خريف العمــر
أفلتت من يديه منكسرة..ذليلة وهو يصرخ في وجهها معلناً سكرة الموت قائلا:
ـ أنت عاقر.. عاقر..!!
قالت رشيدة:
ـ لا.. لا.. هذا غير صحيح؟
قال زوجها:
ـ التحاليل تثبت ذلك، انظري.. وبعثر الأوراق الطبية على سريرها واتجه نحو النافذة المطلة على البحر وأخذ أنفاساً عميقة.
تـاه من ألق العيون العسلية ذاك البريق المشع بالحب والحنان وتبدل وجهها بين لحظة وأخرى ودموع متلألئة على خديها أنهاراً، وجوارح تتلظـى، وتابوت مظلم فتح وانحنى شجـر العمر ذابـلاً.. برغم مأساتها رجعت إلى الوراء وللحسرة اليائسة منها.
قال"مولود" وهو مقطب الحاجبين:
ـ كل حياتنا كانـت خرافة.. خرافة والآن تسقط هذه الخرافة،، لا امتداد لعمري ووجـودي.. لا أريدك الآن في حياتي..
قالت رشيدة:
ـ أتسمي حياتي معك خرافة.. تنهار حياتي معك لمجـرد أنـني عاقر، وأنــا ألم تفكر في..؟
في عمري الذي كان ملكاً لك.. في شبابي الضائـع أمام بقايا عمرك، الحب لولاه ما كنت لك فريسة تشعل نارها من حطب الفؤاد وتمتص رحيق أزهاري وترميه بدون رائحة.
خيـم الصمت في الغرفة الوردية الألوان وراحت نسمات بحرية تتسلل خفية، تداعب أنفاسهما اللاهثة، وقد سرق من عينيهما السكون والحزن والألم.. عـاد إليها وهو يجمع الأوراق المبعثرة قائلا:
ـ أرغـب في الزواج لأنـجب أبناء يكونـون امتداداً لحياتي الماضية، وأنت إن رغبت البقاء فلا مانع عندي؟
في مساء مستوحش تغادر المنزل تحمل حقيبة ملابسها وبعضاً من الذكرى.. صور.. وحلي وبطاقات الورود المهداة في أعياد ميلادهــا..
ركبت سيارة أجـــرة باتجاه بيت والدها.. ترحل شاردة الذهن عبر مسافات الشوارع الطويلــة، تبدو حين تلتفت وراءهــا أنها تسقط كآخــر ورقـــة من أوراق الخريف،، تتعرى أمامها حياتها في هنيهة، تعصف بها الأفكــار المؤلمة ويقشعر بدنهـا في حركة ارتدادية، وصوت اللذة يشــد على أوتار قلبها، وحريق الروح يسري في أوصالها.. أحلام منثــورة وسط شظايـا العمر تنتعل الحزن على رصيف الطريق الملتـوي..
كيف نودع العمر دون قبلــة..
كيف نودع الحزن وقد أصبح محنــة وأصبحت رهينة الألم.. شجرة غير مثمرة.. ومرت بذهنها كلمات مؤلـمة..
أن تكوني امرأة، هـذا هـو الألم 1
عندما تصبحين فتــاة تتألمـين
عندما تصبحين عاشقــة تتألمين
عندما تصبحـــين أمـاً تتألمين
و لكن أكثر ألم لا يطاق على وجه الأرض
أن تكوني امرأة لم تعرف كل هذه الآلام
ألمـاً.. ألمـاً..
حاولت أن تكتم لآلىء دمعها أمام سائق سيارة الأجرة فغلبتها أشجانها وراحــت تعيد النظر إلى شوارع المدينة، ولكنه انتبه لخجلها وارتعش لحالها محاولا تهدئتها قائلا:
ـ هـوني عليـك يا ابنــتي...
لا شيء في هذه الدنيا الزائلة يستحــق منك البكاء عليه..
وبعد أن صمت برهة أردف قائلاً:
ـ رددي ذكر الله عز وجـل:
((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم))
هــزت رأسها مبتسمة، وكانت كلماته برداً وسلاماً على قلبها..
1 الأبيات الشعرية أن تكوني امرأة للشاعرة البلغارية بلاغاديمتروفا. ترجمة ـ د.عدنان حافظ جابر