الخميس ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم عائشة جلاب

خادم القوم سيدهم

ألف أهلُ شارع ِالسّعادَةِ العيْشَ في هُدوءٍ وسكينةٍ، و قدْ كانَ هذا الحَيّ مِنْ أنظفِ أحْياءِ المَدينةِ.

حيّ نظيفٌ بُيوتهُ ذاتُ طراز قديمٍ بأحْواش صَغيرةٍ يَزرَعُ أهلُها بَعْضَ النّباتاتِ التي تنْمُو طِوالَ العامِ، ولها نوافذ ُملونَةٌ، بَعْضُ شُرُفاتِها يتدلّى مِنْها نباتُ اللّبْلابِ بِلَوْنِهِ الأخْضرِ عَلى مَدَى الفُصولِ كَجدائِل مَنْسوجَةٍ بِطريقَةٍ عَفَويّةٍ، وبين َالبيوتِ أرْصِفةٌ مُنْتَظِمةٌ تجْعَلُ الحيّ يبْدو لِناظِرِهِ لوْحةً أبْدَعَتْها أنامِلُ فنّانٍ.

ويعودُ الفضْلُ في كُلّ هذا الجمالِ للسّيدِ بشير الحَارِسِ بإحْدَى المَدارِسِ الابتدائية، رجُلٌ قوي، مُهذّب محبوب يهتمّ بنظافة الحي و بكل شبر في المؤسسة، فقد طلب من البلدية وضع حاويات كتب على كُلّ منها الأشياء التي ترمى بها، كما يقومُ بجمع الأوراق المتساقطة منها وصناعة السماد الطبيعي وإعادتها للتربة للاستفادة منها ،وكأنّهُ يضربُ عصفورين بحجر.

وكان للسيّد بشير ابن اسمُهُ سامي يدرُسُ في المدرسة التي يعملُ بها، و كان بعضُ أصدقائه يستفزّونهُ أحيانا فيخجلُ من عمل والده حين يلتقط الأوراق المُتناثرة من الأقسام أو من الساحة ،فيُطأطئ رأسهُ ويتجنّبُ رؤية والده. بينما والده يشعر بذلك ويتجاهلُ الأمرَ.

وفي أحد الأيام نهض السيد بشير نشيطا كعادته مُتّجها نحو عمله وإذ به يستمع لحديث يدور بين ابنه سامي ووالدتِهِ قبل أن يدخُل إلى المطبخ لتناول فطوره ،فتراجع إلى الخلف لسماعهِ كلمات لم ترُقهُ ولم يشأ أن يُشعرهما بأنهُ سمعَ حديثهما فاستمع لزوجته وهي تقول لابنها: لا يجبُ أن تخجل من عمل والدك، لأنّهُ عمل شريف بفضله نحن نحيا حياة كريمة لا ينقُصُنا فيها شيء ،وهو يُحاولُ دائما أن يلبّي لك كُلّ ما تطلُبُهُ بالقدر الذي يستطيعُهُ.

ردّ الابن بصوت تخنُقُهُ الدّموعُ: ولكنّ بعض زُملائي يسخرون مني وأحيانا يرمون الأوراق والعلب ،وعندما يلتقطها أبي يلمزونني قصد إحراجي. كما أن مُعظمُهم آباؤهم يشتغلون وظائف مرموقة.

يكفي، اخْفِضْ صَوْتَكَ رُبّمَا يكونُ أبُوك مُسْتيقظا ،ولَوْ سَمِعَ هذا الكَلامَ لا أعْلمُ مَاذا سَيَحدُثُ لهُ ،كما لا يجبُ أنْ تُقارِنَ والِدَكَ بِالآخرِينَ ،مِمّنْ يهْزؤونَ مِنْ عمَلِ والِدِكَ، فهُمْ أطفالٌ ينقُصُهُمْ الأدَبُ، لِذلِكَ لا يجبُ أن تُعيرهُم أي اهْتِمامٍ.

أحسّ السّيدُ بشيرٍ بٍغُصّةٍ تعْتَصِرُ قلبَهُ وهو يسْتمعُ لِكلامِ ابنه وكأنّهُ سكاكين تخترقهُ، بقي للحظات وراءَ بابِ المطبخ يستجمعُ قواه ،وبرغم هذا الحزنِ الذي اعتراهُ دخلَ المطبخ مصطنعا ابتسامة باهتة. فبدا على سامي ووالدته بعض التوتّر وكأنّهما شعرا أنهُ استمع لكلامهما ،لكن لا أحد تجرّأ أن يسألهُ خاصّة وأنّهُ بادرهما بتحية صباحية كعادته.

خرج السيد بشير وابنُهُ مُتّجهين نحو المدرسة القريبة من البيت، ولكنّ الصّمت ساد بينهما ،كانا يمشيان ويدُ الأب تعبث بشعر ابنه بحنان وهو يسألهُ: ما ذا تتمنى أن تكون في المُستقبل أيها البطل؟

أجابهُ سامي بصوت خافت: لا أعلم، لم أقرر بعدُ.

وصلا إلى المدرسة ليفترقا بعد أن رأى سامي أصدقاءَهُ قادمين فذهب نحوهم راكضا وأبوهُ يرمُقُهُ ببعضِ الحسرة.

بدا التّعب يبدو على السيد بشير رغم أنّهُ حاول إلهاءَ نفسهِ بسقي الأشجار علّهُ ينسى ما سمعهُ صباحا، حتى أنهُ نسي خرطوم الماء مُتدفقا في غير مكانه، فانتبه صديقه واقترب منهُ سائلا إياه: ما بك؟ ألست بخير؟
لم يستطع السيد بشير الكلام، وكأن الكلمات فرّت منهُ وإذا به يسقُط على الأرض مغشيا عليه ،فأسرع بعضُ أصدقائه لحمله ونقله إلى المستشفى.

عاد سامي مساء إلى البيت، فلاحظ سيارات أمام بيتهم ،فعلم أن بعضها لأقاربهم لكنّهُ لم يفهم سبب وُجودها، لأنه لم يتعود زيارتهم دون مناسبة.

دخل بخطى مُتثاقلة والدّهشة تسيطرُ على عقله مُتسائلا بينهُ وبين نفسه عما حدث، فاستقبلتهُ والدتُهُ أمام باب البهو وآثارُ الدّموع في عينيها واحتضنتهُ قائلة: لا تخف يا صغيري أبوك بخير لقدْ تعِبَ قليلا بسببِ الإجهاد ِوسوفَ يبْقى في المُستشفى لأيامٍ ويعودُ.

أحسّ سامي بتأنيب ضميرهِ وظنّ أنهُ السّببُ فيما حدث لوالده، فطلبتْ منهُ والدتُهُ الدّخولَ إلى صالة ِالضّيوفِ فأبى، ودخل إلى المطبخ مُباشرة كي لا يرى أحدٌ حُزنهُ، فلم تشأ والدتُهُ إقحامهُ على شيء، لأنّها شعرت أنّهُ سيفهمُ الدّرس لوحدهِ بعد أن يشعُرَ بقيمة والِده.

مرّت عدّة أيام والسيد بشير في المستشفى وابنهُ يزورُهُ مع والدته وهو يراهُ ضعيفا والعديدُ من الأسلاك مُتصلة بين جسده و بعض الأجهزة المُتشابكة، يشعُرُ بفراغ كبير في البيتِ وفي قلبه وهو يتذكّرُ مواقفهُ معهُ وهو يشتري لهُ أحسن الثياب، و يأخذُهُ إلى مدن الألعاب ويُركبُهُ على الأحصنة الخشبية ويركبُ معهُ السيارات الصغيرة وعيناهُ تشعّان فرحا، تمُرّ عليه الذكريات الجميلة التي لم يكُن يشعرُ بطعمها إلإ بعد غياب والدِهِ، ليتأكّد أنهُ يمتلك أروع أبٍ في الوجود ،كان يتأمّلُ والدهُ الذي كان قويا يزرعُ الفرح في كُلّ مكان، يتأمّلُ كُلّ شجرة يمُرّ بها فتبدو لهُ كإنسان يسأل عنهُ فشعرَ وكأنّ هذه الأشجارَ تبكي في صمْتٍ على غيابِ قلبٍ أحبّها وكأنّها فردٌ مِن عائلتِهِ.

مرّت الأيامُ وسامي يزدادُ شوقا لوالِدِهِ ِ، شعرت والدتُهُ بما يعتريه من حزن فدخلت غرفتهُ لتجدهُ مُنكبّا على وجهه .رفع رأسهُ ليجد والدتهُ واقفة:

لا عليك يا بني، أعلم ما بكَ.بدأ سامي يبكي: لا يا أمّي أشعرُ أن والدي استمع لحديثي عنه.

احتضنتهُ والدتُهُ وهي تقول: والدك كان مُثابرا في دراسته، ولكنّ ظروفهُ كانت قاسية، فقد توفيَ والدهُ أي جدّك ولأنّهُ كان أكبر إخوته فقد اضطرّ لترك الدّراسة والعمل لمُساعدةِ عائلتهِ، إنهُ إنسان مُكافحٌ ويحقّ لك أن تفخر به.

كان سامي يستمعُ عن حياة والده وقد بدا لهُ بطلا نبيلا.

بدأ كُلّ من في حي السعادة يشعرون بنقص كبير، فبدت الأشجار شاحبة تلتصقُ بأغصانها النّفاياتُ، لأنّ اليد الحانية بعيدة عنها.

بعدَ عِدّةِ أسابيعَ تعاَفى السيّدُ بشيرُ وعادَ إلى بيتهِ وحيّهِ فوجدَ الشوارعَ والمدرسةَ قد تراكمتْ عليها النفاياتُ، فكتبَ إعلانا وعلّقهُ في ساحة المدرسة مفادُهُ أن تُخصّص لكُلّ نوع من النّفاياتِ مكانٌ توضعُ فيهِ، وطلبَ منَ البلديةِ إحْضارَ حاوياتٍ تضعُها خلفَ المدرسة كي لا تُشوّهَ المنظرَ،كما اتّصلَ بالمؤسساتِ الخاصّةِ بإعادةِ تكريرِ الأشياءِ المٌسْتعمَلةِ وإعادةِ صُنْعِها ثمّ يأخذون ما يجْمَعُونهُ لبيعِهِ والاستفادةِ مِنْ مبالغهِ بِمساعدة ِالتلاميذِ المحتاجين، لشراءِ ما يحْتاجُونهُ من مستلزماتِ دراسيةٍ.

أصْبحَتِ المَدرَسةُ قدوَةً يُحتذى بِها بينَ المدارِسِ التي بدأتْ تسيرُ على نهْجها بفضلِ السيّد ِبشير، الذي أرادَ مديرُ المدْرسَةِ تكريمَهُ على جُهودِهِ.

بدأوا بالتحضيرِ للاحتفالِ بالسيّدِ بشير كأحْسنِ موظّفّ في المدرسَةِ وذلك دونَ علمِهِ.

بدتِ المدرَسة ُجميلةً والمعلّمون و التّلاميذ ُوأولياؤهُمْ والموظّفونَ جالِسُون في انتظام.ٍ

وقفَ المديرُ على المنصّة ِ ليقرأ عليهم الكلمة والكّلّ منتظر:

اليوم أردتُ تكريمَ إنسانٍ قدّمَ الكثيرَ لِلمدرَسةِ التي أصْبحَت لؤلؤة تُزيّنُ المدينة ،رغم بساطة وظيفته لكنه كالطبيب الذي يقدّم لنا الوقاية قبلَ العلاجِ، بإبعادِهِ للنّفايات لتفادي الأمراض، وكان مُهندسا يجمّلُ المدرسة بذوقه الجميلِ،فاليومَ سنكرّمُ السيّد بشير كأحْسنِ شخصيةٍ في المدرسة وسيقدّمُ له الشهادة ابنهُ سامي.
بعد انتهاءِ المُديرِ مِنْ كلمته صفّق الجميعُ بكلّ محبّةٍ، وصَعَدَ السّيدُ بشيرُ وابنُهُ إلى المِنصّةِ والسعادةُ تملأ قلبيهما، وسامي يتأمّلُ أباه وهو فخور به أشدّ الفخر.

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى