الأحد ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
فى رواية (حكاية حب) لغازى القصيبى
بقلم صلاح السروي

تداخل الحدث.. تداخل الرؤى

يرتكز الحدث فى رواية (حكاية حب) للكاتب غازى القصيبى على الصراع والتجادل بين قطبين رئيسيين: أولهما الموت المنتظر ليعقوب العريان، بطل الرواية. وثانيهما وقائع علاقة الحب المستدعاة فى مخيلة هذا البطل، وهى علاقة سبقت مرضه المميت، الذى بقى محتفظا طول الوقت ببؤرة المشهد السردى.

وفى الحقيقة فان كلا القطبين يحل بذات القدر من الأهمية فى صنع الحالة الحدثية وتطويرها وحفز آلياتها السردية، بل انها تقوم بهما معا فى اطار من علاقة جدلية متشابكة ومتصارعة فى ذات الآن. ففى الوقت الذى ينتظر يعقوب العريان فيه الموت مقيما فى مصحة، مهمتها جعل الموت هادئا وغير مؤلم على من هم يعانون من أمراض غير قابلة للشفاء،فى هذا الوقت بالتحديد يأخذ فى استدعاء مشاهد حبه المستحيل ذاك. حيث تتقاطع هذه المشاهد مع المشاهد التى تتم خلال الزمن الروائى المعاش، بحيث تمثلان معا ضفيرة حدثية متماسكة، تتصاعد بشكل متزامن، وكلما أوغلنا فى تداعيات الحالة المرضية كلما تكشفت لنا تطورات وتحولات هذا العلاقة.

وهى علاقة مستحيلة لأن المرأة المعشوقة ليست خالصة له، فهى متزوجة من آخر. ومن الواضح أن هذا الآخر يحبها،ربما بذات القدر الذى يكنه لها يعقوب أن لم يكن أكثر. نعرف ذلك من خلال اخبار الزوج ليعقوب بأن روضة (وهو اسم المرأة التى يقع فى حبها يعقوب.. وللاسم دلالة سوف أتوقف عندها بعد حين) فى المستشفى تضع مولودتها الاولى، واذا كنا نعرف على وجه اليقين أن هذه الطفلة (هديل) هى ابنة هذا الرجل قد جاءت من صلبه، الا أننا لا نكاد نعرف النسب الحقيقى من ناحية الأب للطفلة الجديدة التى ولدت بعد قيام علاقة روضة بيعقوب، هل أبوها هو الزوج الرسمى أم أنه يعقوب نفسه؟ فعندما يذهب يعقوب للطبيب ليقوم بتحليل دمه ليقارن الحامض النووى الخاص به مع ذلك الخاص بالطفلة ليتأكد من نسبها له يعرف، بشكل عرضى تماما، بحقيقة مرضه المستعصى ذاك، وكأن هناك ارتباطا شرطيا بين اليقين والموت. وهنا يقرر تمزيق التقرير الطبى الذى يحتوى على اثبات النسب.

وهى أيضا علاقة ذات طابع طيفى أثيرى، علاقة غير اعتيادية ولا واقعية، فلقد التقيا فى متجر تديره المرأة حيث وقع فى حبها من أول نظرة. ومنذ ذلك الحين وهو لايستطيع من حبها فكاكا، وعندما طلبت منه المرأة أن يلتقيا فى (دار السرور) التى قرات عنها فى احدى الروايات التى كتبها يعقوب، يخبرها بأنها مجرد دار متخيلة على الورق ليس أكثر، وهنا تأخذه إلى (دارسرور) أخرى تخصها هى.."آسفة يارجل، سوف آخذك معى إلى دار سرورى أنا" (الرواية ص37) انها دارها هى التى زعمت وجودها بديلا عن الدار المتخيلة. فاللقاء بينهما وان أوحت الرواية أنه يتم على نحو حقيقى، الا أنه يحمل أبعادا أقرب إلى الخيال والحلم، أبعادا غير متعينة على وجه اليقين، فدائما ما يكون لقاؤهما فى أماكن نائية بعيدة، كأن... "يجلسان على طاولة منفردة، فى المطعم الصغير النائى المختفى بين صخور الشاطىء" (الرواية - دار الساقى - بيروت - ط5 - 2007- ص34). أو أن يكون فى كوخ عجائبى غريب، يبدو مظهره من الخارج بسيطا الا أنه ما أن ينفتح حتى ينجلى عن عوالم أقرب إلى الحلم والخيال.. "تفتح الباب، وتأخذه معها إلى الداخل، يجتازان البهو الصغير، والصالون الصغير، وتفتح الباب المؤدى إلى الشرفة الصغيرة. يعبران الشرفة، ويجد نفسه معها، فجأة، يسيران على شاطىء مهجور، يدا بيد، والبدر يطل عليهما، والساعة تقترب من منتصف الليل ". (الرواية ص37)

إنه عالم ذو طبيعة رومانتيكية واضحة تجمع عناصر حالمة تكاد تمثل جوا مثاليا للحب، فرغم احتمالية مفردة شاطىء البحر,الموحى بالغموض واللانهاية ومفردة ضوء القمر، الموحى بالعاطفية والتوهج الوجدانى العارم، الا أن اجتماعهما معا إلى جانب تحديد الوقت الذى هو منتصف الليل، وهو وقت السحر، والذى يمثل الساعة الأنسب للأحلام الستغرقة، ليوحى بالدلالة الأبعد للحالة، فهى ليست حالة واقعية بأى ية صورة، انها رؤيا تشكلها هذه الانتقالة التى تستمد غرائبيتها من هذا الانتقال المفاجىء وغير المبرر، وغير المنطقى. ولعل هذا، بالتحديد ما يجعل فهمنا وتعاطينا مع الرواية يأخذ منحى آخر، سينجلى توا.

والمرأة (روضة..وللاسم دلالة سأقف عندها بعد حين) فى علاقتها بيعقوب تشترط عليه ألا يأتى على ذكر زوجها بأى قول من أى نوع،كما أنها لاتذكره فى حديثها بأى شكل من الأشكال.ولنلاحظ هذا الحوار:

 لا أود أن نتحدث عنه أبدا، أبدا (تقصد الزوج) عندما أكون معك لاأود أن...
 حسنا حسنا، فهمت، لن
 أريد وعدا قاطعا.
 أعدك وعدا قاطعا
 شكرا (الرواية - ص34)

ولولا معرفتنا بهذا الزوج فى بداية العمل، لما عرفنا عنه شيئا. حيث نلاحظ هنا تشديدا واضحا وجليا على عدم ذكر هذا الزوج،على نحو يثير التساؤل. يتمثل ذلك فى تكرار كلمة (لاأود) مرتين، وكذلك كلمة (أبدا) مرتين، وكذلك عبارة (أريد وعدا قاطعا). فلماذا هذا التشديد على عدم ذكر الزوج؟ وما التبرير الأخلاقى الذى يمكن أن تسوقه الرواية لصنيع المرأة التى تساير رجلا غير زوجها على هذا النحو الحميم. والأمر، بالطبع ينطبق غلى الرجل (يعقوب)، وان بدرجة أقل؟ وكيف يمكن أن نفهم امتناعها عن اخبار يعقوب بحقيقة نسب البنت التى ولدتها أثناء علاقتها به؟ خاصة عندما يتبدى انفعاله الشديد الذى يكاد يعصف به ويزلزل كيانه، هذا الانفعال الذى تبرزه الرواية على أقوى صورة:

- قلت انى حامل.

هل كان للنبأ أثر الصاعقة؟ لا، الصاعقة تحرق الضحية وينتهى الأمر. كان للنبأ أثر الزلزال الذى يضرب ويستمر يضرب. يسلمه من عاطفة إلى عاطفة بلا رحمة. من الزهو إلى الخوف إلى القلق إلى الغضب إلى السغادة إلى الشفقة إلى الحب إلى الفضول إلى الحنان إلى الحيرة. يحاول أن يتكلم، ولا يستطيع. تواصل النظر اليه، مبتسمة، والمشاعر المتناقضة تعصف به وتهزه من الجذور. بصعوبة بالغة يقول: - روضة، من..؟ (...)
روضة، هل أنا؟

يجىء صوتها قاطعا كالسيف:

 وعدت، وعدت وعدا قاطعا،

يهمس بصوت متحشرج:

 ولكنى لا أتحدث..لا..لا أتحدث عنه.. انا فقط.. أنا أريد..

يهوى السيف مرة أخرى:

- أنت تعرف، تماما إلى أين يقود هذا الحدبث. لا تسأل هذا السؤال مرة ثانية اذا كنت نتريد أن ترانى . (الرواية - ص67)

ان هذه القطعية والحدة الباترة لا تتناسب اطلاقا مع وعى وسلوك امرأة شرقية،. كما أنها غير مفهومة الا فى اطار ملاحظة عبارة (لاتسأل) التى تحيلنا إلى الى عالم الحكاية الشعبية المبنية على الأحاجى، والفاكهة المحرمة، والأسئلة الممنوعة. ونلاحظ أيضا أن الرواية قد تضمنت عددا من الاشارات إلى حكايات ذات طابع شعبى واضح، كحكاية الزير سالم والأميرة فيروز وابيها الملك ألماس..الخ (أنظر ص80 وما بعدها). وهنا نستطيع القول أن الخطاب الروائى قد خرج تماما عن المسار التقليدى الحكائى بالمعنى الواقعى الذى تعنى فيه العناصر ماتشير اليه بصورة مباشرة. اننا هنا بازاء عالم كامل من الرموز والايحاءات التى تشير إلى ما وراءها. فالمرأة هنا ليست مجرد امرأة، بل معنى، ورمزا، وقيمة، سواء من حيث دلالة الاسم الذى تفصح الرواية عنه بوضوح لا يقبل اللبث، عندما نقرأ قول يغقوب العريان وهو يجيب عن معنى اسم روضة قائلا:
"- حبيبتى. الاسم يعنى حديقة باللغة العربية " (الرواية ص65)

فهل نحن بازاء ايحاء، بشكل ما إلى الجنة التى علينا أن نخرج منها نتيجة ضعفنا الأخلاقى، كما فى الحكاية الدينية؟ أم أن الحديقة (الجنة) هنا تحيل إلى الحياة بنعيمها وجمالها الأخاذ الذى يمنح نفسه لكل الأحياء دون استثناء، ومن يصبح أبناؤنا الذين قدموا منها ليسوا بأبنائنا، انما هم أبناء الحياة، فلا ينبغى أن ندعى امتلاكنا لهم، بل نحن وهم صنائع لفاعل واحد، هو الحياة نفسها، تلك التى نشتهيها، وهى تعطينا بقدر ما تريد هى، وحسب قانونها الخاص، لا بحسب رغباتنا ومطالبنا منها. هنا يأتى قول جبران الذى أوردته الرواية فى ثنايا حوار يعقوب وروضة:

 (ماذا قال جبران يارجل؟

 قال أشياء كثيرة.
 ماذا قال عن الأولاد؟
 (أولادكم ليسوا أولادكم. انهم أبناء الحياة، وبناتها. الحياة التى تشتاق إلى نفسها). لاأذكر البقية
 (انهم يجيئون عبركم، ولكنهم لا يجيئون منكم. ومع أنهم معكم الا أنكم لاتملكونهم)..(الرواية ص110). ها هو الكاتب يمنحنا شفرته ومفاتيح عمله المتعدد الطبقات، فالمرأة هنا هى الحياة، والطفلة التى جاءت منها (زينب، كما فضل يعقوب أن يسميها على اسم والدته) ليست، ولا ينبغى لها أن تكون ابنته، وفى هذا مايفسر سر عدم البوح بنسبها وعدم الحديث عن زوجها وسر منحها نفسها له وهو ليس زوجها.ان روضة هنا هى المرأة - الدنيا، الوجود الخالق - المانح للحياة والبقاء. ولعل ذلك يتسق مع اصراها على أن تنادى بعقوب ب (يارجل) لاب (يا حبيبى)،،عندما يسألها يعقوب عن سر هذا النداء تقول:

"يارجل، يا رجل أنا أسرق هذه اللحظات من الزمن، أغافل القدر، أتظاهر أننا فى حالة عادية من الحالات البشرية (...)فى اللحظة الت يكتشف القدر فيها أننا فى حالة سعادة، فى حالة حب، فى اللحظة ذاتها، سوف يسرقك منى، أو يسرقنى منك." (الرواية ص46)

اذن فالمرأة هنا هى الحياة التى ينبغى أن تكون عادية غير مغالية وغير متجاوزة لحدود بعينها حتى لا تصل إلى الكمال الذى لابد أن ينبىء بالنقصان والزوال. انها الحياة التى ينبغى أن نحياها كما هى، لا كما نتمناها. فهى تعرفنا كما نحن، وعلينا أن نعرفها كما هى، لا كما نتمناها. ولعلنا نفطن إلى أن(ام روضة) تتعامل معه, بعد أن يتعارفا عن طريق (روضة)، وكأنها تعرفه منذ سنين، تقول الرواية:

بدأت تعامله كما لو كان جارها فى الحى منذ سنين: "أهلا أبو يوسف ". وأحس هو أنه يعرفها طيلة حياته: "أهلا أم روضة ". لا أسئلة ولا أجوبة ". (الرواية ص46).حتى أن روضة تتهيأله فى نهاية الرواية وفى لحظات احتضاره فى صورة زوجته المتوفاة منذ زمن بعيد، بما يجعل من روضة كيانا كلى الحضور، سابغ الدلالة.

ان هذا الاحساس التلقائى بالمعرفة القديمة، شريطة عدم الالحاف وعدم السؤال، حسب منطق الرواية - الأسطورة،هو ما يؤكد ما ذهبت اليه من المعانى والدلالات التى يوحى بها نموذج المرأة - الحياة فى هذه الرواية. وسنلاحظ أن نهاية يعقوب سوف تحين فى اللحظة التى يحاول فيها معرفة نسب (زينب) البنت التى ولدتها روضة بعد علاقتهما، وهو ما يعنى أنه قد خان العهد الذى قطعه على نفسه بعدم السؤال، منكرا - وان على نحو ضمنى - واجبه الذى يقضى بأن يقبل الحياة كما هى، وأن يأخذ منها ما تقبل هى أن تعطيه، لا مايريد هو.

ولعل الرواية بذلك تلعب على ذات التيمة التى قدمها نجيب محفوظ فى قصة "أهل الهوى" من مجموعة " رأيت فيما يرى النائم "، (مكتبة مصر- القاهرة- ط3 - 1987) حيث تحتل مكان روضة هنا شخصية (نعمة الله) هناك ويمثل الرجل هنا شخصية (عبدالله) هناك. حيث عالم نعمة الله المرأة القوية الآمرة الناهية، التى تصطفى من الرجال القوى المتين المتعلم الأفندى عبدالله حتى اذا وهن لفظته لتختار آخر يفوقه قوة وبهاء. وكما دخل عبدالله عالمها مهيضا قادما من المجهول، يخرج منه طريدا شريدا إلى اللا معلوم من الوجهة والغاية. وتصبح الحارة عند نجيب محفوظ هى العالم الذى نجهل ما هو دونه من عوالم.

ان وجه العلاقة بين العملين يكمن فى طبيعة المرأة - الحياة، المتكبرة المتجبرة فى كل منهما (الروض والنعيم) وفى طبيعة الرجل - الإنسان المهيض الفانى، الذى لايمكنه الا أن يأخذ ما يمنح اليه.
غير أن الاختلاف هنا يتجلى، فى أن حكاية حب - إلى جانب ذلك - تقدم رؤية لعالم كامل يمتد بين الشرق والغرب، يمور بالنماذج البشرية المتنوعة، مابين الممرضات الأمريكيات الشبقات وعالمة النفس التى تتسم بالواقعية والايمان بالحياة والقس المسيحى الناقم على كنيسته ورجل الأعمال الذى يواصل الاهتمام بالبورصة رغم كوارثه الحياتية، سواء مع أبنائه، أو فى صحته التى تنتهى فى كل لحظة فى انتظار الموت.

وعلى ضفاف هذين القطبين، السابق الاشارة اليهما فى بداية هذه الورقة - الموت والحياة - تترى عناصر أخرى، تمثل آراء سياسية،كالموقف من الديكتاتورية والموقف من أمريكا، وأخرى فى الدين والحياة والحب والثقافة.. الخ. واشارات إلى مقاطع من شعر جبران وقصة ليوسف ادريس وملحمة جلجاميش وأغنية لطلال مداح تتحدث عن علاقة حب اسطورية.. الخ،وهو مايطبع الرواية بطابع تأملى واضح، ويجعلها بمثابة شهادة فكرية ورؤيوية تطرح قضايا كبرى تتصل بقضايا الوجود الإنسانى، على نحو مباشر.

لقد جاء المكان فى الرواية موحيا بالحالة البرزخية التى ليست أكثر من محطة عبور، فهى المصحة التى ينتظر جميع نزلائها الانتقال إلى عالم آخر. وهى وان بدت أنها تقع فى امريكا أو احدى البلاد الأوربية الا أنها بدت إنسانية جدا، بل تكاد تشبه سفينة نوح التى تجمع أخلاطا من الناس الذين عليهم أن يرسوا فى مكان آخر بعد حين.

كذلك جاء الزمان متداخلا ومبنيا على المراوحة بين الماضى والحاضر فى حركة دؤوب لاتتوقف، وهو ماساهم جميعه فى تأكيد حالة انعدام الوزن والانتظار واللا استقرار التى تكتنف جميع شخوص الرواية.

كما جاءت هذه الشخوص فى اهاب الكائنات البائسة المسكينة المستحقة للشفقة والتعاطف رغم التباين الحاد بين طبيعة كل منهم عن الآخر. لقد جاؤا أشبه بأبطال التراجيديات اليونانية القديمة الذين أصابتهم لعنة الخطيئة المسلطة عليهم من قدر لايرحم، فكتبت عليهم المعاناة وانتظار القضاء المحتم.

كما جاء البناء مركبا غاية التركيب فتم استخدام تقنية (الرواية داخل الرواية) وتضمين نصوص من عيون الأدب العربى والتناص مع عناصر ثقافية متعددة، سبق ايرادها. لتتضافر كل هذه العناصر مخرجة لنا عملا أدبيا كثيفا قادرا على النفاذ من أن يكون مجرد حكاية حب، ليصبح حكاية وجود ومصير إنسانى كامل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى