

خنجر
صوت صفعة يتزامن مع قول جدي : هتتجوز غجرية بوشم!!
دافعت جدتي : فلسطينية، و مش كل الموشومات غجريات.
غضب جدي أكثر : أتضحكين علي، وكيف حضرت من فلسطين للبلد!!!
كان جدي محقا في عدم تصديقه، فنجع"بيت سالم"خاص بنا، لا يسكنه غريب سوى بعض الغجر الذين يلجأون لنجعنا لطلب الراحة وهم في طريقهم ل"ليبيا"، فيترك لهم جدي"الحجنة / أرض مرعى الأغنام الخاص بنا"ملجأ، و كانت الفلسطينية تشبه الغجريات في الجمال و الوشم و الشعر الحر من الحجاب ولجوئها للحجنه.
أحضرها عمي لتحكي لجدي عن القرية و الزيتون و القتل و التهجير...أشياء سمعها جدي من الراديو المحجوب عنا نحن الصغار، وبعدما زوج الفلسطينية لابنه صار أسير حكاياتها، كل ليلة يطلب أن تحكي ما رأت في فلسطين ثم لبنان ثم سيناء ثم القاهرة ثم رحلتها إلينا بالفيوم وهي بطريقها لليبيا التي ألغاها العشق.
بلغت الساسة عشرة فقرر جدي تزويجي كإخوتي، في العشرين من عمري كان لدي طفلين، لكن الأهم أني طلبت للجندية!!
حاول جدي دفع أموال كفدية من أسر الجندية لكن لم يتم له ذلك، صرخ جدي : جات على اليتيم اللي ما شاف أبوه.
ضحك الرجال، جاد راجل متزوج يا حاج كيف يتيم!!
علمت أني لم أكبر بعين جدي، ربما حان الأوان، طلب من أعمام وإخوتي الكبار مرافقتي حتى منطقة التجنيد، علمت أني سأجند لعامين لأني صاحب مؤهل متوسط، و لي زيارة كل شهر ما إن تنتهي مدة التدريب و أكد لي الملازم الذي أحس بقلقي و اختناقي الظاهر على شكل سحابة صفراء ظللت وجهي أن الوقت سيمر بسرعة وسلام، و مع تأصيل صداقتنا علم عن جدي و أني مدلل بيت سالم صاحب العيون الخضراء.
مرت مدة التدريب وأخيرا التقيت جدي الذي لأول مرة أرى دمعة الشوق بعينيه، أخذت قبسا من نورهم ليعينني على ظلامي القادم وعدت للجندية محملا بنور و دعوات، فالراديو أخبرنا أن الزعيم جمال بدأ بإرسال الجنود لدعم الثورة باليمن، للحقيقة كنا نسعد بأي محاولة للتحرير.
بليلة هادئة أحمل السلاح و أسير على مهل و أنا أغني أغنية جدتي"فلاح كان فات بيغني من جنب السور.... شافني و أنا بقطف كام وردة في طبق بنور... قطع الموال و ضحك لي و قال يا صباح الخير يا أهل البندر يا صباح الخير"
لم تكن مجرد أغنية، كانت رائحة جدتي و حضنها الدافي و ابتسامة جدي الذي كان يحمل ذكرى يعيد عيشها هو وجدتي بعد نومي.
حضر الملازم"على":
جاد... هننتقل اليمن!!
كان حامد قادما خلف علي وهو يكمل صراخا بدأ داخل الكتيبه: واحنا مالنا دي بره مصر و احنا جيش مصر.
رد علي بصبر صديق : الرئيس جمال يحافظ على القومية العربية.
صرخ حامد : أي قومية، الزعيم بيرضي غروره يروح يحارب هو
رد الملازم بثبات : جندي حامد ادور مكتب.
وتمت معاقبة حامد بالسجن.
تشوش عقلي لأيام، كنت أنفذ الأوامر دون وعي لم أفق من دهشتي إلا ونحن بين جبلين، وقفت العربة و صرخ بنا العقيد : احمل الذخيرة للأعلى يا جندي منك له.
فلقد كان وصولنا متزامن مع وصول عربة الذخيرة، مشى السائق خطوات مبتعدا ليقضي حاجته، استتر خلف هضبة، أفرغنا الحمولة ومع آخر صندوق صرخ العقيد على السائق ليعيده مع عربة الذخيرة لمقر القيادة بالعاصمة، لم يستجب السائق، ذهبت خلف الهضبة لأحضره، كان ممدا... سحاب بنطاله مفتوح....مفصول الرقبة، لم أقدر على الصراخ، سرت نحوهم أشير بيدي مسلوب الصوت و العقل، عندما أفقت من غيبوبتي علمت أننا نواجه حرب عصابات، لا حرب نظامية فقط مجموعات تحمل الخناجر وتسير بين الجبال التي تحفظها تنتظر منا أبسط غفوة لنكون كما السائق.
كان كل شيء يكلمنا عن الصمود، صمود في وجه من، لا أحد نواجهه، فقط أشباح، كسرت الراديو ذات ثورة مني، فنحن هنا منذ خمسة أشهر ولا يعرفون عنا غير أننا نحارب، نحن لا نحارب، نحن نذبح كالأغنام.
أخفى حامد الراديو كي لا يراه القادة و يعلمون أن جنديا فقد رباطة جأشه، ذهبت لمناوبتي على المدفع في مقدمة الكتيبة، كنت أخاف الثبات، لو ثبت بمكاني سيشرد ذهني للحظات هي كل ما يحتاجه حامل الخنجر الذي يرانا ولا نراه، رأيت على قادم من بعيد يحمل كوب شاي، وحدها صداقتنا تهون على هذا....جمل حب تدافعت بخاطري أنهتها رصاصة سكنت فخذه...
جرينا نحوه نحميه من سيل الرصاصات القادمة من أحد الكهوف، فجنودهم موزعون في الكهوف ينتظرون مع سلاحهم لقنصنا، من الواضح أني كنت الهدف..... أبلغنا السلاح الجوي عن مكان العدو، حضرت مروحية، أنهت ذخيرتها ضربا في الجبل، وبعد لحظات صمت من الرصاص و نحن نسمع صوت المروحية تستعد للرحيل ظهر الشبح من الكهف ليوجه رصاصات للطائرة، ظنناه يحاول عبثا، فابتسمنا، لكن البسمة انتهت بدموع عند احتراق مروحيتنا، لقد اخترقت إحدى الرصاصات خزان المروحية، من أين لتلك القبائل بذخيرة خارقة حارقة!!
لمحناه يتحرك، تسللنا للنيل منه، وعند منحنى جبلي ظهرنا امامه فجأة و قمنا بتصفيته، كان خده الأيسر منتفخا، هل كان يحمل سما في حال أسرناه؟
لا...إنه يأكل"القات"
هكذا اخبرنا العقيد عندما أحضرنا له شيئا مما كان في فمه.
نعم إنهم مغيبون، وربما ليسو سوى مرتزقة.
مايو 1963
صدر القرار بسحب الجنود المصريين من اليمن، و تجهزنا للعودة، لأول مرة نرى العاصمة، لأول مرة نرى اليمنيين ونسمع صوتهم، كانوا بشرا عاديين لولا تلك الانتفاخة في خدهم.
لقد وصلت الكتائب التي كانت بالعاصمة و استقبلها الزعيم، في حين لازلنا هنا بالعاصمة، فوجئنا بهجوم ممنهج، لا يهمنا مدبره قدر النجاة.
استمر القتال و محولات الفرار، نفذت ذخيرتي، نجحت في الوصول لخنجر من خناجرهم التي لا تفارق بطونهم حتى مع وجود تلك الأسلحة بيديهم، تخلصت من زي الجيش المصري و ارتديت ثوب مراهق يمني مقتول، ومع تلوث يدي بالذبح خفت مني، ابتعدت عن الجميع لأنجو منهم ومني و من شهوة الدم، تمكنت من الخروج من العاصمة فقط لأني أرتدي ثوبهم، ألهذا الحد يحكمنا القماش والألوان، تذكرت صرخة جدي"هتتجوز غجرية"!!
نادتني فتاة ترتدي لثاما، تظاهرت أني أصم أبكم، فاللغة كما الثوب تصنيف و تمييز وخطر محدق، عاونتها في حمل صندوق بعدما اجتهدت بلغة جسدها في إفهامي وسقط لثامها، كان سقوطي بجمالها مدويا، شرحت لي أنها تريد خادما فقبلت لأحتمي و لأجاورها، سرت معها وعلمت أنها ابنة سيد قبيلة ممن يقتلوننا، حاولت عدم دخول القصر، لكنها جذبتني من يدي، تذكرت كل من قتل من الكتيبة و فورا قررت قتل أبيها، لم أتخيل رؤيته بالقصر، لكن، بالطبع، فهؤلاء لا يشاركون في الحروب، يصدرون الأوامر و يلقون بشباب القبيلة فداء لمصالحهم، ما ذنب المراهق المقتول، وما ذنبنا نحن في محاربة هؤلاء لأجل هؤلاء، فما نحن إلا مزارعين من ظهور فلاحين ذهبنا للجندية رغما عنا،قلنا لأجل مصر، لكننا الآن نعيش القهر اليمني!!!
كنت كلما شعرت بالخوف تلوت سورة"الضحى"، ذات ليلة سمعتني، علمت أني مصري... صفعتني وغادرت، جريت نحو الشرفة لأهرب، لكن يدا جذبتني، وكانت القبلة الأولى... كانت شفتها السفلى ترتعش بيت شفتي، ويدها تجذبني ثم فجاة دفعتني بعيدا....كانت هكذا دوما، تجذبني... تدفعني... وانا في كلا الحالين عاشق.
كشف أمرنا خادم أبيها، دلتني على نفق للهروب، كنت أسمع صوته يضربها وهو يصرخ"عشجتي مصري"لم تنكر...
خرجت من القصر و بقيت على مقربة منه لاذبح ذاك السيد، لكنه لم يغادره، خرج رجاله للبحث عني...تحركت في الجبال و عبر الكهوف وجدت الكثيرين ممن يبحثون عنا نحن المصريين، فبادلتهم التحايا و الغدر، لم يكن برفقتهم سوى القات و بعض الزيت و الطحين، فاضطررت لأكل القات لأحتمل التحرك في الجبال، عبر سلسلة من الكهوف كانت محطتي الأخيرة بكهف على مقربة من الجيش المصري بالحديدة، قتلت ساكنه و استقريت به لأحمي الجيش من عدو صرت أعرفه.
شعرت بالحمى و بألم في بطنى كاد يقتلني، نزلت للجيش صارخا، وبعد معرفة كل ما يلزم نقلوني للمشفى وهناك علمت أن حرب الجراثيم أوقفها جمال عبدالناصر.
مرت أيام طويلة، ليل ونهار لا نعلم منه سوى محاولات تفادي الذبح.
صدر قرار بنقلنا لسيناء، حينها علمت اننا بعام يدعى 1967
دخلنا سيناء مهزومين، وخرجنا مهزومين.
عدت لمكان تجنيدي الأول، لأول مرة أضحك...كيف كنت أشكو وأنا هنا، ومما كنت أشكو!!
بعام 1968 عدت لبيتي لأجد.... لا لم أجد شيئا... جدي وجدتي ماتا.... الفلسطسنية عادت لأرض لن نقبل التنازل عنها... حتى طفولة أبنائي لم أجدها.... حاولت جلب طفولة للبيت فلم أجد رجولتي، فخناجر الحرب لم تنل مني لكن أحد الجراثيم فعل.
انتهت