الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عبد المجيد زراقط

جميعنا نقاوم

القنبلةُ اليدويَّة في يدي اليسرى، وفي يدي اليمنى قضيبُ حديدٍ صغير، أنبشُ به كومة ركام منزلنا، الماثلة أمامي.
منزلنا الذي ورثته عن أبي، قصفه العدوُّ الصهيونيُّ، مرَّاتٍ كثيرة، ورمَّمته، لكنَّهم هذه المرَّة دمَّروه، وفيه حفيداي إبراهيم وسميَّة وأمِّهما.

الرُّكام يحيط بي. بيوت حيِّنا صارت كُوَماَ.لا أعرف من بقي من سكَّانها حيَّاً، ومن دُفن في ركام بيته....

الأصوات الهادرة تملأ الدنيا، في غزَّة. الطائرات الحربيَّة، مثل الوحوش الطائرة، داشرة في السماء، تقصف وتقصف.... الأرض تهتزُّ كأنَّ زلزالاً يحدث، ولا ينتهي.

ألتفتُ...، لاأحد في عالمي. أنا وحدي أنبش في ركام بيتنا الذي غادرته منذ ساعات....

ثقل صدري. نبتت فيه أشواك. لم أمسح دموع عينيَّ، بقيتا تذرفان الدمع، وبقيتُ ازداد التصاقاً بالرُّكام.

يدي اليسرى التي كانت ترتجف، منذ سنوات، تحتضن هذه القنبلة، بثبات، ولا تتحرَّك فيها أنملة ...
هي في يدي منذ ساعات، غَدَت حارَّة، ألفتُها، ووعدتها بأن أجيد استخدامها. أعطاني إيّاها ابني محمد، صباح هذا اليوم، عندما سمعني أقول لزوجته:

 أنا أخرج، يا أسماء، أبحث عن ماء وخبز للأحبَّة العطاشى الجائعين.

كنت أعرف أنَّه من الصَّعب أن أفي بوعدي، فالوحشُ يواصل حصاره لنا، ولكن لابدَّ من المحاولة، ونحن شعبٌ تعوَّد على أن لا يفقد الأمل، وعلى مقاومة المحتلِّ، واستخدام السلاح.

خرجنا، أنا وابني محمد معاً، هرول هو، في الزقاق الضيِّق الملتوي، ليلتحق برفاقه المقاومين، ومشيت أنا، في الطريق العام.

مشيت بخطىً بطيئة أبحث عن ماء وخبز، وفمي جافٌّ يُلهبه حريقُ العطش ولهيب حرارة السماء والأرض.
أمسِ، صباحاً، تناولنا اَخر كِسَر خبزٍ يابسة، لم نبلِّلها بالماء كعادتنا منذ أسبوع. احتفظنا بما تبقَّى لدينا من ماء لنبلِّل شفاهنا به.

اليوم، عند الظهر، تعلَّق بي حفيداي بأيدٍ نحيلة. حضنتهما، وقبَّلتهما، جلسنا على الصوفا العتيقة، قرب النافذة. مسحت العرق عن وجه كلٍّ منهما النحيل والشاحب.

كان البيت يوصل اهتزازه . فتحت ضرفتي النافذة. لم يأت منها هواء. فحَّت، من الخارج، رائحةٌ كريهةٌ ، رائحة حرائق وبارود و...

نظرت من النافذة الضيِّقة إلى الخارج، ثم إلى السماء الزرقاء، وقلت:

 الشمسُ، اليوم، ككلِّ يوم، قرصٌ نار، يتربَّع في وسط السماء، ويُلهبُ غرفتَيْ منزلنا ، مغلقتي الأبواب والنوافذ، بحرارته.
قال ابراهيم، ابن السنوات الست : جدُّو، أنا، جائع وعطشان، وتعبان...

غصَّ، فسكت، ومسح دمعتين.

قالت سميَّة، ابنة الخمس سنوات، وهي تحاول ترطيب شفتيها الجافَّتين بلسانها الصغير: جدُّو، ماعاد فيِّي إصبر، جدُّو، الله يخلِّيك، بدِّي إشرب، وبدِّي ...

لم تكمل. خفُت صوتُها، واختفى. فقالت أسماء أمُّهما: اتركا جدَّكما، فهو مثلكما، عطشٌ وجائع، ولا يقدر على المشي...، أنا خارجة.

قطع زوجها محمد كلامها. دخل مسرعاً ، بندقيته في كتفه، وجهاز اتصالات في يده. سلَّم بسرعة. قال لها: لا تخرجي، الصهاينة قريبون من هنا، وأخشى عليك من اعتداءاتهم. أنا، عندما أعود، أجلب لكم ما نجده معهم ...
من هم؟

لم نسأله. كنَّا نعرف أنَّه يقصد جنود العدوِّ الذين يقعون في كمائن المقاومين، وهو منهم. كان هؤلاء الجنود يحملون مطرات ماء وشطائر على ظهورهم، يحسبون حساب بقائهم مختبئين، من المقاومين، في أمكنة اَمنة مدَّة طويلة.

تحلَّقنا حول محمد، فاحتضننا لحظات. ثم أفلت منَّا، وأسرع يُخرج من خزانة خشبية في المطبخ صندوقاً خشبيَّاً كبيراً، ويضعه على كتفه، ويهمُّ بالخروج. قلت له:

 الصغيران الحبيبان لا يستطيعان التحمُّل إلى أن تعود. أنا أخرج، وقد أجد مايبلُّ الرِّيق.

قال: أنت تخرج، ياأبي!؟

قلت: إبراهيم وسميَّة ما عادا قادرين على الاحتمال، وأنا أفديهما بروحي.

أخرج القنبلة من الصندوق، وقال: إن كان، ولا بدَّ، تُخْرِج هذه معك...

خرجت، وسرعان ما عدت لأرتمي أمام هذا الرُّكام ، وأنا أضرب رأسي ووجهي بيدي، ولا أعرف ما أقول. كنت أقول كلاماً غريباً، لاأعرفه. كان أصواتاً تخرج من فمي، كأنَّها نواح كبدي وقلبي، نواح موقَّع، يصدر دفقاتٍ تلي دفقات. لم يكن في رأسي شعر، لأشدَّه، فواصلت ضرب صلعتي، وأنا أنوح...

ثم لم أدر إلا، وأنا ألتصق بهذا الرُّكام، مددت يدي أحاول شدَّه إلى صدري. كانت قطع الباطون ثقيلة. لم أستطع قلب واحدة منها. رأيت قضيباً من الحديد في طرف كومة الرُّكام . أمسكته بيدي، ورحت أحرِّك القطع، وأنبش به.

تعلَّقت عيناي بحقيبةٍ تمزَّق جلدها الأزرق .هذه حقيبة كتب ابراهيم. أرادها زرقاء بلون السماء والبحر. كانت عالقة بين قطع خشب وباطون. أمسكتها برفقٍ، ورحت أسحبها. صارت قطعٌ منها بين يديَّ. قبَّلتها، شممتها. قبَّلتها من جديد...
أطلَّ وجه أبراهيم الجميل، وهو يحملها، ويلوِّح لي بيده، ويركض ليلحق بالحافلة التي تنقله هو وأخته إلى المدرسة . أرى عينيه اللوزيتين السوداوين تتعلَّقان بي ضاحكتين كعهدي به، وأسمعه يقول لي:

 نجحت...، نجحت جدُّو، نجحت، وين الهديِّي؟

قلت له كالعادة: حاضرة، ياجدُّو، فتركض سميَّة، الجميلة السمراء، ضاحكة، وشعرها الأسود الطويل يتدلَّى جديلتين على كتفيها. كانت تلوِّح بورقة علاماتها، وتغرِّد:

 أنا الأولى، هديَّتي أكبر، ياجدُّو...،

فأقول لها، وأنا أحملها، وأشدُّها إلى صدري : حاضر، ياحبيبتي، غداً يوم الجمعة، نذهب إلى السوق، وينتقي كلٌّ منكما هديَّته.

أفيق من عيشي معهما . أفتح عينيَّ اللتين كانتا تفيضان بالدموع، وأسألهما: أين أنتما الاَن؟ كيف أجدكما؟ هل صرختما عندما سقطت قطع السقف عليكما ؟ هل ناديتما: بابا ...، ماما...، جدُّو ... ، وسكتُّما...؟ اَخ...، كيف تناديانني، ولا أستطيع أن أفعل لكما شيئا!؟ وأسماء أمُّكما، ابنة أخي، وزوجة ابني، هل سمعت نداءكما؟ لاأدري ما أقول...، اَخ...، اَخ ...
أرى أمامي قطع باطون كبيرة وصغيرة، تخرج منها قضبان حديدٍ صدئة، وأرى حجارة باطون مكسرة ومفتَّتة...
هذا بيتنا، هكذا صار بيتنا ،وهكذا صار إبراهيم وسمية وأسماء، أين هم؟ أريد أن أجدهم، أريد...

فاضت عيناي بالدمع، تركته يبلِّل لحيتي الطويلة البيضاء، وتذوَّقته دافئاً مالحاً... .صار هذا الطَّعم رفيق دروبنا . ذقته، من قبل، مرَّاتٍ كثيرة...، حياتنا هي هذه المرَّات... مرارات تمرُّ في شريطٍ طويلٍ في عينيَّ:

كانت الحاجة خديجة، زوجتي، أمُّ محمد، تُصلح شبكتي الأولى التي كنت أصطاد بها السمك. كانت تصلحها، بعدما قطع جنود العدوّ الكثير من خيوطها، وقالوا لي : روح من هون، مافي صيد...، قلت لهم : هذه مهنتي أعيش منها أنا وأبنائي. قالوا:

 تعيش!؟ وليش تعيش!؟ هذا بحر إلنا...

سحبوا الشبكة، وقطعوا خيطانها، ورموها بعيداً. التقطتها. حملتها، وعدت إلى البيت. حكيت للحاجة ماحدث، فقالت: لا حول، ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم. اصبر، يابو محمد، الصبر مفتاح الفرج. أنا أصلحها لك، خذ الشبكة الثانية غداً، وعد إلى صديقك ...، البحر، هو بحرنا منذ ألوف السنين، وليس بحرهم.

صباح اليوم التالي، أخذت شبكتي الثانية، وقصدت بحرنا. كنت في مياهنا مع صيَّادي السمك. كنَّا نرمي شباكنا، وبينها شبكتي الثانية. حوَّمت طائرة حربية، وقصفت وسط المدينة، بيتي هناك، تركت كلَّ شيء، وركضت...، وركض الصيادون ...
الصهاينة يحاصرون الحيَّ، اعتقلونا، وأوقفونا وراء حائط رافعي الأيدي، طال وقوفنا، وعندما أفرجوا عنَّا طرت إلى بيتي ...
عندما وصلت، سمعت أبناء الحيِّ يهلِّلون ويكبِّرون. كان جثمان أمِّ محمد في نعش من النعوش المحمولة على الأكتاف ... . ذقت الطعم المالح أياماً حالكةً طويلة...

أرى دائماً صورت أمِّ محمد، وهي تقف منتصبة القامة، تحتضن أسماء، ابنة أخي، التي نجت، ذات قصف سابق، من مجزرة بيوت "مخيم النُّصيرات"، وتقول لها: الموت حقٌّ، هم السابقون، ونحن اللاحقون. الحمد لله على سلامتك. أنت فقدت أمَّاً وأباً وأخوة...، أنا وعمُّك أبواك...

كانت أسماء الطويلة الجميلة،الذكية، اللطيفة... تعمل، عندما ارتكب العدوُّ المجزرة، في مشغل الخياطة، فنجت .
احتضنتها أمُّ محمد، وأحاطتها بالرعاية في بيتنا، وداوتها بحنان الأم وحبِّها...، وبعد أن غدا الحزن جمراً غافياً، صارت كنَّتها، زوجةً لابننا الوحيد، محمد، وأنجبت إبراهيم وسميَّة، سمَّتهما باسمَي أبيها وأمِّها، وهاهما يلحقان بهما، وهي معهما...
أين هم الاَن؟ أين؟ كيف أخرجهما من هذا الرُّكام؟ كيف؟ لم يأت المسعفون بعد. تأخروا، وليس هذا من عادتهم، لابدَّ من سبب...

نهضت. رميت قضيب الحديد. مددت يداً قوية. قلبت قطعة باطون صغيرة، وقطعة أخرى مثلها. أمامي دم...، دمٌ ينزُّ، دمٌ قاتمٌ ، وليس قانياً. الدم القاني يسكن عينيّ...

مددت يدي في فجوة. أمسكَتْ أصابعي أصابع طريَّة، قلت: من هذه الأصابع يقطر الدم . شددتها. استجابت ليدي . برفقٍ سحبتها. هذه كفُّ يد إبراهيم مدمَّاة .لا، هذه كفُّ يد سميَّة . رفعتها عن الأرض. شممتها، قبَّلتها. سال دمعي. نقاطه اختلطت بدمها . ماذا أفعل، ياربَّاه؟ ابراهيم وسميَّة وأسماء يرقدون قربي، ولا أصل إليهم! أتلفَّت في كلِّ الجهات. لاأرى أحداً. هدير الطائرات ودويُّ المدافع يملأ الدنيا.

وضعت اليد المدمَّاة في صدري. أنزلتها من فتحة دشداشتي الواسعة، دقَّ قلبي دقَّات قويَّة وسريعة يرحِّب بها. يسأل: أين هم؟ ويجيب: استشهدوا عطاشى جائعين...، ويقول لي: هم استُشهدوا، وأنت بقيت، ياعجوز، تذوق طعم الملح،، وتُغرس المخارز في صدرك وحنجرتك ورأسك. لمَ بقيت!؟ ماذا تقدر أن تعمل؟

بمَ أجيب؟ لاأجوبة عندي، خرس الصوت في داخلي، مددت يدي من جديد إلى الفجوة، ولم تصل إلى اَخرها ...
سمعت أصوات انفجارات أعرفها. هذه يصنعها أبناؤنا، وأفرح بها. تلتها صيحات: الله أكبر ...، الله أكبر...

هذه صيحات المقاومين، قلت. وأضفت: الاَن، عرفت ما أفعله. سحبت يدي. ووقفت منتصباً. هذه هي المرة الأولى التي تنتصب فيها قامتي منذ زمن طويل . خطوت خطوات سريعة. جلست وراء قطعة كبيرة من جدار بيتنا، وقلت في نفسي: لابدَّ من أن يأتي الصهاينة، ليطاردوا المقاومين، فأهلاً بهم.

لم يطل انتظاري . أتى الجنود الصهاينة يمشون مثل قطيع نعاج، خمسة جنودٍ مدجَّجين بأسلحتهم، يشهرون بنادقهم، ويطأطئون رؤوسهم ، ويتلفَّتون في كلِّ ناح. صاروا في متناول قنبلتي. هيَّأَّتها ، ووقفت. رميتهم بها، وانبطحت. دوَّى انفجارها.

سقط الجميع على الأرض، وبعد دقائق، بدا أمامي ثلاثة منهم يصرخون ويئنُّون، ثم يهمدون. ثم نهض اثنان، وهربا، وهما يصرخان ويبكيان . نظرت إلى الجنود الذين يفترشون الأرض، وإلى بنادقهم وذخائرهم المرميَّة إلى جوانبهم، وقلت بصوتٍ قويٍّ: ها أنا عدت قادراً، عدت أقاوم...، ها نحن جميعنا نقاوم.

عدت إلى الرُّكام، أنبشه من جديد، وأنظر في كلِّ ناحٍ، وأسأل: هل يأتي المسعفون والمقاومون؟ ومن بعيدٍ رأيتهم نحوي يهرعون ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى