
دراسة تحليلية للنقائش الفينيقية البونية
يُنهي د. عبدالحفيظ فضيل الميار أستاذ التاريخ القديم بجامعة الفاتح خاتمة كتابه الموسوم بـ"دراسة تحليلية للنقائش الفينيقية البونية في أقليم المدن الثلاث في ليبيا"الصادر عام 2005 ضمن منشورات جامعة الفاتح (ISBN9959-816-61-3) بعبارة جد مهمة تكررت في كتابه أكثر من مرة" إن الفينيقيين لم يتركوا لنا مصادر أدبية مكتوبة سوى النقائش والتي هي مصدر لا يرقى اليه الشك وهو ما جعلها من أهم مصادر التاريخ الفينيقي"ص. 296، وهو محقا في هذا فعلى خلاف الاغريق والرومان لم يصلنا من الفينيقيين اية مصادر مكتوبة تعبر عن تاريخهم وحضارتهم، وقد يكون سبب ذلك هو الدمار المفرط الذي الحقه الرومان بقرطاجة ـ حاضرة الفينيقيين في الغرب ـ والذي ربما قد شمل مصادرهم الأدبية، أو انه بسبب طبيعية الفينيقيين التجارية جعلتهم لا يلتفتون إلى هذه المسائل كثيراً.
وعلى اية حال تبرز هنا النقائش التي سُطّرت على الحجر وعلى مواد آخرى بديلاً أو مصدراً مهما تُستنتج منه الكثير من المعلومات في نواح شتى من اوجه الحياة والحضارة الفينيقية، وكما يذكر د. الميار في مقدمته أن للنقائش أو النقوش أهمية كبيرة فهي"مصدر لا يرقى اليه الشك اذ هي الوثائق الاصلية المعاصرة للاحداث التي تسجلها"ص.8 ومن هنا فان هناك أهمية قصوى لدراسة النقائش الفينيقية البونية في ليبيا ذلك أن دراستها قد تسد فجوات أو ترقع ثوب تاريخ المستوطنات الفينيقية في المدن الثلاث المليئ بالثقوب، فما تزال الصورة جد قاتمة لتاريخ الفينيقيين في ليبيا عند مقارنتها بتاريخ الاغريق مثلا بسبب ما ذكره هيرودوتس من احداث تاريخية تُجلّي جوانب من تاريخهم في شرق ليبيا اضافة إلى المعالم الاثرية الباقية التي ماتزال شاهد عيان على حضارتهم، اضافة إلى الكثير من النقائش التاريخية التي تذكر جوانب من تاريخهم وحضارتهم، اما الفينيقيين في غرب ليبيا فلا توجد مصادر تاريخية فينيقية تُفصِل الحديث عنهم، مع الافتقار إلى المعالم الاثرية الفينيقية في مستوطناتهم في ليبيا (اشهرها لبقي اي لبدة، ويات اي طرابلس، صبراتن اي صبراته) باستثناء بعض العمائر الجنائزية والدينية المنتشرة هنا وهناك، ويرجح أن بناء المباني الرومانية على انقاض المباني الفينيقية ـ التي يبدو انها لم تتسم بالقوة والمتانة ـ كان عاملا لتلف الكثير منها، كما يبدو أن الفينيقيين قد ركزوا على المباني الجنائزية التي تميزت بالمتانة وصمدت اسفل المباني الرومانية انطلاقا من تركيزهم على الحياة الآخروية مقارنة بالحياة الدنيوية اسوة بالشعوب الشرقية الآخرى المصريين القدماء مثلا لا حصرا،
كما أن النقائش الفينيقية القليلة التي عُثر عليها لاتقدم الا النزر اليسير من المعلومات التاريخية وهذا ما يؤكده د. الميار بقوله"ان غالبية النقائش التي عثر عليها لا تتضمن اي ذكر لاحداث أو اسماء يمكن ربطها بوقائع تاريخية معروفة"ص. 83، الا انها على اية حال تعكس الكثير من الجوانب الدينية والثقافية والحضارية وتسهم في معرفة التطور اللغوي للكتابة الفينيقية في ليبيا، يضاف إلى ذلك أن البحث الاثري لم يوّجه في ليبيا لاستكشاف الاثار الفينيقية والتنقيب عنها، وما زال الاهتمام مُنصباً على الاثار الاغريقية والرومانية تلك المنهجية في التنقيب التي بدأها المنقبون الايطاليون عند بداية حفرياتهم في المواقع الاثرية الليبية زمن الاحتلال الايطالي، وما زالت مستمرة ـ إلى حد كبيرـ حتى الان، وفي ظل هذه الظروف فان النقائش التي يُعثر عليها في كثير من الاحيان بالمصادفة المحضة ـ على الرغم من قلتها ـ تعد مصدرا وثائقيا اصيلا لا غنى عنه لتتبع جوانب من تاريخ الفينيقيين وحضارتهم في غرب ليبيا، الا أن الدراسات الفينيقية بصورة عامة لم يركز عليها تركيزا كبيرا في ليبيا بسبب قلة الاثار الفينيقية المكتشفة ومن بينها النقائش، لذا فان المهتمين بهذه النقائش هم قلة، واغلبهم من الاجانب، الايطاليين على وجه الخصوص وعلى رأسهمم جورجيو ليفي ديلا فيدا الذي حصر غالبية النقائش الفينيقية وقام بدراستها خلال خمسين عاما، آخرها الكتاب الصادر عام 1987 والذي حررته بعد وفاته الباحثة ماريا جوليا امداسي قوزو وضمنته جميع النقائش التي قام بدراستها ديلا فيدا منذ عام 1927حتى عام 1967، ويبدو أن د. الميار في كتابه هذا قد اعاد نشر جميع النقائش التي نشرت في ذلك الكتاب واضاف عليها نقائش عُثر عليها حديثا ونقائش بونية كتبت بحروف لاتينية سبق أن نشرها مجموعة من الدارسين الاجانب، وقد بلغ عدد النقائش التي درسها د. الميار مائة واربعة وعشرين نقيشة عُثر عليها في لبدة وطرابلس وصبراته وزليتن،وابو كماش، ومسلاتة، ترهونة، وسرت، وبئر دريدر، ووادي سوف الجين، ووادي زمزم ووادي ترغلات، ووادي العمود وقرزة وغدامس وغيرها، وهذا الامتداد الجغرافي لمواقع النقائش يؤكد تواجد الفينقيين في الجزء الغربي من ليبيا لا سيما الجزء الساحلي وان تأثيرهم (اللغوي والحضاري) وليست سيطرتهم قد امتدت جنوبا إلى المناطق شبه الصحراوية،
إذاً الكتاب عبر صفحاته الثلاثمائة والثماني والثمانين وبفصوله الاربعة يدرس النقائش الفينيقية البونية التي عُثر عليها في أقليم المدن الثلاث وهو اول كتاب يصدر عنها في اللغة العربية ومن هنا تأتي أهمية الكتاب في كونه اضافة جديدة للمكتبة الليبية والعربية التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من الدراسات.
وقد مهّدَ د. الميار لدراسته للنقائش بفصلين الاول يمثل مقدمة تاريخية (ص ص.13-42) والثاني مقدمة عن اللغة والكتابة الفينيقية (ص ص.43-84) ويلاحظ أن الفصلين برمتهما هما تلخيص لما نشره د. الميار في كتاب سابق له موسوم بالحضارة الفينيقية في ليبيا صدر عام 2001. وتكرر ذكرهما هنا لأهميتهما كمدخل لدراسة النقائش الفينيقية في ليبيا، حيث يقف المؤلف في الفصل الاول بعض الوقفات السريعة عند تاريخ الفينيقيين منذ كانوا في المشرق ثم نشاطهم البحري الذي نتج عنه تكوينهم لمستعمرات أو مستوطنات في غرب المتوسط اشهرها قرطاجة، ومن بينها ليبيا أو الجزء الغربي منها، مستعرضا الاراء الجديدة التي قيلت في هذا الصدد والتي من أهمها تاريخ الاستيطان الفينيقي في ليبيا الذي ما زال يكتنفه الغموض فمن حيث الادلة المادية (الاثرية) يعد اقدم دليل على تواجدهم في لبدة يرجع إلى القرن السابع ق.م. وتواجدهم في صبراته وطرابلس يرجع للقرن الخامس ق.م. وهذا ما ايدته بعض المصادر الأدبية (الكلاسيكية) وبعض النقائش وفقا لما يذكره د. الميار نقلا عن الايطالي دي فيتا، ومن الطبيعي
وجود علاقة وطيدة بين قرطاجة وتأسيس المدن الثلاث التي كانت محطات تجارية اي امبوريا هيمنت عليها قرطاجة واصبحت تابعة لها بشكل أو بآخر، ويبدو انه من المناسب طرح الاراء التي تُعتق تاريخ الاستيطان الفينيقي في ليبيا وتؤرخه إلى ما قبل القرن السابع ق.م. والذي لا يوجد دليل اثري يؤيده، كما يبدو أن السقوط المدوي لقرطاجة عام 146 ق.م. على يد الرومان قد ادى إلى تحرر المدن الثلاث من سيطرة قرطاجة وتبعه نوع من الانتعاش الحضري منذ القرن الثاني ق.م.، وبطبيعة الحال فقد فرضت قرطاجة نظامها السياسي على المدن الثلاث وهذا ما اثبتته النقائش الفينيقة البونية التي عثر عليها بمدينة لبدة (ص ص. 39-42) زد على ذلك اوجه حياتية وثقافية فينيقية امتزجت بمؤثرات محلية (ليبية).
اما الفصل الثاني فيتعرض فيه المؤلف لتاريخ اللغة الفينيقية وتطورها والتي يرجع اليها الفضل في تطوير الكثير من اللغات الآخرى كالاغريقية التي من المؤكد انها نقلت حروفها عن الفينيقية تلك الحروف التي اختلفت عن مثيلاتها في الكتابات الشائعة قبلهم والتي تميزت بالكتابة المقطعية والتصويرية الا أن الفينيقيين اخترعوا حروفا عبروا عنها باشكال بسيطة واضعين رمزا منفردا لكل حرف اي ما يعرف بالهجائية حيث"انهم قاموا باتخاذ الرموز التي تمثل حروفا صحيحة كأساس في تهجئة الكلمة واطلقوا عليها اسماء سامية مع اعطائها قيمة صوتية تناسب الاصوات اللغوية في لسانهم، فقد اتخذوا الرمز الذي يشير إلى رأس الثور وسموه باسم لسانهم"الف"و التي تعني في الفينيقية"ثور"(صورة رأس الثور) تتمشى مع الصوت اللغوي في اول الكلمة، وهكذا جرى وضع حروف الهجاء على هذا الاساس"(ص.50)، ثم ينتقل المؤلف إلى بيان تطور اشكال الحروف الفينيقية من خلال نقائش المدن الثلاث التي قام بدراستها مستعرضا اياها بالطريقة الابجدية (ابجد هوز) وقد زودها بجداول تحدد رسم اشكالها،
وعلى الرغم من أهمية ما قام به د. الميار من جهد في هذا الصدد، وربما يتفق معنا انه ليس مكانه هنا في الفصل الثاني ولكن الاجدى ومن المنطقي أن يكون في فصل خاص في نهاية الكتاب يلي دراسة النقائش لان ما قام به من تحليل يعد نتيجة لدراسة النقائش ذاتها، كما كان الاجدر أن يشار إلى ارقام النقائش التي استدل بها على اشكال الحروف بالارقام التي وضعها هو للنقائش التي درسها بدلا من اشارته لارقام كتاب ديلا فيدا وقوزو لانه يصعب على القارئ بهذا الشكل متابعة النقائش التي يشير اليها المؤلف، وخُتم هذا الفصل بملاحظات (ص ص.71-84) هي توطئة لدراسة النقائش في حد ذاتها من حيث انه اشار إلى اماكن العثور عليها واشار إلى موضوعاتها والتي تتركز في النقائش التذكارية أو الاهداءات المكرسة لبعض الالهة الفينيقية والليبية مثل شادراب وملك عشترت، وآمون وقرزل اضافة إلى النقائش الجنائزية المدونة على شواهد القبور والاضرحة والتي جرت العادة أن يذكر فيها اسم الميت واحيانا لقبه ونسبه والمنصب الذي كان يشغله ومن هنا ومن نقائش آخرى امكن التعرف على الكثير من الوظائف في المدن الفينيقية ومدلولاتها السياسية في نظام الحكم والادارة مثل (الشفطم) اي القاضيان و(المحازيم) اي المسئولون على جباية الضرائب والرسوم الجمركية ومراقبة الاسعار، و(الشحم) اي المسئول على الشؤون الزراعية، كما ذكرت في بعضها أن مشائخ القبائل الليبية كانوا يشرفون على العدالة (ميزوروثم) والادارة (مشرت)، وهناك النقائش التي تنقش على واجهات المباني والتي توضح من قام بالبناء والغرض من تشييدها، وتوجد شقف فخارية حملت نقائش تختص بالمعاملات الزراعية ومن ثم فان النقائش الفينيقية في الأقليم تُبرز بعض الجوانب الدينية والاقتصادية والادارية، ويمكن من خلالها تبيان الاسماء الشخصية التي كانت شائعة في الجزء الغربي من ليبيا سواء الفينيقية ام الليبية ام الرومانية منذ القرن الثاني ق.م حتى القرن الرابع أو الخامس الميلادي وهي الفترة التاريخية التي ترجع اليها النقائش محل الدراسة، وهذا في حد ذاته مدعاة للقول بافتقار الأقليم حتى الان إلى النقائش التي ترجع ما قبل القرن الثاني ق.م. والتي من شأنها أن تعكس الكثير من الجوانب الحضارية في الفترة التاريخية الواقعة من تأسيس المدن الثلاث إلى سقوط قرطاجة تقريبا.
أما دراسة د. الميار للنقائش فقد افرد لها الفصلين الثالث والرابع حيث خصص الفصل الثالث لدراسة النقائش الفينيقية البونية في أقليم المدن الثلاث (ص ص.85-192) والتي يقصد بها تلك النقائش التي استخدمت الكتابة الفينيقية البونية التي تعد تطورا للكتابة الفينيقية التي نقلها المهاجرون معهم إلى مستوطناتهم في غرب المتوسط وبفعل الزمن وبتأثيرات محلية تغير شكل الحروف الفينيقية خلال القرنين الرابع والثاني ق.م. حيث اصبحت"تتميز بطولها وانحنائها الخفيف"(ص.74) مما جعل الدارسين يطلقون عليها لفظ البونية أو البونيقية وهو لفظ اطلقه الكتاب الرومان على الفينيقييين أو الكنعانيين الذين استوطنوا غرب المتوسط بصورة عامة. ثم تطورت الكتابة البونية إلى ما يعرف بالكتابة البونية الجديدة التي هي"عبارة عن الكتابة باحرف متصلة مشتقة من البونية وهي تتميز بتطور ملحوظ في شكل العديد من الحروف يؤدي في بعض الاحيان إلى عملية خلط وارتباك"(ص.75) والتي انتشرت أو شاعت خلال القرن الاول ق.م.، وهذه النقائش ما هي الا تعبيرا ماديا عن اللغة الفينيقية التي انتشر استعمالها في المستوطنات الفينيقية واثرت في اللغة المحلية السائدة (الليبية) سواء في المناطق الساحلية أم الداخلية حتى بعد احتلال الرومان لهذه المناطق ظلت اللغة الفينيقية هي السائدة مثلما حدث في شرق ليبيا من سيادة اللغة الاغريقية بعد الاحتلال الروماني لكيريناكي (= قورينائية)، وقد اضطر الرومان في غرب ليبيا إلى كتابة النقائش باللغة اللاتينية والفينيقية في جل معاملاتهم حتى يفهمها الشعب ذو الثقافة الفينيقية، ولكن هذا لم يستمر طويلا فقد انتهت اللغة الفينيقية من المعاملات الرومانية الرسمية في عهد الامبراطور دومشيان (81-96 م) لكنها ظلت تستخدم في مجالات آخرى غير رسمية وظلت الفينيقية لغة التحاور إلى جانب اللاتينية في أقليم المدن الثلاث فترة طويلة من الزمن (ص.197)، كما ظهرت قلة من النقائش ثلاثية الكتابة فينيقية ولاتينية واغريقية، مما يدعو للقول بانتشار اللغة الاغريقية بشكل محدود في المدن الثلاث الذي قد يعكس وجود عمال البناء الذين استقدموا من اليونان للمشاركة في بناء بعض المباني في لبدة مثلا (ص ص. 208-210)، اويعكس ظهور بعض الشخصيات المهنية البارزة التي قد تكون تعلمت في بلاد اليونان مثل الطبيب بونكار مكراسي. ويمكن تتبع الملاحظات المنوه عنها اعلاه من خلال النقائش البونية التي درسها د. الميار في الفصل الثالث والبالغ عددها ست وسبعون نقيشة والتي انتهج في دراستها الاسلوب العلمي المتفق عليه في دراسة النقائش بصورة عامة والمتمثل في وصف المادة الحاوية للنقيشة وابعادها ومكان العثور عليها، ثم تناول النقش من حيث ارتفاع حروفه ونص الكتابة وترجمتها اضافة إلى شروح مستفيضة لبعض ما تحويه النقائش من اسماء شخصية ووظائف والهة وغيرها من الامور التي تحتاج إلى تعليق، ولم يكتفِ د. الميار بذلك اذ انه اعاد النظر في الكثير من النقائش التي سبق نشرها حيث أعاد قراءة بعضها من جديد وخالف بذلك قراءات الكثير من الدارسين الاجانب (النقيشة رقم 54 مثلا) كما اضاف نقيشة جديدة تشير إلى عبادة الاله الليبي قرزل عثر عليها بجوار قصر دوقا قرب ترهونة عام 1997. ولعل الجديد الذي اضافه د. الميار في نشر النقائش البونية هو استعمال الحروف العربية عند نقل أو قراءة النقيشة الفينيقية البونية لصعوبة كتابة الحرف الفينيقي وطباعته، بدلا من استخدام الحروف اللاتينية أو العبرية التي اعتاد الدارسون الاجانب استعمالها عند نشر تلك النقائش، وهذا اتجاه جديد بدأ يظهر عند المختصين العرب (تونس مثلا) في النقائش الفينيقية البونية. ولعل من نافلة القول الاشارة إلى موقع على شبكة المعلومات العالمية باشراف جامعة ليدن الهولندية يجدر الاطلاع عليه قام بحصر غالبية النقائش البونية الجديدة في العالم ومنها ما يخص ليبيا والتي وردت في الفصل الثالث من هذا الكتاب:
http://website.leidenuniv.nl/~jongelingk/projects/NEOPUNIC-INSCR/puninscr.html
أما الفصل الرابع فقد خصصه د. الميار لدراسة النقائش البونية اللاتينية في أقليم المدن الثلاث (ص ص.193-294) ويقصد بهذا النوع من النقائش تلك المنسوبة إلى اللغة البونية الجديدة ولكنها كتبت بحروف لاتينية نعم بحروف لاتينية، ذلك أن اللغة اللاتينية اصبحت هي اللغة الرسمية لسكان الأقليم حيث فرضها عليهم المستعمر الروماني ضمن سياسة رومنة العالم التي انتهجها الرومان، وفي هذا الصدد يذكر القديس اوغسطين أن روما"لم تكتفِ بفرض سيطرتها على الشعوب الخاضعة لها وانما ايضا لغتها"(ص.205)، وتدريجيا حلت اللاتينية محل الفينيقية في المعاملات الرسمية واصبحت لغة الادارة والتعامل، واضطر من يتكلم الفينيقية من سكان لبدة واويا وصبراته لتعلم اللاتينية حتى يستطيع التعامل مع الرومان الذين اصبحوا سادة أقليم المدن الثلاث وفرضوا هيمنتهم الثقافية ـ أن جاز التعبير ـ التي ابرز صورة لها اللغة اللاتينية مما ادى إلى التراجع القسري للغة الفينيقية حتى اصبح من يتكلم الفينيقية محل استهزاء وسخرية والادلة الأدبية على ذلك كثيرة (ص.196) لكن هذا لا يعني باية حال انتهاء الفينيقية لانها لم تكن لغة فحسب بل ثقافة ونظم وعاداتمارسها السكان لفترات طويلة اي انها اصبحت جزء من حضارتهم، لكنها وان تراجعت في المدن الثلاث الرئيسة (لبدة، اويا، صبراته) فانها لم تختفِ بسهولة في دواخل الأقليم (حضارة الاودية الليبية) الذي كان في البداية بعيدا عن التأثيرات المباشرة للثقافة الرومانية مما جعل سكانه يتكلمون الفينيقية إلى جانب لغتهم الليبية، لكنهم عرفوا اللاتينية فيما بعد من خلال اتصالهم بالرومان بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذه المعرفة لا تعني انتشار اللغة اللاتينية بينهم فقد اكتفوا باستعارة الحروف اللاتينية في كتابة لغتهم الفينيقية تقليدا للنقائش اللاتينية تماشيا مع (موضة) العصر. وقد ناقش د. الميار الاسباب التي دعت إلى استعمال الحرف اللاتيني في كتابة اللغة الفينيقية في دواخل الأقليم وهي ظاهرة أكثر ظهورا في هذه المنطقة مقارنة ببقية المستوطنات الفينيقة في ليبيا وفي الشمال الافريقي بصورة عامة (ص ص.203-205)، وما دلل عليها ظهور مجموعة كبيرة من النقائش لغتها الفينيقية (البونية) الجديدة بحروف لاتينية عُثر عليها في دواخل أقليم المدن الثلاث تؤرخ ما بين اوائل القرن الثالث الميلادي واستمرت إلى نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الخامس الميلادي تقريبا، تلك النقائش التي درسها د. الميار والبالغ عددها ثماني واربعين نقيشة، (ص ص.213-294)
وتمثل دراسة الميار إعادة نشر وتحقيق لنقائش سبق أن نشرها جودتشايلد مثل نقائش بئر دريدر (جنوب شرق مزدة) ونقائش آخرى من ترهونة، وتلك التي نشرها ليفي ديلا فيدا وعثر عليها في لبدة وزليتن ومسلاتة، وآخرى نشرها بارتوتشيني عثر عليها في لبدة وسرت، ونقائش نشرتها رينولدزعثر عليها في بعض الاودية مثل وادي ام العجرم وليس ام الجرم مثلما جاء في الكتاب (ص ص. 265، 308) وغيرها من المواقع مثل قرزة، ومما تجدر الاشارة اليه أن النقائش التي سبقت الاشارة اليها قد اعاد نشرها د. الميار في رسالته للدكتوراه التي نشرها مركز جهاد الليبيين باللغة الانجليزية عام 1997، ونشر بعضها باللغة الانجليزية في مجلة دراسات ليبية (Libyan Studies) 1982-1983، ونشر بعضها باللغة العربية عام 1997 ضمن اعمال مؤتمر الآثاريين العرب الثالث عشر المنعقد بطرابلس عام 1995، اضافة إلى نقيشتين نشر د. الميار احدهما في مجلة ليبيا القديمة عام 1998، والآخرى عُثر عليه في ترهونة ويعد اول نشر لها في هذا الكتاب، ولعل من نافلة القول أن يذكر أن هذه النقائش ما زالت محل دراسة وتمعن من المتخصصين وآخرها رسالة دكتوراه روبيرت كير (Kerr) التي نوقشت في جامعة ليدن بتاريخ 21/2/2007.
وقد اتبع د. الميار في دراسته للنقائش ذات المنهجية المتبعة في دراسة النقائش في الفصل الثالث لكنه هنا نقل النص بحروفه اللاتينية لسهولتها، ويقر د. الميار بصعوبة التعامل مع تلك النقائش وترجمتها بسبب عدم فهم معاني الكثير من الكلمات التي اخطاء كاتبها نحويا أو لغويا، اضافة إلى أن بعض الباحثين لم يقر باصلها الفينيقي وعدها قد كتبت باللغة الليبية وليست الفينيقية وهذا ادى إلى عدم التوصل إلى ترجمة متفق عليها من قبل كثير من الباحثين (ص ص. 208، 212)، وقد استدل من دراسته لتلك النقائش أن القصور (بيوت المزارع المحصنة) المنتشرة في منطقة الحدود الرومانية في جنوب أقليم المدن الثلاث ليست بالضرورة مواقع دفاعية أنشأها الجيش الروماني وفقا لرأي جودتشايلد بل أن بعضها بيوت خاصة (الكنتاريوم) اقامها رجال القبائل (الجنتيلز) لحماية اراضيهم (ص.206)"فلافيوس داساما وابنه مكرينوس مالكي الارض من اقاما هذا الكنتاريوم (البيت) لحراسة وحماية جميع حدود ارضهم"، وقد اثبتت بعض النقائش أن الرومان قد استفادوا من مشائخ القبائل وعينوهم امراء مواقع عسكرية لمساعدتهم في حماية منطقة الحدود مثلما حدث في منطقة بئر دريدر وانيطت بهم السلطات الادارية وتحقيق العدالة في الاماكن التي تحت سيطرتهم (ص.207)، ومن ثم فان الرومان استغلوا السكان المحليين لحماية الحدود وهذا ما جعل اولئك السكان طواعية أو غصبا يكتبون لغتهم الفينيقية بحروف لاتينية، اضافة الى"تسمية اولادهم باسماء فينيقية ورومانية يدل على تأثرهم بالحضارتين الفينيقية والرومانية غير أن تأثير الحضارة الفينيقية كان اعمق من تأثير الحضارة الرومانية وما الاخيرة الا قشرة تغطي الحضارة الفينيقية"
وهي بالفعل كذلك، وبهذا يختم د. الميار كتابه المشوق والمتفرد في موضوعه بحيث يسّر على الباحثين في مجالي التاريخ والاثار في ليبيا التعامل مع الحروف الفينيقية التي كانت طلاسم لا يمكن تفسيرها الا بالرجوع إلى المراجع الاجنبية، وقد زود هذا الكتاب الرصين ببعض الجداول التوضيحية لعل أهمها جدول بالكلمات الفينيقية واسماء الشخصيات الواردة في النقائش التي تعرض لها الكتاب، وهي تعطي للقارئ صورة عن الاسماء الشائعة في أقليم المدن الثلاث ومجالا للدارس لاجراء المقارنات اللغوية اللازمة عند دراسة النقائش الفينيقية، وقد زود الكتاب بصور واشكال توضيحية للنقائش محل الدراسة، مع غلاف رائع لكن صورة النقيشة التي تتوسطه ظهرت مقلوبة. ويمكن الرجوع إلى موقع جامعة ليدن للاستزادة حول النقائش البونية اللاتينية في شمال افريقيا ومن بينها النقائش الواردة في الفصل الرابع ونقائش آخرى من أقليم المدن الثلاث: http://website.leidenuniv.nl/~jongelingk/projects/LATPUN/LPINTRO.htm
وخاتمة القول هذا كتاب زفه د. الميار إلى المكتبة العربية وفاتحة لدراسة النقائش الفينيقية باللغة العربية ونبراسا يهتدي به كل من يريد أن يطرق باب الدراسات الفينيقية اللغوية، ولعله صرخة توجه الانظار إلى تكوين مدرسة للتنقيب عن الاثار الفينيقية في ليبيا ودراستها.