الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمود محمد رمضان موسى

دائرة الهروب الماكرة

تحركت صباحًا من الإسكندرية وأنت تحمل حقيبة صغيرة، هي ذات الحقيبة التي خرجت بها من مدني، كان القطار المتجه لمرسى مطروح قديمًا وذا لون ترابي. الركاب كانوا قلة، أنتم خمسة في مقطورة كاملة، نظرت إلى النافذة المكسورة. كانت الصحراء تقابلك بذرات الرمل الناعم، تفترس وجهك الصدئ، ثم تنهزم عيناك بإغماضة، تُشبه الإغماضة التي أيقظتك منها أمك حينما أخبرتك أن الحرب قد وصلت مدني، هيا انهض.

نزلت من القطار بتعليمات المهرِّب في محطة ما قبل مرسى مطروح، قابلته في مكان ما بين الطريق الدائري والصحراء، وهي النقطة التي يجمِّع فيها المهرِّبون أعداد الهاربين. كان معي سودانيَّان من الجنوب، وعشرون مصريًا. ركبنا عربة دفع رباعي شفروليه بيضاء مكشوفة السطح، واتجهنا بالصحراء لمدة ساعتين. كان المهرِّبون الأساسيُّون يركبون عربة كيا صالون. كانوا خلفنا مباشرةً، وبعد وصولنا إلى بيتٍ في الصحراء، أخذ منا صاحب العربة نقودًا، وركبنا عربة أخرى بذات الماركة، إلا إن سطحها لم يكن مكشوفًا. كان محكمًا بقماش أخضر بالكامل، حتى لا يرانا أحد. كانت وجوه المصريين محمرة وعيونهم تتبارز فيما بينها قلقًا من هذه الرحلة المشؤومة، بحيث إن أحدهم يرتدي فانلة حمراء، وكاب أزرق. صاح فجأة وقال والدمع يتهاطل من عينيه: "أنا مش عاوز أروح، رجعوني لأبويا!".

وهنا تدخل أحد المهرِّبين الرئيسين بالصراخ، والضرب، والشتم. أسكتوه بالتهديد، وحشروه غصبًا معنا. وعلى ذلك، انطلق السائق. وكان الوقت عند الظهيرة، لم يسلم المصري ذو الكاب الأزرق من حنقنا عليه وسخريتنا من جبنه، خصوصًا أنَّ أفكارنا متحدة في أنَّ هذه الرحلة لا تحتاج أشخاصًا مترددين. كانت هذه آخر نقطة للمهربين الرئيسين، وبعدها تلاشوا خلفنا. تركونا للعربة المغلقة السطح. العربة الضيقة علينا، نحن ثلاث وعشرون ركبنا بطريقة التلاصق، كنا نستنشق بعضنا بعضًا بدل الهواء. تخدرت أرجلنا وأوجعتنا المفاصل. العرق ينز من الرأس ويتدحرج للظهر، وبعد قليل تتبلل الأجساد والأسمال حتى تنفلت الروائح المتفسخة والعطنة، وتنذر أنوفنا بالتهاب قادم. وصاحب العربة لا يهمه شيء غير التحرك، يتلوى مع الطريق، لأعلى أو ينزلق لأسفل، ينحدر لليمين ثم إلى الشمال. لم يتوقف إلا بعد أربع ساعات. أنزلونا تحت جبل، أخذ السائق نقودًا أكثر من السائق الأول، وتركنا لدى مهربين أطفال، خمسة أطفال توزعوا يمينًا ويسارًا، وفي الأمام والخلف، أصبحنا كصندوق يتحكمون فيه كيفما شاء وكيفما أرادوا. كان أحدهم لئيمًا يحمل سوطًا يضرب به كل من لا ينفذ تعليماته. تحركنا حتى منتصف الجبل، وهناك وجدنا مجموعة كبيرة من الهاربين في انتظارنا، انضممنا إليهم، وازداد العدد حتى أصبح سبعة وستين مصريًا وثلاثة سودانيين، قُسمنا لمجموعات صغيرة بأسماء مستعارة. كنا نحن السودانيين أصغر مجموعة تحمل اسم الأسد، وأخرى تحمل اسم الصيني، ومجموعة تحمل اسم البحري، وهكذا. وهذه العملية مهمة، فعند الوصول، تتواصل مع مهربك لأخذ المال بالأسماء ذاتها.

كنا في منتصف جبل ذو لون أصفر، أخذنا قسطًا من الراحة حتى أظلمت الأرض، وبعد العِشاء بمدَّة، تجمعنا كلنا في مجموعة واحدة وكبيرة.

انطلقنا لأعلى الجبل، وفور وصولنا لقمته تفاجئنا بأنَّه جزء من سلسلة جبال عالية، متشابكة مع بعضها كأهرامٍ متلاصقة بلا نهاية، فقط كنا نتحرك، وأولئك الأطفال المزعجين يصرخون ويضربون الهواء بسياطهم أن نتعجل.

مشينا ثلاث ساعات، ولا سبيل نهاية لهذه السلسلة المميتة، باغتنا صوتُ نحيب لأحدهم من الخلف، زلَّت قدم أحد المصريين وتهاوى لأسفل الجبل. وهنا صاح الأطفال أن نتحرك، أن نتركه وشأنه، ومن يخالف ذلك سيُترك أيضًا، فالطريق طويل، والجيش المصري في كل مكان. تركناه خلفنا دون شعورٍ بالشفقة، كان الظلام يحيط قمة السلسلة الجبلية بالرهبة، والرياح الصحراوية الباردة تضرب وجوهنا برطوبة فوضوية، خصوصًا أن أجسادنا المبللة بالعرق فقدت أحساسها بكل شيء. كنَّا نفكر في شيء واحد، وهو الوصول.

أخيرًا لاحت النهاية، توقفنا ونحن ننظر لما بعد السلسلة الجبلية. هناك أضواء صفراء بعيدة، بثت فينا أمل الاقتراب من الحدود الليبية، ازددنا نشاطًا بعد نزولنا من آخر جبل، بالرغم من أن الرمل يُعيق حركة مسيرنا، إلا أننا ضغطنا على أمشاط الأرجل ونجري، نجري كأبقار رأت أمامها مرعى، أو كأسهمٍ مصوبة إلى اللا شيء، نجري بتعليمات الأطفال الصغار الحافظين الطرق والمنعرجات، حتى اقتربنا من شارعٍ أسفلتي ممتلئ بناقلات البضائع، توقفنا هنا لأخذ الراحة، صاح الطفل اللئيم بلغته البدوية: "اسمعوا يا بهائم، نحن في نقطة خطرة، عليكم جميعًا أن تجروا خلفي، لا تنتظروا أحد، إن الجيش المصري موجود في كل مكان". ثم صمت الطفل لثوانٍ يمكنك فيها سماع دقات قلوبنا، كنا على أهبة الاستعداد للجري، ننتظر شارة الطفل الذي كان ينظر لأعلى وأسفل، يمشي للأمام ويرجع للخلف ويهمهم بكلمات غير مفهومة لأخوته، وفجأة صاح بأعلى صوته: " هيااا.. هيااا".

أنكب الهاربون جريًا كسيلٍ جارف، قطعنا الطريق الأسفلتي بخفة طائر، كنا نجري كمن تحمله أحلامه لا أقدامه، كسحب صيفية نفختها الرياح، لن تسمع شيئًا سوى وقع أقدامنا وهي تكبس على الرمال بأحذيتنا البلاستيكية المنهكة، ولم نتوقف إلَّا حينما صاح الطفل اللئيم بالوقوف. رتبنا الصفوف وأخذنا قسطًا من الراحة وتحركنا مشيًا من جديد. كلما اقتربنا من المصابيح الصفراء، ابتعدت عنَّا كسرابٍ خادع، مشينا خمس ساعات دون توقف، بدت عتمة الليل تذوب في بعض أضواء الصبح الفضية، اقتربنا من الوصول لسور طويل يخفي وراءه بناية وأعمدة إنارة. أخذ الطفل ما تبقى من النقود، وصاح بصوته المستفز: "أمامنا مبنى سندخله من فتحة صغيرة، عليكم ترك حقائبكم هنا، لقد اقتربتم من الوصول، هيا اتركوا حقائبكم!".
رمى أغلبنا الحقائب بعد وصولنا لفتحة ثَقَبها المهربون على الحائط، دخلنا المبنى الذي كانت الإنارة تدهنه باللون الأصفر، وكانت عبارة "تحيا مصر" المكتوبة أعلى علم مصر أول ما رأته أعيننا، وعلى الفور، انتخب المصريون ملامح الغضب والحزن والسخرية، صاح أحدهم "يخرب بيوتكم، هو أنتو ورانا ورانا".

اعتقدنا بأننا قد تجاوزنا مصر، إلا أن المبنى الذي دخلناه أوضح لنا أننا لم نصل ليبيا بعد، تحركنا بمحازاة الحائط. طلب منا الطفل الإسراع ورؤوسنا لأسفل. هرولنا كثيران هائجة نسابق بعضنا بعضًا، وإحساس الوصول يزيد من حدة الجري. كنَّا نطأ زجاجات المياه المعدنية الفارغة، فتنبعث منها صوت انفجارات حادة، وخوفنا من أن يُكتشف أمرنا عجل من سرعة الجري. عندما وصلنا إلى نهايته، تسلقنا السور بمساعدة الحبال، وكان السور عاليًا، ويحتاج بعض الخفة لتسلقه. وبما أنَّ الرغبة كانت صلبة، لم يتأخر أحد في تسلقه، ومشينا لساعة أخرى، لاحت من بعيد بعض البيوت فأوقفونا الأطفال فورًا.

انطلق الطفل اللئيم أمامنا حتى اختفى عن أنظارنا، وعندما عاد كان معه جندي من الجيش الليبي، يحمل قذيفة الصواريخ (الآر بي جي) بيده اليمنى، وبيده اليسرى هاتفًا يتحدث به مع أحدهم. كان الجندي يتوجه نحونا ببطء، لم نتبين وجهه جيدًا، كان منظره مخيفًا، كنا نراه من مكاننا كظل يحمل قذيفة قادمًا إلينا، دب الرعب فينا وصرخ أحد المصرين: "يا نهار أسود، سلمونا للجيش يا جدعان!".

وَصَلنا الجندي الليبي وصاح فينا أن نهدأ، وأن العربات قادمة لأخذنا، وبعد قليل وصلت عربتان للجيش الليبي.
قسمونا لمجوعتين، أنا كنت في المجموعة الأولى. ركبنا على الفور، وأنزلونا في قسم تابع للجيش الليبي، ألقونا في زنزانة انتظار بسقفٍ زنكي، كانت هيئتنا رثة، والتعب والمشقة ساكنة وجوهنا.

جلب لنا الجنود ماء، وكنا نتعارك في أخذها. وبعد ذلك تحدث معنا قائد المكان بأننا في قبضة الجيش الليبي، وعلينا ألَّا نخاف، فسيتعاملون معنا بكل إنسانية ورفق. وهنا، تسعرت ألسنة المصريين، وبدا نفر منهم بالعويل والبكاء.
قال أحدهم بسخرية: "يا جماعة، ما تخافوش! كلها ساعات، والشرطة المصرية هاتوجب علينا، والجيش هياخدنا على جنب بالأحضان".

صاح الذي يقربه: "يا عم أسكت".

كنت صامتًا، لا أعلم لماذا لم أخف، وكيف أصبحتُ غليظ القلب. تذكرت المصري الذي تركناه في الجبال، فتساءلت متأسيًا، لماذا لم نأخذه معنا؟! وهل وقوعنا في شراك الجيش الليبي لعنته؟!

كنت أختلس النظر في وجوه الجنود والعربات المدججة بالأسلحة، بانت أمامي مدينة مدني وطريقة خروجي منها، ذات الأسلحة المحملة على العربات، ذات اللون الأخضر الذي يرتديه الجنود، الفرق بأنني هنا لم أر إطلاق النار بعد. كنت أسألني ما جدوى هذا الرحيل والهرب؟! وهل هذا الطريق هو الخيار المنطقي للحياة؟! وما الحياة التي تنتظرني فيما هو آت؟!

فقدت الأمل في كل شيء، لذا بدأت على الفور في وضع خطط في رأسي لو رحلونا إلى السودان، وقبل كل هذه الأشياء بدأت بطني بصراخها، كنت أبدد رغبات الجوع في كل لحظة، بحيث كنت أظن أن الموقف أصعب من الاستجابة لهذا النداء البغيض، كنت أملأ بطني بالماء في كل صياحٍ لها.

أخرجونا الجنود من الزنزانة، وأخذوا اللقطات والصور بهواتفهم، ثم نقلونا بالعربات ذاتها إلى القسم الكبير في مدينة مساعد، ووضعونا بزنزانة أضخم من الأولى، بحيث أصبح عددنا مع المقبوض عليهم قبلنا كبيرًا للغاية، وأخذوا البطاقات وجوازات السفر، وحينما نظر الضابط لجوازي والسودانيَّان اللذان كانا معي، قال لنا "ضعوه في جيوبكم".

على الفور رُحل كل المصريين، وقال لنا الضابط بأنَّ السودانيين الهاربين من الحرب لن يرحلوا، فقط علينا أن نعمل كشفًا طبيَّا في مدينة طبرق، وبعدها سيخلى سبيلنا.

ركبنا نحن الثلاثة عربة نصف نقل بيضاء، مكتوب على سطحها:

"جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية".

وقبل أن تتحرك العربة، أتى بالقرب منا طفل يعمل على ما أعتقد في مطعم بذلك القسم، وسلم علينا بلهجتنا السودانية وسألنا لو كنا عطشى أو لا، وقبل أن نجيب اختفى من أمامنا وعاد بزجاجات ماء، وصاح لأخيه الأكبر وهو يناديه، قال له: "تعال سلم عليهم، ديل سودانيين"، قدم نحونا ونظر لملامحنا المنهكة، بأسمالنا المتسخة وعيوننا المحمرة من تعب الطريق. وقبل أن يسلم علينا اختفى أيضًا من أمامنا. وفي الأثناء، أتى شرطيَّان، نبهونا -بلهجة لطيفة- أن نجلس على راحتنا في العربة، ومع إدارته لزر التشغيل، عاد إلينا ذاك الشاب السوداني، حاملًا في يديه أطباق أرزٍ بالدجاج، سلمها لنا قائلًا: "تلقاكم ميتين من الجوع، دي أقل حاجة أقدر أعملا ليكم".

انطلقت العربة وهي متوجهة لطبرق، أشعل الشرطيان سيجارًا إيطاليَّا ماركة باليرمو، وأدارا مشغل الراديو، غزت الموسيقى الليبية أذني، ودون أن أشعر بدأ جسدي يميل مع غنائهم الذي لم أفهم منه شيئًا، لاحظ الشرطي ذلك على مرآته، صاح والدخان يتدحرج من فمه: "يا مرحبًا بالسوادنة".

وصلنا طُبرق، أُخذت هواتفنا ووضعنا بزنزانة طويلة أشبه بصالة عرس، أرضيتها من سجاد قطني ناعم، ممتلئة بالوسادات الصغيرة، وفي الأعلى مراوح سقف تلفظ حرًا خانقًا، وبما أن النوافذ صغيرة، ظل الهواء مختلطًا برائحة العرق فينزلق لأنوفنا ويصيبنا بالضجر، وأقصى الزنزانة جدار يفصل ما بينها وبين الحمامات. كانت الزنزانة مليئة بالفلسطينيين واليمنيين والسوريين، كانوا في هيئة جماعات على نواصي الزنزانة، يبددون الوقت همهمةً في انتظار مجيء الطبيب ليكشف على الجميع.

انطلقت نحو الحمامات، كانت الأرضية رخامية مائلة للصفرة، وبفتحي للدُّش انهمرت المياه بنعومة على جسدي المنهك. هرولت القطرات نحو شعري الممتلئ بالشيب، تنغرز لعمقه فتصحب في مسيرها الهابط كتل الرمل العالقة حتى تتلاشى تحت قدمي، تتذكر اندفاعك وأنت تغادر مدينة ودمدني رافعًا رأسك عاليًا، كضوء مصوب إلى الفراغ، حاملًا حقائبك الخفيفة، تحملك الأرجل إلى الجنوب. موسم هجرةٍ جديد عليك، قديمًا على الحياة، تدهس الأرض مسرعًا من صدى القذائف والصواريخ العالقة في السماء، تختبئ من ارتطام الرصاص على البنايات، ترحل من مدينتك ودون إلقاء نظرةٍ أخيرة، كُنت خائفًا في تلك اللحظة، لا الحرب.. كُنت خائفًا من ذكرياتي التي سأتركها هُناك.

إن الحرب آنذاك في الخرطوم قد حبلت بابنٍ جديد، وعندما بلغت شهرها التاسع، دعت الضرورة أن ينجب في مدني.

تشكو أمك نسيانها تربيزة القهوة، بينما تضحك أختك مع صغارها وهم يتذكرون حملهم لبعض الدمى الخشبية والألعاب، وأخاك الأصغر يتنحنح، منذ الخروج من البيت، ساهمًا، تسأله يتنحنح، تمد له قنينة ماء، فيتجرعها صامتًا، ثم يتنحنح. كانت أعينك تشتعل عجزًا، لا تملك عربة لتعجل إخراجهم من المدينة التي استحالت خرابًا، احترق لحظك السقيم، فأجاز صمتًا اكتست به وجوهكم المنكسرة، والناس من حولكم يسرعون الخطى لينجوا، حاملين هموهم على شكل حقائب، تتعارك نظراتهم الوجلة فيما بينها ترقبًا فيما سينتظرهم في المجهول، تُعاينك كمن يمضي من حتفه لحتفه، تسمع صياح طفلة: "ديك سنار يا بابا!".

تتمعن صينية سنار والكبري الجديد ثم الانطلاق للشرق، شرقًا بلا شمسٍ تضيء لك عتمة الدخاخين التي تركتها في حنتوب، تتجه شرقًا كمصيرٍ حتمي يقوله الناس بأن مدينة سنار أيضًا ليست آمنة.

وأنت، الذي لا تدري مم تهرب؟! أتهرب من العمر الذي أفناه الدهر وجعل وجهك مجعدًا كإشارة حتمية للشيخوخة، أم أنك تهاجر من واقعك المظلم لتحيا بمكان آخر، وهل الرحيل خيار صالح؟

تشرق الشمس في مدينة الحواتة، وتغرب معها أمنياتك الحالمة بصباحٍ دون ضجيج المدافع وأزيز الطيران.

تمضي الحرب في حصدها للأرواح، تفترس الليالي رأسك بالهذيان، تمضي مجبرًا مع أمك وأختك وأخاك وطفلتيها، وهذه المرة تنطلقان نحو الشمال. فياللمفارقة! أصبح الناس يقولون -وبحسرة جلية- السودان ما عاد آمنًا، لذا كانت الوجهة أن تتركوه خلفكم متجهين إلى مصر، ركبتم ذات العربات الشفروليه، المكشوفة السطح، في رحلة جنونية ومنهكة، تستقرون في القاهرة بشقة في السيدة زينب، وتمضي الأيام كعادتها التي لن تتخلى عنها. ترسم في جبين أمك قبلة، وتعانق أختك وأخاك، وطفلتيها الحلوتين، تودعهم متجهًا إلى ليبيا، وفي البال أحلام ضاربة في غد جيد، وقدر رحيم.

خرجت من الحمام وبدأ النشاط يسري في دمي، وللتو نده علينا الشرطي للكشف الطبي، أخرجونا في فناء القسم، أوقفونا في صفٍ طويل بدايته أمام غُرفة الطبيب وآخره السور، وعندما انتهينا من الفحص، أرجعونا إلى الزنزانة.

وبعد مدة أصبح الشرطي ينده الأسماء التي اجتازت الكشف الطبي، فبدأت الزنزانة تنقص رويدًا رويدًا، حتى فضلت أنا وحدي. مر الوقت طويلًا، وأنا أنتظر ورقة الكشف الطبي، وأخيرًا صاح الشرطي اسمي، انطلقت نحوه، متأبطًا نشوتي المزعومة في غزو شوارع ليبيا، نظر الشرطي في وجهي بعلامات أسف محزنة قائلًا:

"كشفك الطبي ليس جيدًا، أنت مصاب بالتهاب الكبد الوبائي، ستنتظر معنا لبضعة أيام حتى تنتهي الترتيبات لترحيلك إلى السودان.".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى