الاثنين ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

درويش في جديده: سؤال السلالة

من الأسئلة التي يثيرها قارئ نصوص درويش الجديدة، سؤال السلالة. كلما أصدر الشاعر كتاباً جديداً، ديوان شــعر أو نصاً شعرياً مطولاً مثل " جدارية "، أو نصاً أدبياً مثل " في حضرة الغياب "، أثار الدارس السؤال التالي: هل يكرر درويش نفسه أم أنه يختلف في جديده عن أعماله السابقة؟

السؤال هذا والإجابة عنه يؤرقان الشاعر نفسه، فهو الذي يدرك جيداً أن الكاتب – أي كاتب – لا يكتب دائماً شيئاً جديداً مختلفاً عن نتاجه السابق اختلافا كلياً، إذ ثمة بذرة ما من أعمال سابقة أو عمل سابق تكون مرمية في العمل الجديد، وهو الذي يدرك جيداً أيضاً أن كل جديد ليس بالضرورة مختلفاً اختلافاً نوعياً عن سابقه، هو نفسه يقول بما معناه أنه لا يدفع أي عمل للنشر إلا إذا شعر أنه لا يشبهه، وهو يعني بهذا أنه لا يرغب في كتابة نصوص تكون مجرد تراكم كمي لما كتب. إنه يرغب في أن تكون تراكماً نوعياً – أي إنه يرغب في أن يضيف جديداً.

سؤال السلالة هذا يؤرق أيضاً دارس أدب محمود درويش: شعره ونثره. وربما أثار الدارس السؤال كلما قرأ جديداً لدرويش. والمناهج النقدية التفتت إلى هذا السؤال، بخاصة المنهج التاريخي الذي ينسب لـ ( برونتير )، فهذا الذي يرى أن موضوع النقد هو الحكم على المؤلفات الأدبية وتصنيفها وتفسيرها، يرى أن مهمة التفسير هي تحديد علاقات مصنف ما مع تاريخ الأدب العام، مع قوانين لونه الخاصة، مع البيئة التي ظهر فيها، وأخيراً مع كاتبه.

فأين يدرج المرء نص درويش " في حضرة الغياب "(2006) قياساً للأدب الفلسطيني ولنتاج الشاعر نفسه؟ هل اختلف أسلوب الشاعر كلياً عما أنتجه أدباء فلسطين؟ هل اختلف أيضاً عما أنتجه الشاعر نفسه؟

وربما كان درويش في " يوميات الحزن العادي "(1973) أول كاتب فلسطيني استخدم أسلوب ضمير المخاطب الوهمي. كان درويش المرسِل والمرسَل إليه معاً. ولقد استخدم الفعل المضارع، كما لو أن الحدث يجري اللحظة، كلما قرأ المرء ما كتبه الشاعر. ولقد كتب أدباء فلسطينيون آخرون، فيما بعد، بعض قصصهم، مستخدمين هذا الأسلوب الذي سيبرز بشكل لافت في رواياتي " ليل الضفة الطويل " و " تداعيات ضمير المخاطب "(1993 ) و " الوطن عندما يخون "(1994-1996) وفي نصوص نثرية كثيرة أبرزها " ربيع 2002 الفلسطيني " و " تفاصيل ذلك اللقاء "(2000). ولقد توقفت أمام هذا الأسلوب وأنا أدرس تطور السرد في الرواية الفلسطينية، وأشرت إلى أسقية درويش في " يوميات الحزن العادي ". وأظن أن " في حضرة الغياب " من حيث الأسلوب خرج من معطف " يوميات الحزن العادي ". وربما أعطانا درويش إجابة معقولة توضح لجوء الكاتب إلى مثل هذا الأسلوب: العزلة والهامش. كلما عاش المرء في الهامش وشعر بغربة عن الآخرين وظف هذا الأسلوب. لكأن المرء بحاجة إلى من يخاطبه، وحين يكون وحيداً يخاطب نفسه. يغني درويش وهو في شقته وحيداً. يغني وهو في الحمام، وتلك عادة يمارسها كثيرون ممن يكونون فرادى. يكون المرء هو المغني والمستمع، لكأنه يريد، بهذه الطريقة، أن يطرد شبح الوحدة، وأن ينتصر إليها.

على أن بذرة الأســلوب ليست هي الوحيدة التي تقول لنا إن " في حضرة الغياب " خارج من معطف نصوص درويش السابقة. هناك غير عبارة، غير مقولة، غير صورة، غير سؤال تنتشر في الكتاب كنا قرأناها في أشعار الشاعر وفي المقابلات التي أجريت معه. وإذا ما أراد المرء تتبع هذا فلن تكفيه صفحة واحدة أو صفحتان لتوضيح ذلك.

ربما اضطر المرء لكتابة مقالة مطولة، هذا بعد أن يعود إلى أعمال الشاعر والمقابلات التي أجريت معه ويقرأها من جديد. وسأقول بجرأة وبخسارة: لو حذف اسم درويش عن نص " في حضرة الغياب "، وطلب من القراء الذين عرفوا شعره جيداً، وأصغوا إليه يتكلم، أن يضعوا اسم مؤلف للنص، لما اختاروا غير اسم واحد: محمود درويش. هل يعد هذا مطعناً ومنقصة؟

لا أظن ذلك، فدرويش ابتداءً يسترجع أزمنة سابقة مر بها وكان كتب عنها: إنه الآن أيضاً يكتب عَنْها، ونحن يمكن أن نلاحظ الفرق في الأسلوب وفي الرؤية لتناول حدث واحد. وإذا كان أصحاب نظرية التلقي يقولون إن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، فنحن سنستعير المقولة منهم ونحور فيها قليلاً: إن الكتابة عن حدث واحد، يمر به المرء، في زمنين مختلفين تؤدي إلى كتابين مختلفين. وهذا ما يحدث مع درويش في " في حضرة الغياب ".

سأقرأ في الكتاب " وبحثنا عن زهرتنا الوطنية فلم نجد أفضل من شقائق النعمان التي سماها الكنعانيون " جراح الحبيب ". وسأتذكر ديوانه " لا تعتذر عما فعلت "(2003) وقصيدته " نزف الحبيب شقائق النعمان ". وسأقرأ في الكتاب عن وصفه مغيب الشمس في البحر، وسأتذكر قصيدة " برتقالية " في " كزهر اللوز "(2005). هنا أكتفي بإثارة السؤال وإعطاء مثال، ولعل هناك أسئلة أخرى !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى