الثلاثاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
محمود درويش
بقلم عادل الأسطة

تخليص الشعر مما ليس شعراً

حين يقارن المرءُ الصيغة الأولى لقصيدة محمود درويش "نشيد إلى الأخضر" التي ظهرت، ابتداءً في مجموعة "أعراس" (1977) بصياغتها التي ظهرت في طبعات المجموعة نفسها اللاحقة، مثل طبعة "دار العودة" الخامسة الصادرة عام 1993 أو طبعة "الأعمال الكاملة" الصادرة عام 1996 (4)، يلحظ المرءُ خلو القصيدة من الأسطر الشعرية التالية:

"وأنا أكتب شعراً، أي: أموت الآن، فلتذهب أصول الشعر ليتضح الخنجر ولينكشف الرمز: الجماهير هي الطائر والأنظمة الآن تسمّى قتلة".

وإذا ما اعتمد المرءُ على المقابلات التي أجريت مع الشاعر لإيجاد تفسير لهذا الحذف، فإنه يكرر مقولة الشاعر التي وردت في المقابلة التي أجراها معه عباس بيضون، وكانت نشرت في العدد الثالث من مجلة "مشارف" الصادرة في حيفا في تشرين الأول من عام 1995، وفيها يقول درويش: "ليس للشاعر أن يقدم برامج سياسية للقارئ". وهذا التمييز يسمح لي باعادة النظر في قصائد كتبتها وقصائد أكتبها الآن. بإعدام قصائد كاملة بحثاً عما أسميه الخلاص الجمالي من الأزمة التاريخية المعاصرة (ص 92).

وليست هذه هي المرة الأولى التي يقول فيها درويش هذا، فلقد كتب، من قبل، مقدمةً لأعماله الكاملة الصادرة عام 1987 عن دار العودة، أتى فيها على ظاهرة الحذف في أشعاره، ومما ذهب إليه: "لا أخجل من طفولتي الشعرية، ولكن الطفولة شيء، والمراهقة شيء آخر، وهذا هو المبرر الوحيد لإقدامي على قطع بعض أجزاء من جسدي الشعري…" ( كل شاعر يرتكب الكثير من الحماقات) (ص 8).

ويتضح أن درويش أخذ في فترة لاحقة يخلص الشعر مما ليس شعراً، لأنه لا يريد أن يقدم برامج سياسية للقارئ. فيم كان، من قبل، يقتطع أجزاء من جسده الشعري لأنه رأى فيها حماقات، وليس بالضرورة أن تكون الحماقات حماقات سياسية، فقد تكون أيضاً حماقات شعرية. ومن يطلع على الأشعار التي حذفها درويش يدرك أن الحذف لم يكن دائماً ذا أسباب سياسية. لقد كان تخليه عن مجموعته الأولى "عصافير بلا أجنحة" (1960) يعود لأسباب فنية جمالية، فيما حذف أكثر قصائد "أوراق الزيتون" (1964) لأسباب جمالية وعقيدية سياسية، وأخذ في فترة لاحقة يتخلص من القصائد التي يكون فيها للشعار السياسي حضور بارز، وهذا ما يقوله هو مراراً، وما قاله بوضوح في المقابلة التي أجراها معه عباس بيضون:

"لم أدرج عابرون في كلام عابر في مجموعة شعرية لحرصي كما قلت دائماً على تخليص الشعر مما ليس شعراً. أعني مما ليس في صلب العملية الشعرية. وتمييز النص الشعري مما يرسم له من وظائف اجتماعية، أي تخليص الشعر من السياسة المباشرة، دون أن ننسى أن ليس في الوسع قراءة نصي الشعري، بشكل عام، من دون الرجوع إلى مستوى سياسي، فهو مستوى أدافع عنه ولا أعتذر عنه".

وكلام درويش هذا صحيح وغير صحيح. صحيح حين يقرأ "عابرون في كلام عابر" معزولة عن بقية شعره، وحين ينظر أيضاً في الأسطر الشعرية المقتبسة في بداية هذه المقالة، وغير صحيح حين يمعن المرءُ النظر في الأعمال الكاملة التي أشرف الشاعر على طباعتها، وصدرت في طبعاتها الأخيرة، ومن يقارن "عابرون في كلام عابر" والأسطر المحذوفة من "نشيد إلى الأخضر" بقصيدتي "بيروت" (1980) "ومديح الظل العالي" (82/1983) يلحظ أن المستوى السياسي في الأخيرتين ذو حضور لافت للنظر، حضور يفوق الحضور السياسي في "عابرون في كلام عابر" والحضور السياسي في الأسطر الوارد اقتباسها. فهل تخليص الشعر مما ليس شعراً هو الدافع إلى حذف "عابرون…" والأسطر الثلاثة؟ ولماذا حذف الشاعر هذه الأسطر ولم يدرج "عابرون…" في أعماله الكاملة، علماً بأنه أدرجها في كتاب نثري واختار عنوانها عنواناً له؟ ذلك هو السؤال الذي يثار، ويقدم درويش، باستمرار، إجابات توضح سبب عدم إدراجه نصه في أعماله الكاملة، وسبب كتابته هذه القصيدة وآخر الإجابات تلك التي وردت في المقابلة التي اجراها معه (يعقوب بيتسر) والشاعر حمزة غنايم، وفيها يقول درويش:

"هذه القصيدة لم تكتب كقصيدة. هي قصيدة كتبت بدافع من الغضب اللامحدود. عندما شاهدت في التلفزيون الفرنسي كيف يقوم جنود اسرائيليون بتحطيم عظام فتية فلسطينيين بالحجارة. هذه أشهر صورة في العالم، وهي ترمز إلى ما نتعرض له من قمع. كتبت ذلك النص كاحتجاج، كما لو كانت حجراً، لكنها لم توجه ضد اليهود الإسرائيليين، إنها ضد المحتلين. هذه قصيدة انتفاضة، وهي لا تعكس صوتي الخاص، بل هي الصوت الجماعي لشعب غاضب ومقاوم للاحتلال، ومن الطبيعي أن يطالب المحتل بالإنصراف". (مجلة الشعراء، عدد 8، ربيع 2000، ص 292).

ولا أريد أن أناقش خطورة هذا الكلام الذي لا يعد درويش فيه نفسه فلسطينياً، قدر ما أريد أن أشير إلى أنه كتب قصيدة "بيروت" وقصيدة "مديح الظل العالي" في ظروف مشابهة. كانت بيروت تدمر، وكانت الطائرات الإسرائيلية تقصفها بالقنابل الفراغية، وكان هذا أيضاً أمام عدسات التصوير، فلماذا إذن لم يحذف هذه من أعماله الكاملة؟ أعني "مديح الظل العالي" التي عاد وأضاف إلى عنوانها الرئيس عنواناً فرعياً هو "قصيدة تسجيلية"، ولماذا لم يدرج "عابرون…" ويكتب أمامها "قصيدة انتفاضة" وهذا ما أشار اليه في المقابلة المقتبس نصٌ منها قبل أسطر؟

قراءة القصيدة:

من حق درويش أن يغيّر ويبدل في بناء قصيدته، وهو حين يفعل ذلك إنما يتبع سنة سنّها الشعراء العرب الأقدمون منذ الجاهلية، وقد أشار إلى ذلك أحد الشعراء القدامى حين قال:

نُثِّقفها حتى تلين متونُها

فيقصر عنها كل ما يُتَمثَّل

ومن حق الدارس أن يتوقف أمام هذه الظاهرة. ومن حق هذا أيضاً أن يثمن موقف الشاعر الذي لا ينكر ما يقدم عليه. ودرويش، حين يفعل هذا، إنما يمكننا من تطبيق مناهج نقدية أخرى إضافية لم يطبقها الذين درسوا أشعاره، وأعني هنا تطبيق المنهج التكويني الذي يدرس النص في مراحله العديدة، منذ مرحلة تشكله في ذهن صاحبه حتى صيغته النهائية التي ارتضاها الشاعر، وقد يفيد هذا في دراسة البنية الأولى والنهائية للنص، والفقرات المحذوفة وأسباب حذفها، وحالة الشاعر النفسية في أثناء الصياغة الأولى وحالته النفسية في أثناء الصياغة النهائية، ولغة الشاعر والتطور الذي طرأ عليها، وبخاصة حين يكتب نصه بعد سنوات، ومواقف الشاعر الفكرية وما ألم بها من تغيرات.

في كتابه "معايشة النمرة وأوراق أخرى" يأتي جبرا ابراهيم جبرا على رسائل الأدباء وضرورة الاهتمام بها، ويرى أن دراستها مهمة جداً، ويبدي بعض الأسباب لذلك، ومما يورده "يكتب الأديب رسائله مدفوعاً بحماسات اللحظة الآنية، أو حاجاتها، أو ضروراتها، دون أن يفكر بأن ما يكتبه لصديق أو قريب أو حبيب سيجد طريقه يوماً إلى النشر. أي أن معظم ما يكتبه الأديب من رسائل يحمل النبرة الشخصية الآنية، ونحن كقراء ودارسين فيما بعد نجد في هذه الأكتوبات الذاتية، وا لتي قد تكون في الأكثر عجالات لم يعطها صاحبها الكثير من التأني والروية، قيمة عامة بما تتكشف عنه من إشارات ومفاتيح ودقائق تساعدنا على المزيد من فهم الفترة التي عاشها الأديب، وفهم الوشائج الخفية وغير المنطوقة بين يوميات حياته وتفاصيل إبداعاته" (ص 215).

والعبارة المهمة هي تلك الناصة: "أي أن معظم ما يكتبه الأديب من رسائل يحمل النبرة الشخصية الآنية"، وهي عبارة يمكن أن نفيد منها ونحن نقف أمام ظاهرة الصيغ العديدة للنص الدرويشي، وهنا تحديداً نص "نشيد إلى الأخضر" إن الصيغة الأولى، الصيغة التي وردت فيها الأسطر الثلاثة التي حذفت فيما بعد، هي صيغة ذات نبرة آنية. لقد كتب الشاعر قصيدته عن حدث عاشه لحظة كتابته، وكان شاهداً عليه. لقد تطابق الزمنان الكتابي والشعري- أقصد هنا الزمن المكتوب عنه في النص- أي زمن الأحداث- وقد أشار الشاعر إلى هذا، حيث أن زمن كتابة الشعر كان يتزامن وزمن الموت والدمار "وأنا أكتب شعراً: أي أموت الآن"، فيم أعاد النظر في القصيدة في زمن آخر، زمن كان يسمح له بإعادة النظر في النص بتمعن وتأمل وروية، زمن لا حضور للموت فيه، زمن يمكنه من تخليص الشعر من السياسة حيث لا تطغى هذه عليه، وهي لا تشعره بأنه قد يموت، الآن، بانفجار أو قذيفة. وهنا لا يتزامن زمن الكتابة والزمن الشعري انتهى الثاني ومرّ دون أن يموت الشاعر موتاً بيولوجياً، وإن كان مات موتاً نفسياً في حينه. لقد حل محل الزمن الكتابي وما كان يجري فيه زمن آخر يمكن الشاعر من التفكير بشيء آخر غير الموت، زمن يمكنه من التفكير بالجمال، وهكذا حذف الشاعر أسطره.

وليس هناك من شك في أننا ونحن ندرس القصيدة نأخذ بالحسبان الزمنين، زمن الكتابة الأولى وزمن اعادة الصياغة، وهذا يجعلنا نخوض في تفاصيل عديدة.

شهد زمن الكتابة الأولى الحرب الأهلية في لبنان، وكان الشاعر هناك، في بيروت، قريباً من الفدائي الذي يقاتل، وكانت الأنظمة العربية صامتة على ما يجري. أما الشاعر الذي لم يكن يحمل السلاح، ولم يكن قادراً على إيقاف المجازر، فلم يقوَ إلا على كتابة الشعر، وإنجاز هذا أمام الفعل النضالي ليس إلا ضرباً من الموت النفسي. ولأن الفدائي إنسان بسيط، وقد تكون ثقافته محدودة، فليس أمام الشاعر إلا أن يكتب شعراً واضحاً يقول فيه الحقيقة علّ الفدائي بترداده يواصل الدفاع والمقاومة، وهذا ما لا ينجزه الشعر الرمزي، ومن هنا صرخ الشاعر: فلتذهب أصول الشعر ولينكشف الرمز. ولم يكن أمام الشاعر في حينه، وهو في بيروت، إلا الانحياز للثورة وقول الحقيقة كما تبدت له. ولم يكن الزمن الذي أعاد الشاعر فيه النظر في القصيدة مشابهاً للزمن الأول، ولم يكن في حالة مواجهة ساخنة تدفعه إلى قول ما قال يوم كانت الثورة تحاصر وبيروت تدمر ومخيم تل الزعتر يباد أمام سمع الدنيا وبصرها.

ولأن المرء لا يعرف بالضبط متى أجرى الشاعر التغيير، ومتى حذف الأسطر، فإن المرء لا يستطيع أن يتمادى في تفسيره ويتهم الشاعر بأنه مالأ النظام العربي وهادنه حتى يسمح له هذا النظام بالدخول إلى بلده. ولأن المرء لا يعرف أيضاً ان كانت أشعار الشاعر تخضع للرقابة وتمنع من دخول هذا القطر العربي أو ذاك لعبارات كهذه، فإن المرء لا يستطيع أن يتهم الشاعر أو الناشر بالنفعية، وأنهما إنما أقدما على ما أقدما عليه حتى يسمح بتسويق الديوان في الأقطار العربية. وكتب درويش عموماً تحفل بعبارات تهاجم النظام العربي، عبارات أقسى من هذه المحذوفة وأشد وقعاً. ومع ذلك يبقى السؤال قائماً: لماذا أقدم الشاعر على حذف هذا المقطع؟ ألأنه أراد أن يخلص الشعر مما ليس شعراً؟ إن قال المرء نعم، فقصائد درويش التي اختارها لتشكل أعماله الكاملة ما زالت تحفل بعبارات مثل هذه!!

فيما أنجزته من دراسات عن الشاعر حول ظاهرة الحذف والتغيير، في السنوات السبع الأخيرة، توقف أمام هذه الظاهرة، توقف فيه قدر من المساءلة، ومع ذلك فإنني أعتقد أنني لم أقل كل شيء، وان كان ما كتبته يشكل أساساً مهماً للخوض في هذا الشأن، ولعل دارسين آخرين يكملون ما يرونه نقصاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى