الاثنين ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم نجمة خليل حبيب

تماهي النص بالأيقونة

نموذج إسماعيل شموط وغسان كنفاني

لك أن تتصور دهشة فتاة في عمر السذاجة والمراهقة حين يتسنى لها دخول صومعة فنان أحبته وزينت جدران غرفتها برسوماته حيث كانت (عروسان على الحدود) آخر ما تنطبق عليه عيناها و(فلسطين على الصليب) أول ما تنفتحان عليه. كان ذلك أيام كان العمل الفلسطيني لا يزال سريا، حيث ضمني والفنانة تمام شموط خلية واحدة.

كنت يومها أتخيل صاحب هذه الرسوم شيخاً جليلاً بلحية منفوشة وغليون عابق لا ينطفئ ونظرة متعالية ترمق من مقعدها الوثير الواقع وترسمه على مزاجها، إلا انني صدمت عندما رأيت إسماعيل بجسده النحيل، يومها، وتواضعه الذي لا تصنع فيه ونظرته الخجولة، وصدمت أكثر عندما جاء يقدم لرفيقات زوجته القهوة بيديه التي كنت أظن انهما لا تصلحان إلا لحمل الريشة والالوان. انكمشت خجلاً وكدت أذوب في مقعدي، ملت نحو أمي الروحية الاديبة سميرة عزام متسائلة بسذاجة: اهذا هو إسماعيل شموط صاحب عروسان على الحدود وفلسطين على الصليب؟ ظلت سميرة متكئة على عصاها واكتفت بهز رأسها إيجابا. لست أدري لماذا يومها تراءات لي صورة يسوع الناصري وهو يغسل أقدام تلاميذه في خميس الاسرار.

لا أدعي أنني قارئة لوحات موهوبة. وأشعر بالإحراج في كثير من الأحيان عندما يدور الحديث حول فنية هذه اللوحة او تلك، إلا أنني أمام لوحات إسماعيل أشعر بالارتياح، فهي عندي كتاب أو قصيدة تقرأ بعيداً عن فذلكات المتأولين، وقد تعلمت فيما بعد ان اتثقف على قراءة إسماعيل شموط تماماً كما كنت أتثقف على مقالات غسان كنفاني وشفيق الحوت. ما ان أقف أمام لوحة حتى تأخذني الى رواية او قصة قرأتها لغسان او سميرة أو مقالة لشفيق. وإذ وقفت أول مرة أمام لوحة "الربيع الذي كان" حضرني واضحا قوياً نص سميرة عزام في "وجدانيات فلسطينية" فقد كانت اللوحة هازجة بليغة مؤثرة تأثير النص المكتوب إن لم يكن أكثر. ولطالما جاب في خيالي أطفال كنفاني، من بائع الكعك حميد، الى طفل المنزلق، الى أطفال زمن الاشتباك، في الكثير من أعمال شموط كمثل: :أطفال مخيم الدهيشة"، "وهم أيضاً أطفال" أو "الكمين". وإذ اقول في الكثير فلأن اطفال شموط اقرب الى المفهوم العالمي الكلاسيكي للطفولة: البراءة، الضعف، الاستغلال، والشقاوة البريئة. في حين كان أطفال كنفاني رجالاً كبروا قبل الاوان، فيهم الكذاب (كعك على الرصيف) والمحتال على معاشه (زمن الاشتباك) والثوري الذي يتفوق على الكبار في صموده وشموخه ( كان يوم ذاك طفلاً) والمبدع الخلاق صاحب الرؤيا (المنزلق)

وإذ أن المجال لا يتسع الى استعراض جميع هذه المواقف أو تناول جميع أعمال الفنان وهي كثيرة فسأكتفي بنماذج ثلاث علها تفي بالغرض

بين قصة "العروس" ولوحة "القيد"

يتماهى هذان العملان في رؤية واحدة تهدف الى تصوير ما في الشخصية الفلسطينية من عزم وثبات واصرار على المواجهة رغم كل ما في هذه المواجهة من عدم تكافؤ ولامعقولية التي هي على حد تعبير الباحث سامي اليوسف بطولة ترعش بالمأساة. رعشة المأساة هذه نحسها في اصرار صاحب "العروس" على البحث عن بندقيته رغم كل المعوقات التي اعترضته. تابعها وجرى وراءها من معركة الى معركة ومن قرية الى قرية. من الدامون الى شعب الى ترشيحا الى غيرها.....متحديا كل ما لخصمه عليه من تفوق ولم ييأس حتى بعد سقوط كل فلسطين. وهي الرعشة ذاتها في لوحة شموط؛ يقول بها هذا التحفز في وقفة الشاب والعضلات المتوثبة رغم القيود التي تسربل اليدين والرجلين. الخطوة الواسعة التي كأنها لا تعترف بالقيد وتصر على متابعة المسير. الصدر المنفوخ كبرياء والرأس الذي يرفض أن ينحني والذي برفضه هذا يتغلب على قيوده، والشمس المشرقة التي تنير الوجه فكأنها تهزأ بالواقع وتنبئ بتغييره. وقد تماهى النص بالقصة حتى لجهة الصفات الجسدية للبطلين، فصاحب العروس: رجل طويل جدا،ً صلب جداً، يسيرمحنيا بعض الشئ بكفين مفتوحتين متحفزتين وله عينان تنقبان وجوه الناس كأنهما محراثين عتيقين....كان محاطا بما يشبه الضوء. كان محاطا بشيء يشبه الغبار المضيء كما رسمه فنانو عصر النهضة حول جسد الاله وهو يقدم عونه للفقراء. نظرة ولو عابرة تجعلنا نرى ان ما في صفات بطل اللوحة يطابق ما رسمته كلمات الاقصوصة فهو ايضا يحمل صفات إله يوناني. إله الخصب، ربما، لما في ملامحه من فحولة، او الإله سيزيف الذي حمل صخره قدراً لا مناص للهروب منه

رغم كل ما في العملين من تماه، إلا ان المتعة التي يحدثها احدهما عند التلقي لا تغني عن الاخر ولا تلغيه، فان كان النص متعة للخيال فاللوحة متعة للعين ودعوة للخيال ليحلق ويستمتع وينسج على هواه الف معنى ومعنى

(ما تبقى لكم) و (هذا ما بقي)

رغم تقارب العنوان في كلا الرواية واللوحة إلا ان كلاً منهما تلتزم برؤية مختلفة. اقرأ في اللوحة، وهو اجتهاد شخصي بحت، قد يخطى وقد يصيب، ملاح غير واضحة، لا تقول صراحة بالغضب او الحياد او الحيرة ورغم ان نظرة العينين وإطباق الشفتين الى الداخل تحيل الى غضب مبهم، ولكنه ليس الغضب الفاعل، فهو إن وجد يبقى غضباً هجيناً، لم يتفلتَ بعد من مرحلة الذهول والانتظار. قد توحي الشفتان المزموتان عزما ما ولكنه عزم غير واضح، فقد غابت عن اللوحة دلائل العزم واتخاذ القرار كأن تكون العينين تتجهان بنظرتهما الى البعيد, أو انحناء الجسم الى الامام او اظهار توتر في وضع الذراعين يشي بالانفعال. أما أن تكون اليدان مضموتين على الشكل الذي هما عليه فانما هو ايحاء بالرضوخ والطاعة لذا تراني أقرأ في اللوحة مجرد عرض حالة، تسجيل موقف، ولك كمتلقي ان تستشف ما وراء هذا الموقف، فخلفية اللوحة تعرض الخسارات ومقدمها يعرض "ما تبقى" هذا الوجه المفتوح على كل الاحتمالات التي لم يشأ الفنان أن يحصرها بواحدة فترك الخيار للمستقبل ليقول كلمته. وهذا برأي المتواضع، إعلاء لقيمة اللوحة الفنية، فهي لا تفرض نفسها ورؤية صاحبها، ولا تتنصب واعظة مبشرة، ولا هي داعية في المحافل الساسية. هي حسب مقولات النقد الادبي، لوحة مفتوحة النهايات، وسؤالها يحتمل عدة اجابات. هي حالة فنية راقية تطلق العنان للذهن ليس فقط في طرح الاسئلة بل في الاجابة عنها أيضاً

أما حامد، بطل كنفاني في "ما تبقى لكم"، فقد صهرته المرارة، أوصلته الخسارات (خسارة يافا وأمه وأباه وشرف أخته) الى حزم أمره بعد طول تردد. فأخذ قراره برفض اللجوء والمنفى المتمثلين بالمخيم والتوجه نحو الوطن، جاهزاً لكل ما يستلزمه هذا التوجه من تضحيات. ولأن مجال النص أوسع من مجال اللوحة فقد تمكن الكاتب ان يرسم لحامد شخصية متطورة يزيد عليها او ينقص منها تطور الحدث. فنتعَّرف على حامد الضعيف العاجز طفلاً والغاضب الناقم على عجزه يافعا،ً ثم الشاب الذي انضجته المأساة فعرف طريق خلاصه: واخذ يغوص في الليل مثل كرة من خيوط الصوف مربوط أوّلها الى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول الى كرة وهو الان يفكها تاركا نفسه تتدحرج في الليل. ثم نراه خاشعاً أمام خطورة الخطوة التي اتخذها "وقف فجأة. نظر الى السماء فجأة ثم الى ساعته وعرفت الصحراء أنه يفكر مثلهم كلهم . . . ولكنه مثلهم كلهم خاف من الانبساط الى ما لا نهاية . . . ثم نراه يتخطى هذه الرهبة فيسير فجأة، شاباً كما كان دائما مملوءاً بالغيظ والاختناق والحزن. الى ان ينتهي ممتلئاً ثقة بالنفس عند أوّل مواجهة له مع العدو، فقد كشفت له هذه المواجهة مكامن قوته المخبوءة: "كنت مسلحاً بقدرتي على مفاجأته فقط ....وفي اللحظة التي امسكت بها عضديه بكفي وانا اضغط جسدي فوقه، تيقنت انني اقوى منه". الى أن انتهى وقد وضحت رؤيته ووثقت خطوته وصار بوسعه ان ينظر مباشرة الى قرص الشمس معلقا على سطح الافق

أرض البرتقال الحزين وأوديسة الشتات (إلى المجهول)

في هذه اللوحة التي تحمل عنوان "إلى المجهول" وقصة "أرض البرتقال الحزين" تكامل لا يخفى على عين. فالنظرات الذاهلة التي ترتسم في عيون الطفلين اللذين على يسار الرسم، ليس إلا رسم بالالوان لما قالته الرواية بالكلمات: مجرد أن أفكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف . . . ولكنه خوف قاسٍ جاف. . . لم يكن أحد على استعداد لان يشفق علي. . . لم أكن استطيع ان اجد بشراً ألتجئ اليه. . . وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعباً جديداً في صدري والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار. نظرة التيه والقلق وحشود الناس هي ذاتها. الامهات الملتاعات وحراس الحدود الذين عبر عنهم كنفاني بجيش الانقاذ هم نفسهم في مؤخرة اللوحة بثيابهم السود ورماحهم المرفوعة في وجه الذاهلين، يحاصرونهم من وراء وأمام ليسدوا طريق الرجوع على من اراده وتوجيه الذاهلين الذين اخذتهم المفاجأة الى حيث يراد لهم التوجه. إلا ان لوحة شموط تفترق عن قصة كنفاني في ان هذه الاخيرة جعل الاب ينهار ويفكر بقتل نفسه وابنائه، فيما جعله شموط السند واليد القوية التي تحضن وتجمع، فحركة الاصابع فوق كتفي الولدين تكاد تنغرس فيهما لدرئ ما يمكن ان يحدثه الشتات من تمزق وفرقة وضياع. ورغم ما في قسمات هذا الاب من أسى وهرم (الاكتاف المحنية والعينين الغائرتين والفمم المزموم) إلا انه يصر ولا يفرط ويستمر في لعب دوره الابوي الذي اوكلته اليه الطبيعة، دور الحامي والمؤازر ودارئ الخطر. وفي حين تغرق "أرض البرتقال الحزين" في الغيبة والجنون فتنتهي والاب يرى خلاصه باشهار مسدس يريد ان يطلقه على نفسه واولاده، يضيئ لوحة شموط خلفية بيضاء رمز التفاؤل والامل بالمستقبل رغم كل السواد الذي يحيطها

ما يلفت في رسومات شموط اصراره على ابقاء المرأة في دورها التقليدي، فهي جميلة دائما في ملمحها وفي قدها. قل أن نرى امراة سمينة او قبيحة. وهي في معظم ما رسم، كي لا أقول كله، إما اماً أو حبيبة او جزءاً من حالة فولكلورية. لقد بحثت طويلا عن امرأة كأم السعد، المرأة التي تشققت يداها من العمل في تنظيف بيوت الاغنياء، التي تلحق بابنها الى المعركة، أو التي تشارك في المعركة على قدر طاقتها، ولكني لم اجدها. كما أنني بحثت عن "سعاد"، بطلة برقوق نيسان، الرفيقة الملتزمة، المناضلة الندية التي لا يقل ولا يتميز دورها عن دور الرجل فلم ار لها إلا رؤيا ضبابية كأن نستشف بعض تلك الملامح في لوحة "رنده" أو "وجه فلسطيني"

والجدير بالقول ان تماهي الاعمال الفنية لا يغمط اي من هذه الاعمال حقها ولا يضيع خصوصيتها وأن مقالتي هذه لا تنتصر لعمل على آخر بل تهدف الى لفت الانتباه الى شيء جميل في ثقافتنا الجمعية. فنحن، الفلسطينيين، مهما باعدت بيننا المسافات والاعمار والاجناس الادبية وربما حتى الخلافات العقائدية يظل يجمعنا هم أساسي ورؤية واحدة. ورغم ذلك فنحن لسنا نسخاً كربونية، بل لكل عمل فني عندنا رؤيته وخصوصيته ولا يعيبه ان تماهى او تشابه مع أي عمل آخر

ويبقى إسماعيل شموط الفنان التشكيلي الكبير في فنه، وربما الرائد أيضاً، الذي نذرموهبته وصحته الجسدية في سبيل قضيته وقضية شعبه وما هذه المقالة الا تحية احترام وتقدير في ذكرى رحيله الذي يعد خسارة للفن والثقافتين العربية والعالمية

نموذج إسماعيل شموط وغسان كنفاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى