خطر التكنولوجيا على لغتنا الفصيحة
ثمة عوامل هامة لعبت دوراً خطيراً في انصراف الكثيرين من المعنيين بالثقافة كالشعراء والأدباء والمفكرين من المثقفين في تداولهم لما هو شائع من دون النظر في صحة هذا التداول ، ظناً منهم أنَّ من كتبه وحفظه عنهم، سليم مئة بالمئة، ولا ضير من استعماله كما ورد، عدا عن هذا فهناك من يتصرّف باللغة كأنها قطعة قماش يصمِّم لها الزيَّ الذي يناسبه من دون الالتفاف إلى خطر هذا الزيّ وما قد يجره على رأس الأمة العربية من خطر محدق بها.
ومن الجهل ألا يسأل هؤلاء فقهاء اللغة العربية عن مصادر هذه الكلمات أو الدقة في تحري صحتها اعتقاداً منهم أنهم يسيرون في المسار الصحيح من دون أخذ الاعتبار للهجمات المتلاحقة من قبل أعداء العروبة والإسلام وما تسعى إليه لاقتلاع تراثنا من جذوره.
كثيراً ماطالعتني كلمات جديدة أثناء تصفحي أو قراءتي لبعض المواضيع التي تلفت انتباهي، وحين أقع على تلك الكلمة الجديدة ألجأ إلى المفكرة، أسجلها وأبحث عنها في معاجم اللغة لأتأكّد من صحتها، فلا أرى لها وجوداً، فمن أين أتى بها هذا الكاتب أو ذاك الشاعر، فأسأل نفسي هل ضاقت الدنيا على الكلمات الفصيحة حتى يلجأ هؤلاء إلى اشتقاقات جديدة ؟!
من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن جيلاً قادماً سيحذو حذوه ويحفظ هذه الكلمات في مفكرته أو كتابته أو مذكراته وفي هذا غلط خطير بحقّ لغتنا.
لأنَّ اللغة تحمل في بنيتها وفي دلالتها وفي إيحاءاتها الإرشاديّة الكثيرَ من روح الأمة وذاتها لتعبِّر عنها وعن عاداتها وتقاليدها. ولغتنا لا تتّصف بها أي لغة من اللغات الأخرى وذلك بسبب بلاغة كلماتها وغنى مفرداتها بالمعاني الجميلة والمرادفات الغنية وهي قابلة للاشتقاق والاستعارات لأنها غنيّة بالألفاظ القويّة متانة وتعبيراً وإيحاء وجمالاً. ولكن أن ندخل عليها كلمات لا وجود لها ولا رابط لغوي يربطها بلغتنا أمر مستحيل، فالمفردات الغريبة تظل غريبة شأنها شأن أي كلمة أجنبية، والفرق بين هاتين الكلمتين أن هذه كتبت بالحروف العربية والثانية بالحروف الأجنبية .
واللغة حين تصاب بالتحريف تفقد مصداقيّتها وألقها وصيرورتها ، وهي التي ترقى بأيدي مبدعيها ومتلقّيها ومحبيها وتضعف بأيدي محرّفيها ومشوّهيها ومعرّبيها.
واللغة وطن تحمل عليها التضاريس من الأحداث والمشاعر والطموحات والانتصارات والخسارات وتعبر عن تاريخ كامل. ويزعم بعضهم أنها أداة للتوصيل أو التعبير لهذا تجدهم يفكّرون بالكلمات الجديدة المخترعة قبل تفكيرهم بصحّة هذه الكلمة من اللغة، وكأنها أصبحت أداة للّعب بتركيب الحروف، وتحليل ما لايحقّ لهم أن يحللوه، لأن أمراً كهذا يحتاج إلى فقهاء وباحثين قادرين على تقديم القاعدة الصائبة بما لايدع مجالاً للشك، إن اللغة هي وسيلة للتفكير والتعبير السليم وهما أي التفكير والتعبير نسيج واحد مرتبط ببعضه لا يجوز أن نخلّ بواحد على حساب الطرف الآخر وإن كلا من التأثّر والتأثير يدخلان في نسيج هذه اللغة الحيّة ليعبرا عنها.
ومن الجدير ذكره أن هناك من لا يجيد القراءة الفصيحة فينصب المرفوع ويجر المنصوب وفي كتابات بعض الكتاب تجد أغلاطاً لغوية فادحة كأن لا ينتبه إلى حذف حرف العلة من الفعل المضارع المجزوم أو أن يضيف ياء المتكلم إلى كلمة أنتِ، أو الألف المقصورة على فعل الأمر / تعالَ.
اللغة العربية لغة القرآن الكريم *إنا أنزلناه قرآناً عربياً* تقديراً وتقديساً من الله عز وجل لمكانة هذه الحضارة، الأم، الوطن.
فهي الوعاء الذي يزداد رقة وشفافية كلما حصنّاها بما يحفظ قيمتها العليا .
واللغة العربية حجة الإسلام والحديث النبوي الشريف وهي المنطلق الفكري والديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي لكل العلاقات البشرية.
ومن يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية مدركة لحركات الكلمات وموقعها من الإعراب يستمتع بجَرْسها الموسيقي العذب ويسمو بروحه في ملكوت من الخشوع الروحي يسري في جسدك كجريان الماء البارد من نبع صاف.
ولغتنا هي لغة التبجيل والتعظيم ورحابها واسعة وجميلة لأنها جسر لعلاقة روحيّة متينة ديدنها التواصل من خلال نقل ثقافة المعرفة والعلم والتعلّم.
وهؤلاء المتحذلقون الذين ينسجون من حروف اللغة نسيجاً مهلهلاً لن يدوم، لأنهم يصنعون الألفاظ التي لا صحة لها كأن يضيف أحدهم حرف التاء على كلمة رذاذ لتصبح ترذاذ، ومعنى الكلمة، الرذاذ: المطر الضعيف أو الساكن الدائم الصغير القطر كأنه الغبار ، وأرذت السماء :أمطرت رذاذاً، أو يضيفون على فعل وجد ألفاً ونوناً لتصبح، انوجد، ومثل هذه الأمثلة كثير في كتابات بعض الكتَّاب الذين يريدون أن يلفتوا الأنظار نحو كتاباتهم التي تشكّل خطراً فادحاً على أمتنا ووطننا وأجيالنا القادمة .
التشويه يسبّب الضرر، والمتضرّر لن يكون وحيداً في ضرره، بل سينعكس هذا الأمر على الأمة والوطن واللغة ، تلك اللغة التي وحدت آمالنا وجمعت شملنا وهذبت نفوسنا وأنضجت عقولنا ويسّرت أمورنا وفتحت أبواب حضارتنا في انطلاقها نحو الغرب الذي أخذ الدسم المفيد ودس لنا السم الخطير.
أن تبتكر شيئاً له صلة بالمادة أمر لا تحاسب عليه، ولكن أن تجعل الكلمة غريبة عن وطنها ،عن أصلها، عن ثوابتها، أمرٌ يصعب السكوت عنه.
الحداثة شاعت في الآونة الأخيرة من القرن العشرين واستمرت إلى القرن الحالي.
فهل تعني الحداثة تحديث اللغة أو تركيب ما لا يصح تركيبه من حروف الهجاء لنبدو مخترعين جدداً ونزهو بثوب من الجحود والنكران لتراثنا الأصيل.
الحداثة لا تعني تحديث اللغة أو اللعب بكلماتها، الحداثة تعني تحديث الأسلوب من حيث الشكل، اللعب بمفاتيح القصيدة أو الخاطرة أو القصة ... وهو اجتهاد حديث لا مانع من ممارسته شريطة ألا يسيء إلى لغتنا الأصيلة ، فهي كما سبق أن ذكرنا لغة القرآن الكريم، وكما لا يجوز تحريف أو تغيير أو تبديل أي كلمة من كلمات الكتاب المبين كذلك الأمر بالنسبة للغة الفصيحة.
وثمة قائل أو متداخل أو معقِّب على هذا الكلام يقول: وماذا عن اشتقاقات لبعض كلمات مثل قوس قزح أو سيمفونية أو موسيقا أو خندق .. الخ ، ماذا لو حولناها إلى أفعال؟ ما الضير في ذلك.
من المؤكد أنه لا ضير في اشتقاق ما ذكرت كأن نقول: تقوزحت السماء أي كان فيها قوس قزح، أو سمفن البحر هدير الموج من كلمة سيمفونية، أو تموسقت رياح الصحراء من كلمة موسيقا، أو تخندقت أفكاره من كلمة خندق كتعبير مجازي ، فهي أسماء جامدة، وفي هذا علينا أن نفرّق بين الاشتقاق من الاسم الجامد والفعل المتحرك الثابت معنى وحرفاً. وهنا إشارة إلى أن لغتنا غير معقّدة بل مطواعة في حدود الصواب لا الخطأ والتحريف.
وإذا كان ما يقدم عليه بعض من هؤلاء الكتّاب صحيحاً وسليماً ولا غبار عليه و لا جنحة ضد مرتكبه من قبل الغيورين على أصالة لغتنا فلنطو الموضوع ولنبتعد عن الحديث عنه ونترك الذين يغربلون الصحيح ويتركون الرديء على سطح الوعاء.
الحداثة لا تعني أن أشتغل على لغتي بما يؤذي أصالتها ومُكنتها وجوهرها، الحداثة أمرٌ واللعب بكلمات اللغة أمرٌ آخر.
وتحضرني هنا حكاية حصلت معي وما تزال كلماتها ترن في أذني. حين قيضت لي المصادفة الجميلة أن ألتقي مع وفد من جورجيا ، المصادفة جعلتني أقوم على تدريس بعض الفتيات الغربيّات مادة اللغة العربية في معهد بور سعيد للثقافة الشعبية في مدينة حلب.
دامت الدورة ستة أشهر، ومن خلال الجلسات الوديّة توجّهت إليهن بالسؤال التالي: لماذا وقع اختياركن على اللغة العربية من دون غيرها من اللغات؟
كان الجواب الذي لا يمكنني أن أنساه أبداً: كي نتعرّف على تاريخ العرب من خلال تعلّم لغتهم.
فاللغة تجسّد التاريخ بكل مفاهيمه وهي التي تعبّر عنه وتوضّح أحداثه واستشراقاته المستقبلية وهي التي تعبّر عن المدلولات المحسوسة والمدلولات المعنوية المجرّدة وعلينا إزاء ذلك أن نحافظ على أصالة لغتنا ونحميها من الكلمات الغريبة لأن زمن السؤال قادم من أجيال ستبحث وتنقب وتشيد بما قرأت، لتعبّر عن جوهر مكنونات هذه اللغة العريقة.
وعندما دخلت الشبكة الذكية تقريباً كل بيت، والتقريب هنا لا يعني الكل، فإن ملاحظات جدّ هامّة بدأت ألاحظ انتشارها في الكتابات الإبداعية، إلا من رحم ربي، وكان متقناً لجوهر لغته لا يخرج عن أصولها ولا نحوها وإعرابها... مثال ذلك همزة القطع وهمزة الوصل اللتين أصبحتا بلا ضوابط نحويّة، إذ ما عدنا نميز بين هذه وتلك، وهنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين كلمة باقة وطاقة، كثيراً ما وجدت كتّاباً لهم وزنهم لا يفرقون بين هذه وتلك أيضاً، فباقة تقال للرجال / حضر باقة من الفرسان / وطاقة ، / أحضرت أختي طاقة من الورد الجوري / كما أن كلمة (ربت) لا يأتي بعدها حرف جر ، الشائع استعماله / ربت على كتفه / والصحيح / ربت كتفه /، وغير هذا كثير من أغلاط شاع استعمالها فدرج عليها الآخرون.
لا أدّعي الأستاذية ولا تقديم درس ، لكنني شعرت بنفسي واحدة ممن يهمهم أمرُ اللغة العربية لأنني ممن يقدسون أبجديتها الأم ، لذلك وجدت أنه من الواجب أن أشارك على الأقل بما توصّلت إليه ولا حظت وجود الخطأ فيه..
ومما لاشك فيه أن استعمال الكثيرين للكتابة باللغة المحلية، قد جعل الأمر يتفاقم أكثر حيث ازدانت المواقع الأدبية والثقافية بشيوع هذه الأغلاط النحوية واستدرجت معها الكلمات العاميّة المحليّة في بعض التعليقات الأدبية ، كما تمّ إضافة أحرف زائدة في نهاية كل كلمة تأكيداً على صوتها وهذا غير لائق بلغتنا الحبيبة.
وفي الحقيقة وعلينا أن نعترف بها ونواجه خطرها بإيمان وثقة راسخة بالنفس، موضوع الدعايات والإعلانات، وأسماء المحلات التجارية، التي أصبحت تعتمد على الكلمات الأجنبية الغربيّة الغريبة بآن، لقد ضاقت بهم الدنيا فلم يجدوا سوى تقليداً أعمى خالياً من روابط التآلف مع لغتنا الحبيبة، فاستبدلوا الطيّب بالرديء من الكلمات، ولن أعرض أمثلة لأننا نعرفها جميعاً.
أمام هذا الهجوم اللاواعي وممارسته بقصديّة الحضارة والتقرّب من التكنولوجيا بكل ما قدّمته من خدمات علينا أن نعترف بها ولا نبخسها حقّها ومقابل ذلك علينا أن نكون حريصين على ديمومة لغتنا بما تحمله من إرث ديني اجتماعي تراثي أدبي، ولتقويم هذا الخلل تقع المسؤولية على عاتق المثقفين من العرب، من خلال عدم السكوت عن أي خطأ يقع فيه أي كاتب مهما بلغت درجة كماله ونجاحه، والإشارة بعين التصويب والحكمة إلى مكامن الخطأ كي يتقبّله الطرف الآخر بروح راضية، كما يجب علينا توزيع النشرات الأدبية إلى التجار للعمل على دعاياتهم الإنتاجية بلغتنا العربيّة والاستغناء عن كل كلمة دخيلة على تراثنا ولغتنا، وبهذا نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو الصواب...