الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم موسى نجيب موسى

حلم العودة والحنين

تطل عليه من بلورتها السحرية بعينيها الخضراوين اللتين تشبهان كثيرا جنائن فلسطين الخضراء، تهمس في أذنيه متى نعود؟ تسقط البلورة فجأة وتصطدم بالأرض... تنفجر فتملأ الغرفة كلها باللون الأخضر، ينهض متثاقلا... يتحسس الأشياء.. ثم يقوم بإعداد الطعام الذي يفضله ويأخذ حمامًا فاترا حتى يبدأ يومه نشيطًا، على شاطئ جدول صغير يمر أمام منزلهما تلهو (جنين) ابنة عمه بفستانها الأبيض وفي يدها عروسة كان قد أهداها لها في عيد ميلادها الأخير... يكبرها بعام واحد... يلعبا معًا.. ويرقد كفها الرقيق بين كفيه في وداعة وهما ذاهبان معا إلي المدرسة وأيضا في رحلة العودة... عرف مبكرًا حب (جنين) له، فعندما اقترب أحد جنود الاحتلال من الجدول ليشرب وجد نفسه يقذفه بحجر في جبينه حتى انفجر بالدماء.... هرول مسرعا هربا من الجندي وغضبه، وعندما زلت قدمه وسقط هرولت (جنين) إليه لتساعده في النهوض مرة أخرى لمعاودة الجري والهرب من الجندي الإسرائيلي... وعندما ابتعدا قليلًا وجدها تضمه إلى صدرها الصغير وتقول له :

 ألف سلامة عليك الحمد لله لم يطلك غدره ولم ينل منك غضبه.
نظر إليها ودمعة ساخنة طفرت من عينه وقال لها:

 بحبك يا (جنين).

ضحكت وتذكرت فورا الجندي، ربما يكون يتتبعهما ووضعت يدها فوق فمه العذب وقالت:

 هيا نعود إلي منزلنا.
 ننتظر قليلا حتى يرحل هذا الجندي الغاشم.
 أنت لا تريده يرحل يا (إياد) حتى نظل هكذا.
ضحك وقال لها:

 فلنرحل اذن.

ضحك (إياد) وهو يتذكر هذه الواقعة، وبعد أن أغلق الباب خلفه أخذ يعدو فوق الدرج للذهاب إلي عمله... ركب سيارته، وبعدما أدار محركها لكنه توقف فجأة فقد وجد رجل عجوز يريد عبور الشارع ؛ نزل مسرعا لمساعدة الرجل... نظر إليه العجوز وقال له بلكنة عربية:

 يبدو أنك عربي يا ولدى!!!

ضحك (إياد):

 وكيف عرفت هذا؟
 يا ابني هنا في أوروبا لا يقوم بمثل هذا الفعل الطيب سوى العرب.
 نعم أنا عربي من فلسطين.

أخذ الرجل نفسا عميقا وقال له:

 فلسطين.... أرض الأجداد وأرض العرب الغالية... متى يرحل منها الأوغاد.
 الله غالب على أمره سيدي، ولكن من أين أنت؟
 من سوريا يا ولدى.
 حقا أعلم يا سيدي كل شئ فهذا وطننا العربي تمزق تماما بفعل فاعل.
 ربنا موجود يا ولدى.

وصل (إياد) بالرجل العجوز إلى الجانب الآخر من الشارع ؛ فودعه وهو يربت على ظهر يده... سحب أباه يده بسرعة من كف (أياد) الصغير وهو يودعه للذهاب مع عمه للقيام بعمل فدائي ضد قوات الاحتلال الرابضة قريبا من منزلهم.. تمسك (إياد) بيد أبيه أكثر وأخذ يقاوم محاولات أبيه لإفلات يده من يد (إياد) حتى نجح أبوه أخيرًا في الإفلات من قبضته وهرول مسرعا....اتجه (إياد) ناحية السيارة حتى يستطيع الذهاب إلي عمله... ذهبا ولم يعودا مرة أخرى رغم أنهما نجحا في عمليتهما الفدائية.... عندما وضع يده على عجلة القيادة طفرت دمعة ساخنة من عينيه..وقعت عيناه على باب الحديقة التى يحب الجلوس فيها كلما كان متعبا فقرر الا يذهب إلى عمله... ركن سيارته، ثم دخل الحديقة واتجه نحو شجرة يحب الجلوس أسفلها... سقطت فجأة ثمرة عليه تناولها بسرعة وهرول ثم أدار ظهره ليكون أمام الجدول الصغير،غسلها فيه ثم ناولها إلي (جنين) كي تأكلها ابتسمت (جنين) وقالت له:

 نحن معا ويجب أن نتقاسم كل شئ معا.
 الثمرة هدية السماء لك.
 لن أتذوقها إلا معك.
وابتسم ثم قال:

 أحبك (جنين).
خجلت (جنين) عند سماعها الكلمة واحمرت وجنتيها خجلا لكن شعر (إياد) بهذا الخجل فمد يده برفق ووضعها على خدها وقال لها:

 لاتخجلين فسيكون عرسنا هو يوم التحرير.
 هل تعتقد أننا سنتزوج فعلا؟
 هل تشكين إننا يوما ما سوف نتحرر ونحرر الأرض؟
 لا أقصد هل حقا سوف نحيا في أمان وسعادة ونتزوج وننجب أطفالا؟
 عندي ثقة كبيرة جدا في ربنا، وفي أبى وأبيك، وكل أولادنا الأبطال.

فرك عينيه بقوة وقام بتثاقل واضح... نظر في ساعته... قام مفزوعا فقد طالت نومته أسفل الشجرة... هرول إلى الخارج متجها نحو سيارته للعودة إلي المنزل... في طريق العودة تعانقت يده في يدها البضة، والأنوار من حولهما تحول الليل إلى ضحى، والبسمات مرتسمة على الشفاه، وفرحة حقيقية تعلو كل الوجوه، وموسيقى تصدح لتملأ المكان بهجة وفرحا بهذه المناسبة؛ فقد تحقق الحلم أخيرا وتزوجا وسط مباركة الجميع وفرحة الأهل والأصحاب والأقارب، فالكل يسارع بالتهنئة، والفرح الأكبر أن زفافهما جاء في مناسبة الاحتفالات بأعياد تحرير الأرض من مغتصبيها.. نظر إلى عروسه الجميلة (جنين) وابتسم وقال لها:

 هل تتذكرين الجيران وأولادهما؟ كنا نهرب من المنزل كي نلعب معهم،وهل تتذكرين عندما أغضبك (مصطفى) جارنا يوما ما؟ وكاد الأمر يتحول إلى معركة كبيرة بيننا وبين بعض نحن أصحاب الأرض لولا أنني تفهمت الموقف وقمت بغلق الطريق على تلك الفتنة الى كانت تنهى وحدتنا ضد العدو.

 نعم حبيبي أتذكر كل شئ في طفولتنا وشبابنا.

انطلقت الرصاصات تزغرد في السماء معلنة حالة الطوارئ القصوى؛ فقد فجر أحد الشهداء نفسه في أحد الأسواق، وأعلنت قوات الاحتلال حالة الاستنفار القصوى، وقامت بإلقاء القبض على كل من تواجد في السوق من شباب وأطفال وعجائز وسيدات واودعتهم جميعا في المعتقلات التي اكتظت بالأبرياء... لم يكن في مقدوره وقتها وهو ابن الخامسة عشر ربيعًا سوى أن يسترجع نفس المشهد الذي حدث في طفولته... فتناول حجرا ضخما ورمي به أقرب جندي إليه في جبينه، ولكن هذه المرة أصاب الجندي إصابة عميقة في جبينه وحاول الهرب، ولكن هذه المرة لحقوا به وأمسكوه وألقوا به في المعتقل... ظل أياما وأيامًا حبيس المعتقل ولا يعرف عنه أحد شيئا وكانت من أصعب الأيام التي مرت على أسرته وأهله وجيرانه وعلى (جنين) نفسها؛ فلم يكن أحد فيهم يتذوق طعم النوم والجميع كان يبحث عنه كالمجنون في كل مكان حتى جاء أحد شهود عيان الواقعة وكان يعرفه ويعرف أهله وأخبرهم بمكانه في المعتقل،ولم يكن مكتوبا له الخروج مطلقا؛ فقد كان جنود الاحتلال يجهزونه للمحاكمة، لولا انفراجة جاءت من السماء بتوقيع اتفاقية عدم سجن الأطفال والتى خرج على أثرها هزيل الجسد وأشعث الشعر، وتغيرت ملامحه كثيرا، ورغم ذلك هرول إلى مكانهما المعتاد عند الجدول حتى يلتقي (جنين) إلا أنه لم يجدها هناك فحزن لأنه كان يزيد أن يكون وجهها أول من تتكحل به عيناه، لم يطل حزنه كثيرا فقط أطلت (جنين) من بعيد حيث كانت في زيارة قصيرة لبيت خالتها القريب،وهرولت إليه (جنين) بسرعة وتعانقا عناقا قويا لم يفيقا منه إلا على صوت أبيهما معا وهما يقولان في صوت واحد:

 حمدا لله على سلامتك يا بطل ومحرر الأرض وفدائي المستقبل.
ابتسم وقال موجها كلامه إليهما:

 نحن نتعلم منكما فأنتما القدوة.

عانقه أبوه وعمه وذهب معهما إلى المنزل كي يطمئن أمه وباقي أفراد أسرته.... عندما دخل إلي البيت وجد جثة أبيه وعمه غارقة في دمائهما فلم ينج أحدا منهما من العملية الفدائية التي كانا يقومان بها وتبدلت فرحة القيام بعمل فدائي بحزن على موت أبيه وعمه، وألقت (جنين) بكل جسدها فوق جسد أبيها المسجى وهى تصرخ صرخات جنونية.... أفاق من ذكرياته على صوت البائع في محل الزهور وهو يناوله باقة الورد ويقول له:

 لقد صعنت لك بوكيه ورد ممتاز أتمنى أن يعجبك.

نظر إليه مصطنعا ابتسامة عريضة وهو يقول له:

 شكرا لك كم الثمن من فضلك؟

تناول من البائع بوكيه الورد وهو يحضنه ويقول في نفسه:

 أعلم كم تحب (جنين) الورد الطبيعي.

مال بجسده ليقطف وردة حمراء يانعة من بين كل الورود التي تزخر بها إحدى الجنائن التي تنتشر بكثرة في بلدهم وقدمها (لجنين) وقال لها:

 أتمنى أن تعبر هذه الوردة عن حبي لك
 لست في حاجة إلي وردة كي أعرف كم تحبني.
 لا تنسي أن الورد لغة العاشقين حبيبتي.
 أعلم ولكن أقول لك : لست في حاجة إليها؛ لأنني أعلم مقدار حبك لي، وهذه الأرض المغتصبة وتلك الجنائن كلها تشهد على حبنا النقي الطاهر؛ فنحن حكاية أرض وشعب ولسنا حكاية اثنين.
 عندك حق فلقد شهدت قصة حبنا الكثير من الأحداث التي تؤرخ لهذه الأرض وهذه الحقبة العصيبة من عمر وطننا الحبيب
 فلسطين هي الحب الكبير يا حبيبي.
 أعلم يا (جنين) وكم أتمنى أن يأتي اليوم فعلا الذي تتحرر فيه الأرض من العدوان والاغتصاب ونعيش أحرارا في بلادنا كما ولدتنا أمهاتنا.

احتضن بوكيه الورد في صدره وضمه بشدة، ثم اتجه نحو مطعم شهير في قلب العاصمة البريطانية يقدم أشهى المأكولات الشرقية، وخاصة المأكولات الشعبية الفلسطينية؛ فكلما ضغط عليه الحنين يذهب إلي هذا المطعم؛ كي يستعيد ذكرياته الجميلة حتى أن جميع العاملين بهذا المطعم يعرفونه ويعرفون طلبه قبل أن يقدموا له قائمة الطعام، بمجرد أن يجلس على المنضدة المفضلة إليه بجوار أحد الشبابيك المطلة على الشارع مباشرة.... تماما كما كان وضع منضدة الطعام في منزلهم، كانت قريبة من الشباك الوحيد بالحجرة ومطلة على الشارع تماما... دخل المطعم وبمجرد أن جلس على المنضدة وضع العاملون له طعامه المفضل والذى انتهي من تناوله سريعا، ثم اتجه نحو سيارته ليعود إلي منزله بعد هذا اليوم الملئ بالأحداث والذكريات، وكان يبادل النظر بين الطريق وبين بوكيه الورد، دخل إلي منزله، وقبل أن يقوم بتبديل ملابسه وضع بوكيه الورد على المنضدة المجاورة لباب الشقة الخارجي بجوار صورة (جنين) مباشرة، وقبل أن يدير وجهه الناحية الأخرى تناول صورة (جنين) وضمها إلي صدره وهو يحدثها:

 أين أنت الآن يا (جنين)؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى