الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
نوال السعداوى و" الرواية" الممنوعة..
بقلم أمل الجمل

تكشف فساد السلطة المختبيء تحت حجاب الشرع

تتنبأ الكاتبة د/ نوال السعداوي في أحدث أعمالها الروائية "الرواية" بمصادرتها وتبدأها بجملة "أحدثت الرواية غضباً عارماً" .. وبالفعل يُصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أمراً بمصادرة "الرواية" في نهاية فبراير 2005 وذلك رغم أنها صادرة عن دار الهلال منذ أكتوبر 2004 طبعة أولي ثم طبعة ثانية عن دار الآداب ببيروت. لكن فيما يبدو أن طبعة دار الهلال لم تُمكن المتربصين بالسعداوي من النيل منها نظراً لأن دار الهلال حذفت كل ما يتعلق بالسلطة الحاكمة وتعرية فسادها مما أخل بالمعاني الأدبية في كثير من الأحيان. لكن الطبعة البيروتية لم تحذف كلمة واحدة مما كتبته الروائية.

تختلف "الرواية" فى الأسلوب الفنى عن الأعمال السابقة للكاتبة, هى رواية درامية تشكيلية من نوع خاص, لا تعتمد على التسلسل المنطقى أو التدفق الطبيعى لأنها لا تقوم على الأحداث بقدر ما تتكىء على تيار الشعور أى على الأفكار التى تطوف برأس الأبطال , تهتم بالوصف والحركة الخارجية للأماكن والشخصيات , تعتمد على التحليل والغوص فى أعماق النفس البشرية , الى جانب التميز الواضح للبناء الفنى فى هذه الرواية والذى ربما كان من أنضج أعمال الكاتبة فنيا .. ظهرت شخصياتها النسائية تحمل بعضا من الضعف الانسانى الذى لا تخلو منه الحياه .

كسر المألوف

الرواية خالية من الأحداث العظيمة بالمعنى المعتاد ـ الحرب فى العراق والمذابح فى فلسطين, المظاهرات الشعبية فى بلاد العالم, حركات المقاومة ضد الحرب وضد الفقر والعولمة ـ هى رواية غارقة فى حياة ومشاعر أفراد يبحثون عن الحب المستحيل, والحياة الكريمة. لكن الكاتبة استطاعت الاحتفاظ بالقارىء حتى السطور الأخيرة من الرواية عن طريق حبكة محكمة الصنع, فالمؤلفة تستحضر أبطال روايتها داخل رواية احدى البطلات ـ هى فتاة شابة فاقدة الهوية ـ ويتحقق كسر مفهوم وحدة الشخصية, ويلتبس على القارىء تحديد الشخصية هل هى الشخصية الحقيقية ـ فى رواية المؤلفة ـ أم أنها شخصية من رواية البطلة الشابة, أم من رواية كاتبة ثالثة هى كارمن احدى بطلات الرواية, ويصيب القارىء عدم اليقين تجاه بعض أحداث وشخوص الرواية, مثلما هو الحال فى كثير من أمور الحياة التى لا نصل الى حقيقتها, لا تكتفى الكاتبة بالشك على مستوى الشخصيات ولكنها تتجاوزه الى خلط الأزمنة والأمكنة مما يؤدى الى توليد دلالة عامة بالخلط والفوضى .

البطلة المجهولة

بطلة الرواية هى الآخرى جديدة من نوعها, هى فتاة فى الثالثة والعشرين من عمرها, مجهولة الأب, ليس لها أسرة ولا شهادة, ولا بطاقة مختومة.. فتاة لم تقرأ قصص الأنبياء, ولا الشعراء ولا الأدباء, لكنها تكتب روايتها الأولى .. فتاة قوامها ممشوق من طول المشى سعيا وراء الرزق, عمودها الفقرى صلب, تقاطيعها بارزة حادة من شدة النحافة, منحوتة فى عظام قوية كالصخرة.

شخصيات "الرواية" الرئيسية هى :

1ـ كارمن : عاشقة لكتابة الرواية, لم تجد فى زوجها رستم مواصفات فتى أحلامها, فانشغلت عنه بالبحث عن رجل آخر لا تكاد تعرفه, رجل يسكن فقط خيالها الروائى .

2ـ رستم : كاتب روائى فى منتصف الخمسين من عمره, يعمل بمؤسسة صحفية كبرى, أحد أعضاء مجلس الشعب, علاقاته النسائية متعددة.

3ـ سميح : صاحب دار نشر ورثها عن أبيه, تفرغ لها وجعلها مركز اشعاع للأدب والفن, وتخلى عن حلمه فى أن يكون روائى .

4ـ جمالات : صحفية متوسطة العمر, فى الستينيات كانت اشتراكية ثم أصبحت من الداعين الى الانفتاح والاسلام, تجمع فى شخصيتها كثيرا من التناقضات.

5ـ مريم الشاعرة : الشعر هو ما يحدد هويتها.

فى روايتها تبحر الكاتبة فى عالم الأدباء المتناقض المشحون بالسحر والغموض والهموم, تغزو المناطق المجهولة والمتفجرة فيه, تكشف سطوته وضعفه, آماله والآمه, أحلامه وأحزانه, عشق الكتابة الى حد الهوس, مرارة عجز القلم فى بعض الأحيان وما يتبعه من احساس باليأس سرعان ما تمحوه الرغبة المتوقدة لخلق ابداع جديد, تقول المؤلفة على لسان احدى بطلاتها : " لايمكن لجروحنا أن تلتئم إلا بالكتابة, لا شىء يهزم الجنون أو الموت إلا الكتابة."

تمتد الخطوط فى "الرواية" لتصل بين النقاط المتناثرة لتتقاطع وتتكامل, وتضع خريطة واضحة المعالم لأبطالها فبينما تنتمى جمالات الى الوسط, يتأرجح رستم بين اليسار واليمين, يتنقل سميح مابين المعارضة والحكومة, تقف كارمن على الحياد, تقول الفن للفن وليس للسياسة, أما مريم الشاعرة فتنشد قصيدة بعنوان عصر الهزيمة والنفاق.

تحطيم الادعاءات

استطاعت الأديبة بقدرتها على التوغل فى تيار الشعور والعالم الداخلى لشخصياتها النسوية أن تتمكن من وضع يدها على منابع الاحباط والقهر والضياع التى تعانيها المرأة, وبذلك كانت نوال السعداوى من رائدات توظيف الأدب لخدمة الحركة النسوية. فى "الرواية" تواصل المؤلفة مسيرتها فى فضح القمع الذى تتعرض له المرأة, ومحاولة تهميشها واهدار كيانها, تكشف زيف ادعاءات الرجل الدائمة التى روجتها كتابات فلاسفة عمالقة أمثال سقراط, وأفلاطون, داروين , كانط , شوبنهاور , وغيرهم ممن أكدوا أن الرجل عقل وأن المرأة ليست الا جسد, فالنساء ـ الايجابيات ـ فى الرواية لم يهتموا بالجسد ولم يكن الجنس شاغلهم الأساسى مثل الرجل.

"كارمن" زوجة رستم تحب زوجها. لكن يسيطر عليها عشق آخر هو كتابة رواية جديدة, كانت الرواية عندها أهم من الرجل, "كانت تفكر بعقلها .. تتطلع نحو الكتابة بشهوة تفوق كل الشهوات ..." الفتاة مجهولة الهوية ـ صاحبة الرواية ـ شاركت كارمن عشق الكتابة. يصفها رستم فى أحد مشاهد الرواية قائلا:
"أنت وكارمن نقيضان,لاشىء يجمعكما الا جنون الكتابة, لا يتسع فراش الواحدة منكما لرجل أو نصف رجل, فالمساحة كلها مشغولة بأوراق الرواية, والأقلام المقصوفة والدموع الجافة, تحتضن كل واحدة منكما روايتها وهى نائمة كأنما رجل تعشقه "
وتقول مريم الشاعرة : "خرجت كالزرع من بطن الأرض, لا أسرة, ولا أم, ولا أب, لا وطن ولا عشيق ولازوج الا الشعر."

تقدم الكاتبة رؤية لعبثية الحياة وتناقضاتها ومعاناة النساء, وخاصة المرأة المبدعة فنحن النساء نصنع الأدب من حياتنا .. من أحلامنا .. من خيالنا .. نحن نكتب الرواية بأن نطلق هذه الأجزاء من نفوسنا التى حبسناها داخلنا طوال حياتنا. أعظم النصوص الروائية لم يبدعها أدباء يعيشون فى أبراج عاجية بل كتبها أدباء انخرطوا فى الحياة وعايشوا أدق تفاصيلها وآلامها, فالنساء فى رواية "الرواية" جزء من عالمنا "عالم نوال السعداوى" التى تقول فى مذكراتها:
"كانت الكتابة هى حلم حياتى لم أرى نفسى فى أحلامى طبيبة .. رأيت نفسى كاتبة أو شاعرة, أوموسيقية .. وصارت أوراقى هى حياتى أكتبها بلغتى وقلمى وعقلى وذاكرتى, أعشق موسيقى الكلمات, عبيرها يشبه الزهور, كتابة الرواية هى حياتى .. وأى شىء آخر يأتى فى مرتبة ثانوية لأنه لا يهمنى إلا دور الروائية... "

الضحية والمتهم

فى رواياتها تستخدم المؤلفة الموروث الشعبى والعقائد التقليدية والأعراف السائدة لا لتكرسها, بل لتسخر منها وتكشف زيفها, أدبها يسعى الى تناول كل ما يغلف حياة الشعب من تابوهات, ويسعى للتخلص مما يستخدم منها لتغييب الوعى, أوتكريس سلطة فئة حاكمة عن طريق تحويلها الى كيان رمزى, مثلما فعلت فى رواية "سقوط الإمام" ـ التي صادرها الأزهر أيضا ًـ وفيها تختار شخصية الإمام الحاكم بكل ما يكتنفها من رياء وخداع وظلم, وتضعه فى مواجهة ابنته البريئة التى تمثل الحقيقة, تجعلنا الكاتبة نفحص الأشياء بوضعها تحت شمس الفكر, ولتحقيق هدفها اتبعت سياسة تشكيل درامى تتسق وطبيعة مادتها من ناحية, وتجسيد رؤيتها التحليلية من ناحية آخرى, وتصل الماضى بالحاضر من ناحية ثالثة, وان وصلت الى تلك النتيجة فى أحدث أعمالها "الرواية" لكن بأسلوب مختلف. رواية "سقوط الإمام" يغلب عليها الطابع الأسطورى, بينما تتميز "الرواية" بالمزج بين الأسلوب الفانتازى الواقعى, والتعبيرى حيث تكشف كل من يتخفى وراء حجاب الشرع ليمنح نفسه رداء العفة وصك الغفران, بينما هو ينهب خيرات بلاده ويغتصب النساء ويبيع الأطفال اليتامى فى سوق العبيد .

نوال السعداوى ترى كل الأشياء فى ضوء علاقتها ببعضها, ترى كل شىء على أنه جزء من المعرفة المتكاملة, فيلتحم عندها الطب بالأدب, والأدب بالطب, الأحداث العامة تذوب فى الأحداث الخاصة, عندها لايمكن الفصل بين حياتها الخاصة وحياتها العامة, فى أعمالها يلتحم الخيال بالواقع, الحلم بالحقيقة, الحاضر بالماضى, الزمان بالمكان, فى سياق ينساب تلقائيا .. وللمرة الأولى فى أدب الكاتبة نرى بطلة الرواية الفتاة مجهولة الهوية تخضع لمبدأ المساومة فى لحظة ضعفها, تقبل دعوة رستم على العشاء وتركب معه سيارته على أمل أن يجد لها عملا, بعدها تشعر بتأنيب الضمير. نرى النساء أحيانا فى روايتها الجديدة أشبه بمزيج من الضحية والمتهم, مثل شخصية جمالات التى كانت ضحية نزوات أبيها وزوجها, لكنها سرعان ما تحولت الى أداة قهر لفلذة كبدها غير الشرعية, وشخصية سوزى الحبيبة الأولى لسميح, التى جمعت بين القوة الى حد التنمر, وبين الضعف والهزيمة .

شخصيات تأبى النسيان

ترسم المؤلفة فى "الرواية" شخصيات مختلفة سواء من النساء أو الرجال. "سميح يختلف عن الفتاة .. هو أنيق الشكل والملبس, هى لا تنظر للمرآة, تعيش القلق وعدم الاستقرار, يتمتع هو بالهدوء والراحة.. كان رستم أقرب الى فتى أحلامها, جذبها الى رستم ضعفه, تناقضه, تخبطه, تردده, لم يكن مثل سميح قادرا على اخفاء حقيقته .."

شخصيات "الرواية" التى رسمتها الكاتبة يصعب نسيانها, شخصيات حية وجودها ممتع, أشبه بمزيج من الواقع والخيال.. الفتاة بدون اسم مجهولة الأب, ليس لها أسرة, لكن الأديبة أرادت أن تصدمنا منذ السطور الأولى للرواية, فتقدم لنا نوعا جديدا من الهوية التى يجب أن يعامل بها الانسان, لأن افتقاد الهوية التقليدية التى سنها المجتمع والموروثات لن يمحو الانسان من على وجه الأرض, ولن يمنعه من تحقيق ذاته .. مثلما فعلت البطلة فى "الرواية" هاجرت إلى برشلونة كتبت روايتها الأولى, ويبحث عنها الناس لأنها صودرت.

تنجب الفتاة الشابة طفلة اسمها "نورية" لا تعلم على وجه اليقين من هو أبوها, فليس هذا هو المهم, تمنحها الفتاة اسمها مثلما يفعلون فى أسبانيا حيث يسمون الأطفال بأسماء أمهاتهم .. تجعل الأديبة من هذه "النورية" الحلم أو الضوء الذى ينير حياة أبطال الرواية... نسمع كارمن تقول فى الرواية :

"هى طفلتنا نحن الثلاثة أنت الأم الأصلية, وأنا الأم الفرعية, ورستم الأب الأصلى, وان شئت يمكن إضافة سميح ..هذه الطفلة محظوظة لها أمان وأبوان.. " , "يولاندا" هى الآخرى تصر على أن "نورية" حفيدتها من ابنها فرانسيسك.. الجميع يتشبس بالطفلة وكأنها الحلم المفقود, الهوية الجديدة للانسان .." جاءت نورية رغم أنف الدنيا وضد إرادة الجميع مثل شعاع الشمس لا تقدر القوى النووية على منعه..."

اهتمت الروائية بالشخصيات الثانوية فمثلا شخصية "محمد" الجرسون خريج كلية الآداب والحاصل على الماجستير فى الأدب العربى المعاصر لم يجد عمل فى تخصصه, مزق شهادته الجامعية, وألقى بها فى سلة القمامة .. تفرد له الكاتبة مساحة من الوصف المؤلم الذى أصابنى بغصة فى الحلق, كأنما تضع يدها على الجرح وتضغط .. وعلى مدار روايتها لم تهمل نوال أيا من شخوص روايتها مهما صغرت مساحة الدور المتاح له .

التناقض .. والحب المستحيل

أثارت المؤلفة عددا من المتناقضات المتبادلة التى طبعت العلاقات المشّكلة للرواية, المتعلقة بفكرة محورية هى "الحب المستحيل" والتى تحققت فى أربع تنويعات هى :

" كارمن ورستم ـ الفتاة وسميح ـ الفتاة ورستم ـ الفتاة وفرانسيسك ", من خلال هذه الثنائيات قامت الأديبة بتشكيل بطولة مزدوجة فكارمن والفتاة تشكلان معا وجهين لعملة واحدة, كذلك رستم وكارمن يجمعان بين التناقض والتمزق, يحاول كل منهما أن يمتص الآخر داخل مشروعه, وهذا يتحقق أيضا مع كل من سميح والفتاة, وجمالات والفتاة .. كانت جمالات نقيض المرأة المبدعة على المستوى المادى والمعنوى, كان رستم وجهها الآخر الذى يصف نفسه قائلا :

"أنا غير مخلوق للكتابة.. أنا فى الحقيقة غير موهوب.. عملونى كاتب كبير بالوراثة.. بالواسطة.. بالفلوس.. وحفلات العشاء والخمرة والنسوان.. "

تحقق التناقض أيضا على مستوى الأحلام بين عالم النساء والرجال. تمكنت معظم بطلات الرواية من تحويل أحلامهن الى واقع, بينما فشل الرجال. سميح شغلته أعمال الطباعة والنشر عن حلم حياته فى أن يكون روائيا, عمله كان السلسلة الحديدية التى تربطه بالماضى, لكنه استسلم ولم يسعى للتخلص منها. فرانسيسك كانت أحلامه ذكورية مريضة, يرى نفسه فنانا مشهورا مثل سلفادور دالى, يصبح من الأثرياء, تتهافت عليه النساء.

نجحت الكاتبة فى استخدام تيمات البطل المزدوج والرواية داخل الرواية .. ومن خلال التوظيف المتمكن للمفارقة والتورية الساخرة أعادت تشكيل هذه العناصر فى رؤية فنية وفكرية متماسكة ومقنعة تفصح عن زيف وازدواجية الرجل وخداعه. رستم الذى كان يخون زوجته فى شقتها وحينما ضبطته غضب لأنها عادت من السفر دون أن تخبره, كما قال أنه لم يخونها على فراش الزوجية, لكن على السجادة بعيدا عن غرفة النوم. المؤلفة فى "الرواية" تغزو مناطق غريبة وترسم خطوطها لتعكس الجانب المسكوت عنه فى الحياة والقوة الروحية للمرأة, أحلامها, واحباطاتها بعيدا عن الأنماط والأدوار المحددة التى سجنت فيها المرأة لقرون طويلة .

طرحت الكاتبة من خلال الأبطال تخيلا للحب المستحيل, والرجل الذى تبحث عنه فى خيالها وتتمناه وعلاقتها به كما يجب أن تكون .. فهناك رجل فى خيالها مازال لم يتحقق بعد على وجه الأرض .. هذا التصور الايجابى عن الحب والحبيب المفقود يتبلور بصورة غير مباشرة فى الرواية من خلال تقديم تعريفات آخرى سلبية تبرز غيابه, أى أن التعريف الايجابى للرجل والحب يتحقق عن طريق تقديم البدائل السلبية الزائفة ... فعلاقة رستم بزوجته كارمن تكشف عن حقيقته فى ضوء علاقته بالفتاة .. وكذلك علاقة الفتاة بسميح تكشف عن حقيقتها فى ضوء علاقتها برستم.

فلسفة الرواية ..

د/ نوال السعداوى فى "الرواية" ـ مثلما كانت فى العديد من أعمالها الأدبية السابقة ـ لا تكتفى بدور الفنانة المبدعة, لكنها تضيف اليها دور الفيلسوفة, فإلى جانب قدرتها على بلورة أسلوبها الروائى المتميز المصطبغ بالفانتازيا الواقعية, ومناقضة المفاهيم السائدة للزمان والمكان والشخصية, والتناول الشعرى للعناصر الواقعية فى "الرواية", نجدها أيضا تضفى على لوحتها ظلالا فلسفية واضحة, فعلى مستوى المضمون كانت الشخصيات فى بعدها الدرامى تثير أسئلة فلسفية كثيرة نجحت الرواية فى تقديم اجابات مختلفة لها, منها الأسئلة المثارة عن معنى الروح والجسد والأخلاق والحب ... بالإضافة الى حديث كارمن :

" الموت فى الحب ليس الا حالة من الحب, والحب ليس إلا رمزا لشىء آخر , ومن الغباء أن يموت الانسان من أجل الرمز "... كما تطرح الكاتبة رؤية فلسفية مختلفة لمعنى كلمة الوطن الذى يتواجد حيث يكون الحب , وحيث تكون الحرية, وتتحقق السعادة .

استطاعت الكاتبة إدارة الحوار الروائى وتوظيفه على عدة مستويات فالحوار يعمل على تطوير الحبكة, وتعميق عناصر التورية الدرامية, وبلورة الفرضية الفكرية الحاكمة للرواية ومثال ذلك جزء من حوار بين رستم وكارمن :

 تسمعينى ازاى وانتى غرقانة فى الرواية !
 وماله لما أغرق فى الرواية , حرام ؟ هى الرواية دى راجل تانى ؟
 لو كان راجل تانى كان أحسن , على الأقل يأخذ نص عقلك وأنا النص التانى بالعدل والقسطاس .
 أيوه زى العدل بين الزوجات.
هذه الجمل الحوارية البسيطة الموجزة ـ والتى تصدمنا وكأنها قنبلة دلالية انفجرت أمامنا ـ تكشف لنا عن أعماق رستم وكارمن ومشاعرهما والمرارة التى تضطرم بينهما, وتقدم لنا فى نفس الوقت خيطا من خيوط الحبكة وتحول مشروع الرواية المرتقب الى امتحان لمصداقية الشعار المرفوع عن الحب .. وتقدم الأديبة تعليقا ساخرا ينسف كل الشعارات المرفوعة .. فرستم فى لحظة حبه للفتاة الشابة يتمنى أن تموت زوجته كارمن, ويموت سميح, وحينما تتهمه الفتاة بأن قلبه أسود يؤكد لها أن الحب يجعل القلب أسود.
تنتهى الرواية بموت الزوجة بعد أن أتمت روايتها, وانتحار الزوج, وموت جمالات, ورحيل سميح فى مشهد أقرب للموت, ولا ندرى شيئا عن مريم الشاعرة, كما أن الطفلة "نورية" لا تتحقق عودتها, لكن تعيش الرواية, تعيش الكلمة المكتوبة لأنها تصبح خالدة.

الهدية الرابعة ؟
 تلقيت من الحياة هدايا ثلاثة,
 أننى ولدت امرأة ,
 وفقيرة ,
 ومقهورة ,
 مما جعل تمردى ثلاثة أضعاف.
جاءت هذه الكلمات على لسان احدى بطلات "الرواية".. وانا أرى أن الكاتبة تلقت هدية رابعة .. أنها طبيبة .. تقول د/ نوال السعداوى فى مذكراتها:

"كانت مهنة الطب تكشف لى أمراض المجتمع, مآسى الناس خاصة النساء الفقيرات, أصبح العلم فى يدى كالمشرط يكشف عما تحت الجلد, يصل للجذور لأجزاء مبتورة من الجسد أوالعقل أو الذاكرة, ثم أحلق فى السماء لأرى أشياء لم أكن أراها وأنا أمشى على الأرض, وأصبح الطب كالأدب يسعى نحو الثورة ضد الظلم, ينشد العدل أو الحرية أو الحب أو الجمال أو الفضيلة, وكلها شىء واحد ينسكب رغم ارادتى فوق الورق على شكل كلمات لها معانى لم يألفها النقاد . "

لا يمكن الجزم اذا كانت أعمال الكاتبة تنتمى الى الرواية أم الشعر أم النثر أو السيرة الذاتية, أو أى شىء آخر من الأجناس الأدبية المعروفة.. ولا يحق لنا أن نصر على تصنيف ابداعها وتحديده بالأطر ووضعه تحت مصنف بعينه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى