم لوعي جديد بضرورة تغيير أساليب وقواعد العمل السياسي، وانهيار المجموعة الشيوعية، والثورات التي عرفتها بلدان أوروبا الشرقية، وحرب الخليج بمختلف فصولها، وأحداث الحادي عشر من تشرين 2011، وما تلا هاته من تهجّمات على واحد من مكونات الذات العربية، والحرب على غزة، والحرب على جنوب لبنان وما رافق كل الاعتداءات الإسرائيلية من مساس بكرامة وشرف الإنسان العربي، والثورة التكنولوجية، وارتفاع نسبة التمدرس، وسياق الأزمة العالمي....كلها عوامل فاعلة في الثورات التي تشهدها الساحة العربية.

2. بين إسقاط النظام وإصلاحه:

راوحت شعارات الثورات العربية بين حدّين يلخصهما الشعاران التاليان: "الشعب يريد إسقاط النظام" و " الشعب يريد إصلاح النظام ". شعاران متحاذيان على تعارضهما فالتحرك الشعبي قد يبدأ إصلاحيا لينتهي ثوريا. وكلمة نظام في الشعارين لا تحيل على أكثر من مؤسسة قمعية يوجّهها فرد أو مجموعة أفراد وتسهر على تنفيذ توجيهاتها شبكة من المرتزقة والمستفيدين من الواقع القائم. إسقاط أو إصلاح النظام ترجمة لمدى تفاقم المسألة الاجتماعية فخلف المطالبة بالإسقاط أو الإصلاح تطالعنا لائحة المطالب: عمل، سكن، صحة، تعليم..... مطالب تلخّصها شعارات الكرامة، العدالة، الحرية، والشفافية......

وعليه فيمكن القول أن المستقبل العربي القريب سيعرف تشكيلا من مجتمعات ثارت على أنظمتها لتقيم مقامها أنظمة "جديدة" وأخرى تزحزحت للتجبر أنظمة قديمة على الإصلاح. بلغة أخرى فان مستقبل الإرادة العربية المشتركة سيظل مرهونا بمدى تجانس الواقع العربي الجديد الذي سيتمخض عن حالة الغليان الراهن. هل سيشكل الارتجاج الراهن مقدمة لثورة شاملة تأتي على ما تبقى من الأنظمة القديمة في أفق صياغة واقع عربي جديد مؤسس على التنوع والاختلاف؟ طبيعة التنسيق والمشاورات بين الحركات الشبابية العربية الثائرة وتحت وقع وثقل وآنية الهم المحلي، لا تبدو مهتمة إلى هذا الحدّ بالإرادة العربية والواقع المشتركين. على عكس الملكيات العربية التي تبدو أكثر اهتماما بمستقبلها مستبقة الأحداث عبر الانفتاح على المجتمع المدني بتعجيل الإصلاحات السياسية والتنسيق مع القوى الاجتماعية والسياسية الحية أو ما تبقى منها وذلك لدرجة قادت هذه الملكيات إلى طرح تصورات جديدة للجغرافية العربية تجعل من المملكة المغربية دولة خليجية، وذلك قصد توحيد جهودها لدرء الخطر الثوري الذي أمسى يهددها.

3. وحدة المطالب الاجتماعية وتعدد التطلعات السياسية:

غلب الهمّان الاجتماعي والاقتصادي في الثورات العربية على أي همّ آخر مع العلم أن الهمين يتبطنان الهم السياسي. وهنا يكمن سر نجاح هذه الثورات وصدى شعبيتها الواسعة والسريعة لأنها رفعت مطالب يفهمها الجميع، وان كانت هي نفسها الشعارات التي ظلت ترفعها الأحزاب والنقابات إن وجدت، بصياغات سياسية وأيديولوجية عجزت عن النفوذ إلى الشرائح الاجتماعية المغلوب على أمرها.

وتأخير المطالب السياسية لصالح المطالب الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما أعطى للثورات زخما وأكسبها قاعدة اجتماعية عريضة بالقدر الذي أثار وعمّق التساؤل حول المولود السياسي الذي تحمله هذه الثورات.

ولعل في هذه الصياغة الاجتماعية الصريحة بل "النيئة" لمطالب الثورات العربية، بعيدا عن الشعارات السياسية المؤدلجة، ما يفسر ارتباك القوى السياسية العربية المتعبة وتأخرها في التموضع قبالة ما يجري وتحديد طريقة التعامل معه. لكن تغليب المطلب الاجتماعي الاقتصادي الموحّد لا يعني التخلي عن المطالب السياسية الصرفة والتي قد تعري بعض الخصوصيات والتمايزات التي في إثارتها خطر على الثورة ومدخل للانقسامات والصراعات. وهكذا وبمجرد الشروع في الحديث عن الدستور والانتخابات وتحقيق أهداف الثورة تبرز إلى السطح الصراعات والاختلافات المؤجلة : مثال الجدل الذي دار حول الهيئة الساهرة على تحقيق أهداف الثورة وتاريخ الانتخابات في تونس، والاعتصامات والمظاهرات التي عمت مصر منددة بالشكوك التي تشوب نوايا القيادة العسكرية المؤقتة.

كل هذا طبيعي بل وصحي في تاريخ كل ثورة مادامت روحها في مأمن من كل المؤامرات والدسائس، وفي اعتقادي أن الشارع وحده قادر على التصدي لهذه المؤامرات ومحاولات الوصاية داخليا وخارجيا، والسهر على توجيه مسيرة الثورة نحو إحقاق دولة تلبي مطالبه. وفي التحركات المتعاقبة للشارعين التونسي والمصري ما يدفع إلى التفاؤل بوعي الشعبين بضرورة التحلي بالحذر الدائم اتجاه ما تقوم به الحكومات المؤقتة . ولعل في هذه الاستفاقة خروج للشعوب العربية من دائرة الراعي والرعية والتواكل والتسليم بالأمر الواقع التي طالما طبعت علاقة المواطن العربي بمسؤوليه في أفق صياغة علاقة حيوية ومتفاعلة بين المواطن والمسؤول.

4. بين القطرية والقومية:

على تقاسم الأرضيات الاجتماعية والسياسية وما تعرفه من تناقضات، فان الثورة العربية التي انطلقت شرارتها من تونس وأثمرت في مصر ولا زالت مستمرة في اليمن وليبيا وسوريا، كشفت عن مدى تغلل الخصوصيات القطرية والمحلية. قطرية يترجمها التجاوب الخافت للشارع العربي مع ما يعيشه الشعبين السوري واليمني مثلا، ناهيك عن كون الريح الثورية لم تطل لحد الساعة إلا الأنظمة الرئاسية باستثناء بعض الارتجاجات التي عرفتها بعض الملكيات.

فإذا كانت الأنظمة العربية، إجمالا تتقاسم صفات الاستبداد والقمع والتسلط والفساد، فإنها من جهة أخرى قد نجحت في ترسيخ خصوصيات أقطارها وجعل شعوبها تحمل صفتي العربي والإسلامي كشعارين فارغين من أي دلالة.

واللافت للنظر هو أن الأنظمة التي جرفها تيار الثورة، حتى الآن، هي الأنظمة "الجمهورية العلمانية " وأن الأرضية التي اعتمدت من طرف الشعب من أجل زعزعتها هي أرضية دينية بشكل عام : اتخاذ المساجد كنقطة انطلاق للمسيرات والمظاهرات، تحديد يوم الجمعة كيوم للتجمع ومواصلة الثورة....هذا على عكس ما تشهده بعض الأنظمة التي تغلفت دائما بغلاف الدين كالمغرب مثلا حيث ستتخذ مجموعة 20 شباط من يوم الأحد كيوم لتنظيم مسيراتها المطالبة بمزيد من الإصلاحات السياسية والدستورية وتحجيم دور الملك.

وعلى اختلاف الاختيارات للأيام والأماكن على رمزيتها، فان لا أحد يستطيع أن يجادل في دور العامل الديني فيما يحدث اليوم في العالم العربي. قد نختلف في تفسير وتقييم هذا العامل وخلفياته وما سيترتب عن ذلك في مستقبل الربيع العربي، ولكن أركز هنا على تاريخية هذا العامل في التاريخ البعيد والقريب لهذه الشعوب. وللتذكير فان مركزية هذا العامل في الماضي، زمن المقاومة ضد المستعمر لم تنتج بالضرورة أنظمة تيوقراطية.

خلاصات أولية:

لا يمكن أن تساس وتحكم الشعوب العربية بنفس الطريقة ووفق نفس الأساليب السالفة، بعد الذي حدث في تونس ومصر ويجري في غيرها من الأقطار العربية. ولكن، عدا هذا المعطى، يبقى مستقبل المنطقة العربية محط أكثر من سؤال مصيري:

 إلى متى سيظل الشارع العربي، في جانب كبير منه، يترقب أخبار الثورات العربية، مكتوف الأيدي، ينتظر نتيجة الصراع الدائر بين قوى التغيير والأنظمة المتسلطة؟

 ما هي المشاريع السياسية والمجتمعية التي ستخرج من أحشاء هذه الثورات؟ وأية مكانة سيحظى فيها الفرد كقيمة إنسانية مجردة من كل الأصباغ والمعايير؟

 أية صياغة داخل هذه المشاريع المجتمعية والسياسية، للعلاقة بين ما هو روحي وديني بما هو سياسي؟

 أية صياغة لعلاقة الرجل والمرأة؟

 أي مشروع تربوي وعلمي لمجتمع ما بعد الثورة؟

 أي تصور للعمل القومي وبأية مؤسسات؟

 أي تصور للعمل من أجل القضايا المشتركة؟

 هل ستخرج الثورة الليبية من تناقضاتها الداخلية لتجد مكانتها في تاريخ الربيع العربي؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى