الأربعاء ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
قراءة سريعة في
بقلم عيسى حديبي

«تلك المحبة» للروائي لحبيب السايح

الفصل الأول : خطي بشفتيك على صدري صبر النخيل

من يلج عوالم " تلك المحبة "، رواية لحبيب السايح، الصادرة عن دار فيسيرا2013، لا يمكنه الحصول على تأشيرة الدخول حتى يكون قد فقه مصطلحات معينة، تزخر بها أرض توات التي تعني بالأمازيغية أرض الصلاة أوالأرض المقدسة.. التعبد.

كما يجب الإشارة إلى اللغة المستعملة بوتيرة معينة تستحيل على القارئ العادي؛ بحيث تحتاج إلى الصبر والتكيف.
تميُـّزُ طريقة السرد التي اعتمدها الكاتب؛ إذ كاد يتحول إلى سارد لمؤلف مجهول كما جرت العادة في الحكايات الشفوية.

كما ركز أيضا على ذكر الأماكن والجهات التي لها دور ميتافيزيقي حالم، فيه من الخرافة المشتركة وفيه ما تمليه المرجعية الدينية للمنطقة الموغلة في غياهب التأمل و التصوف الذي توحي به الأماكن والجهات.

الفصل الثاني : كوني لي أندلسا بين توات وقدس

اعتمد لحبيب السايح دور السارد على لسان الطالب باحيدة الذي روى الحكاية للبتول. تناول من خلال ذلك، بشرح جميل ومثير، محاكم التفتيش المسيحية؛ التي كانت تقتل وتطارد المسلمين واليهود في الأندلس، حتى رحلوا هربا إلى شمال افريقيا. عندنا في الجزائر. استوطنوا تلمسان ومنها انتشروا في باقي المدن القريبة والبعيدة حتى بلغوا أرض توات. تمنطيط؛ كانت مهد معظم يهود أرض توات.
تناول الكاتب ذلك بالذكر بشكل روائي شيق وثري بالأسماء التي توحي بالعرق اليهودي أو " الموسوي " والأسماء الإسلامية التي أشار إليها بـ"المحمديين " كما رسم ما كان يجمع بينهما من علاقات اجتماعية نفعية، كالإقتراض والحـِرف وحسن التدبير. كما لم ينس أهل الذمة، وطيف كانوا يتأذون من دفع الجزية وكيف كانوا يردون بطريقتهم نكاية وانتقاما؛ كقصة اليهودي الذي كان يؤم الناس وهو (جنب)

في الفصل الثالث: عودي من حفرة الحزن فسريري من ماء

من الصفحة 94 إلى 97، كأني بأبي نواس يسرد حاله؛ تناص يكاد يكون مباشرا؛ لما كان الكاتب يصف المخنث سلّــو بشكل شهواني مذهل. لكن يمكن في الوقت نفسه أن يحس القارئ سقوطا حرا مفاجئا على مستوى اللغة، التي كانت معطاءة؛ قوية /دسمة/مبدعة وطينية في بلاغتها المتميزة التي كانت تنساب على محور السرد ثم أفلتت فجأة من يد الكاتب؛ وذلك لما وصفت إحداهن ذكر سلو بالقول " ماسورة مدفع بين عجلتين ".وحتى هذا الشعور يمكن تفسيره بخيال الرواية الفياض الذي كان يطفح به النص ثم ظهور الصورة المفاجئة، التي ضربت دفء السرد ببرودتها المستمدة من واقعية الواقع؛ لأنها صورة مستهلكة يتداولها الأناس العاديون.

الفصل الرابع: كوني بيضاء أو سوداء فأنا اللون والظل

يتناول لحبيب السايح، عبر السرد، العبد بليلو وكيف كان يجالس الأسياد ويتقاسم معهم أسرارهم وأحوالهم تحت فعل الحشيش، الذي كان يحصل عليه ويغذي أحلامهم به.

لم ينس بليلو أن يذكر نسبته للسيد الذي كان يضاجع أمه وقتما يحلو له، وفي ذلك إشارة ذكية لوصف القمع الذي كانت تفرضه علاقة العبد والسيد. كما ذهب في نهاية الفصل ص130، من خلال حوار بليلو مع ماريا، وصف جانب من المحبة أو ذرة من ذراتها الطائرة في الفضاء (كما عبرت عن ذلك الفلسفة القديمة). وكأن الكاتب من خلال شخصيته الورقية بليلو أعاد اعتراف نابليون لجوزيفين حين قال لها: " جوزيفين لقد بلغت من المجد حدا لم يبلغه أحد، لكنك الشخص الوحيد الذي أعول عليه.

في الفصل الخامس: أنا المصنف وأنت امرأة هي النساء جميعا

في هذا الفصل لم يتوان السارد في ذكر محاسن ومفاتن السيدة البتول التي جاء تناولها في النص ( المصنف؛ مخطوطة الدرويش) على لسان طيطمة التي فضحت غيرة بنت كلـّو القاتلة.

الفصل السابع: بليلو الخلاسي ماريا الرومية، السخرة والمحبة

هنا تناول الكاتب رحلته بحثا عن ماريا الرومية التي احبها، فعبر الصحراء من الجنوب إلى السهوب؛ من أدرار إلى منيعة إلى الأغواط أين زار كردان مهد التيجانية ووصف الأمكنة والصفاء والفضاء حتى بلغ مدينة بوسعادة.. كما يمكن الإشارة إلى ذلك التشبيه الجميل الذي رسم به الكاتب أصابع عثمان (في كردان ) وهي تنساب على مناقير البيانو بالقول :
((..فأشار إليه فتحركت أصابعه كريشات جناحي عصفور أعثره الطيران..)). ويمكن تناصها وتناغمها مع بيت الشاعر أبي صخر الهذلي(( وإني لتعروني لذكراك فترة ** كما انتفض العصفور بلله القطر )) ص176.

الفصل التاسع : جبريل صليب من خشب مبروكة هلال من نور
في هذا افصل اعتمد الكاتب تقنية الإرجاع أو الإستذكار على محور السرد، فكان ذلك بعدما فتحت مبروكة كراسة جبرائيل في الكنيسة وأخذتها وقرأتها على مهل.

في الفصل العاشر: ثمة جبرائيل ثمة خطيئة ولمبروكة مربع الضوء
في هذا الفصل اكتشفت مبروكة الأصل العسكري لجبرائيل واكتشفت معه فضاعة القتل والتنكيل كما كان يصفها جبرائيل (في مذكراته) ومدى الإبادة التي لم تكن مجرد نتيجة لحرب، لكن إنتقامية نادت لها أصوات القدامى من الجدود الصليبين.

((.. يومها كان القس المرافق قال للقائد :

إن كانت هناك لعنة أصابت من سبقونا فلأنهم لم يوسعوا للصليب بقدر ما رزحوا تحت هلال من أذلوهم ثمانية قرون)).
فترجاه :

باركني.

وركع عند قدميه. فقال له :
_ بوركت ما وسّعت للصليب كي نبسط وجه الرب على هذه الأرض )).

وأيضا في نهاية الصفحة.

وهمس لضابطه :

_لن تلطخ القذارة يديك إن أقدم جنودك على تدنيس مزارات أولئك الهمجيين... وتخريب بيوتهم. فـأنت إنما تأخذ بثأرك من أحفاد من ألحقوا بأجدادنا الأهوال...في جزيرتنا الخضراء والقدس والقسطنطينية وفي هذا البلد نفسه)). الصفحة 265

الفصل كان تراجيديا الحب بين مبروكة( الجميلة) وجبرائيل( الوحش) والقبح الذي غطته قبب الكنيسة العالية وجدرانها الصامتة.

الفصل الحادي عشر : باحيدة الطالب جولييت الراهبة بمحبة النخيل
مر هذا الفصل كسابقه بوصف ممتع صاخب وممتلئ بالأشواق والممنوع بين باحيدة المسلم الذي ضاق ذرعا بحب جولييت المسيحية التي دفعها حرمانها العاطفي إلى الرهبنة برغم توحد الديانة في الممنوع ( الحرام)، انتهى كلاهما إلى الخطيئة، تماما مثلما حدث بين مبروكة وجبرائيل.

مرت الفصول في ثنائيات جميلة، تزاوجت فيها المغامرة والشوق والإشباع، بلغة ممتنعة مرنة أسطورية، وكأنك، حين تقرأ، تمر في دهاليز ألف ليلة وليلة، تتلذذ اللغة والمشاهد الإيروتيكية أحيانا والموغلة في تفكيك المحبة أحيانا أخرى.
عبر الفصول، يمكن للقارئ ملاحظة أو شم رائحة الصراع النفسي العميق والحاضر بعذاباته الدائمة، بين الدين والأشواق / الرغبات وفتنة الجسد؛ جبرائيل و مبروكة، بليلو وماريا،...

في العتبات؛ كانت العنونة سيدة المقام. " تلك المحبة " وفيها كل شيء؛ مركز الكون وتيه الإنسان؛ بحثه الدائم عن تاوزن وسكينة تكفيه عناء الإرتباك والقلق.

الخيام وأبو حيان التوحيدي كانا مقامين للدخول إلى عوالم المحبة، وكانا مفتاحين لقارئ حقيقي يجيد فك شفرة القراءة، فيكون له شرف الكرسي والدخول والإنصراف، سمراً وسهراً على نغمات تجتذب نعومتها من نوافير الأندلس، وتاريخها من مشارف القدس إلى باب المغاربة.

هناك أيضا تأثر واضح، من جهة الكاتب، بعربية القرآن؛ التي ظهرت عبر جل مراحل النص، وكذلك النص الشعري الشعبي، الذي طعّم النص من وقت لآخر، و الذي أضفى بهاء وروحا دافئا.

اعتماد الكاتب عبر كل محطات الرواية على تقنية سرد، تركت النص حيا ومنتعشا، لم يبعث على الملل بل كان يلح كل مرة ويذكي الفضول لمعرفة البقية.

بدأ السارد النص بضمير المتكلم القائم على المكان والزمان، ثم لم يكد يستقر على الطريق ( محور السرد) حتى لبس ثوب الغائب والمخاطب بمرونة وموسيقى اختفت وراءها الضمائر ورقصت في حواريات صهدت أرواح النص على لوحة المحبة.

استعمال تقنية الإسترجاع أو الإستذكار بلغة ساحرة ومثيرة، عرج بها الكاتب على الحروب التاريخية الدينية، وأشار إلى الإنتقامية التي تولدت عنها. كما استعمل " الفلاش باك " في ربط مراحل مهمة من حياة الرواية، بشكل مرن وجميل، بعبارات دقيقة ومدروسة.

دارت أحداث الرواية في حيز غلب عليه الإستقرار، بالرغم من أن معظمها كانت في أرض توات، لكن ذلك لم يمنع من الإنتقال إلى أماكن مختلفة من ربوع الجزائر، كالإنتقال إلى كردان، بعين ماضي مهد التيجانية بولاية الأغواط...

في الأخير كانت اللغة في رواية " تلك المحبة" معطاءة وغزيرة. غنية بالصور المختلفة، والتشبيهات الجميلة. كما ظهرت نوستاجيا الصحراء والرمال والنخيل.

تعرض النص أيضا للتراجيديا التي يحدثها صدام الحب مع الدين وممارسة الخطيئة، وكان ذلك عبر لوحات أتقن الكاتب ألوانها ومنحنياتها.

سعدت بقراءة الرواية لأنها فعلا جميلة بأسطوريتها وامتدادها، ولأنها كانت بإهداء الكاتب منحتني نفسا من روح المحبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى