
ديوان (في القدس) لتميم البرغوثي
رأيتُ وسمعت تميم البرغوثي صدفة قبل حوالي العامين ينشد أشعاره على احدى الفضائيات العربية، فأطربني وأدهشني بشاعريته اللافتة، مما أجبرني أن أتابعه طواعية، مع أنني لم أسمع به قبل ذلك، وتكرر الأمر أكثر من مرة بظهوره على الشاشة الصغيرة فتابعته باهتمام زائد، لأنني تيقنت أنني أمام شاعر مطبوع، واضح أنه قارىء نبيه لتاريخ شعبه وأمته،تماماً مثلما هو قارىء مطلع على قديم الشعر العربي من العصر الجاهلي والعصور التي تليه، حتى عصرنا الحديث، وقد استلهم التاريخ السياسي والاجتماعي كما استلهم الشعر العربي القديم، وهذا واضح في أشعاره التي سنتطرق لها في هذه العجالة، كما قرأناها في ديوانه الذي يحمل عنوان (في القدس (والذي لا يحمل اسم دار نشر أو عام الصدور، مع أننا نعرف أنه صدر في رام الله في العام 2008.
ولا غرابة في سعة اطلاع شاعرنا تميم البرغوثي، فقد ولد وترعرع في القاهرة في كنف أسرة كريمة لها باع طويل في الأدب، فوالده مريد البرغوثي شاعر من الفحول وأديب متميز، ووالدته الدكتورة رضوى عاشور أديبة لها دور ريادي في دراسة الأدب الشعبي، ومن هنا فإن للشاعر تميم أن يفخر بوالديه في قصيدته (شكر) المنشورة في الصفحة 171 من الديوان، والتي-على ما أعتقد- شكر فيها من صوتوا له في احتفالية (أمير الشعراء) قبل عامين حيث يقول:
فيا أمّة للهوى والعنادلكم مني الشكر ألفاوشكري لكم أن أظلّ كما كنتُحتى أموت بقلبٍ سليموإني أجيب اذا سألونيقبيل ملاقاة ربّ رحيموعيناي في أعين القوم يا اخوتيواثقاً، راضياً لا أغض البصر(أنا ابن مريد ورضوىبلادي فلسطينواسمي تميم)
وكأني به متأثر بـ (هؤلاء أبنائي فجئني بمثلهم).
وفي ديوانه (في القدس) الذي يقع في 174 صفحة من الحجم المتوسط، ويحوي بين دفتيه أربعاً وعشرين قصيدة، يظهر جلياً أن الشاعر مسكون بهموم شعبه وأمّته، وبهموم وطنه العربي، وان كان الهمّ الفلسطيني هو الغالب، ولا غرابة في ذلك فهو ابن فلسطين، وابن قضيتها التي شغلت العالم أجمع.
ففي قصيدته (الموت فينا وفيهم الفزع) التي يهديها الى (المقاومة في غزة) فإنه ينتقد بشدة المحتلين الاسرائيليين الذين يُمعنون في القتل والدمار، ولا يتعلمون من التاريخ،ويرى أن عقدة الخوف التي يعيشونها ويتربون هي سبب ذلك فيقول:
قل للعدى بعد كلّ معركةجنودكم بالسلاح ما صنعوالقد عرفنا الغزاة قبلكموونشهد الله فيكم البدعستون عاماً وما بكم خجلالموت فينا وفيكم الفزع
وفي قصيدته (قبّلي ما بين عينينا اعتذارا يا سماء) والذي يتحدث فيها عن قدر الفلسطينيين في نيل الشهادة مكرهين يبدو (التناص)والتأثرواضحاً مع احدى قصائد بدايات الراحل الكبير محمود درويش التي يقول فيها (نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبيّا) ويقول تميم البرغوثي في قصيدته هذه:
فاضطراراً يصبح المرء نبيّالعنة الله عليهمجعلونا أنبياءقبّلي ما بين عينيا اعتذاراً يا سماء (ص 79
وفي قصيدته (خط على القبر المؤقت) ص 94 والمقصود قبر الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والذي كانت وصيته أن يُقبر في مدينة القدس، فقبر مؤقتاً في رام الله حتى تحرير القدس، ويبدأ الشاعر قصيدته بسبعة أبيات مقفاة على وزن البحر الوافر، وفيها يصف الشاعر الجموع البشرية الهائلة التي اندفعت للمشاركة في تشييع رمزها وقائدها ومفجر ثورتها الحديثة، ويرى الشاعر أن كل مشارك في الجنازة هو مشروع شهادة فيقول:
وكلٌّ لابسٌ ثوب المناياشهيدٌ في جنازته شهيد
ويرى الشاعر أن في تشريد الشعب الفلسطيني غربتين هما: غربة التشتت وغربة القبر بعيداً عن مسقط الرأس فيقول :
غريب الناس من يحيا شريداًوفي الموت له قبر شريد
وبعد الأبيات السبعة يدخل الشاعر في قصيدة حرّة فيبدؤها بقوله :
سيدي:
يا ورطة الشعراءسأمدح ضعفك لا قوتك
فما هو ضعف الرئيس الراحل ؟؟ وفي تقديري أن الشاعر عنى فيما عناه أن حياة التشرد والتنقل من بلد الى آخر، وعدم استقراره في أي مكان تشكل نقطة ضعف في الإحاطة بحياته، لذا فإن الشاعر يقول :
سأحمل كيساً من الخيشكالشحاذين أمر به على الناسأجمع فيه كل لغات الأرض
وعندما تكتمل الصورة ويكتمل مشهد الإحاطة بحياة الرئيس الراحل فإن الشاعر يقول :
ولا بدّ من مرّةٍأن ينكتب النص الذي أريدفأقرأه وأرثيك
واذا كانت بداية حياة الرئيس الراحل مشتتة، وأراد الشاعر أن يجمعها في كيس من الخيش، فإن هذا الكيس قد استبدل بكيس من الصوف الذي هو أكثر صلابة وجدية بعد الثورة، وسيحمله الشاعر ويدور به جامعاً ما استطاع جمعه :
(سأحمل كيساً من الصوفوأمرّ به على الناس كالشحاذينيضع كل منهم فيه شيئاً)فماذا سيجمع؟(قطرة ندى)ثم ماذا؟(حذاءً قديماً)ثم ماذا؟(هندام مقاتل في بيروتيطلق النار من زاوية الشارعمنتبها للعدوولذوق الفتيات)ثم ماذا؟(دموع الخروج الى البحرالكوفية الرقطاء والشعر الطويلالكاكي المُشمّر)
وهذه اشارة الى خروج الرئيس الراحل مع مقاتلي الثورة عن طريق البحر من بيروت عام 1982 بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان.)
ثم ماذا؟(وشمس آبتحسّ بالذنب لأنها لا تحذرنالم يأذن لها الله أن تحذرنامما تنويه لنا شمس الشهر التاليأضع الشمسين في الكيس وأكمل)
فشهر آب كان فيه حصار بيروت عام 1982 وشهر أيلول سبتمبر الذي يليه كان خروج المقاومة من بيروت على ظهر سفن فرنسية
ثم ماذا سيضع الشاعر في كيس الصوف ؟
(أضع صياح امرأة تنادي الموتىفي مقبرة بلا شواهد)ثم يستطرد الشاعر الى(سؤال الصحفي الى أين تذهبون من هنا ؟والجواب ( الى القدس)هكذا كان جواب الرئيس الراحل ياسر عرفاتويواصل الشاعر:(أضع القدس في الكيس)يضع الشاعر الماضي والحاضر المعذب(اذا وضعت أمّ طفلها في القدستتلقاها ملائكة وجنودوغابت عنها سيارة الاسعافوطاقم التمريض)
ويواصل الشاعر جمع ما يريد جمعه في كيس الصوف، فيجمع صدى ماضي المدينة وثياب الشهداء ونشرات الأخبار، ورعشة يدي أبي عمار وأكياس الرمل التي وضعت على نوافذ مقر الرئيس أثناء حصاره
ثم يعرج الشاعر على الشهيدين خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو اياد) وبقية الشهداء في النص ويقول عنهم :
(فليبقوا خارجاًلم يموتوا بعد)ثم يعود الى الكيس ويضع فيه والخطاب لأبو عمار(أضع ارتباك شفتيكتقبيلك للناس)أضع اصرارك على تكرار الكلام(لغتك الانجليزية العرجاء- - - - - - - - -أضع البيجاما الزرقاء وقبعة الصوف في الكيس)
وهذه اشارة الى المرة الأخيرة التي خرج فيها الرئيس الراحل كالأسد الهرم من مقره المحاصر في رام الله وقد هدّه المرض، ولم يعد اليها الا محمولاً على الاكتاف، وقد قضى نحبه شهيداً واستسلم لقدر الله فيقول الشاعر:
(كأنك رضيت بالاجابةسلمت الورقة الى المراقب الأعظملم يعد عندك صبر أن تراجعهانظرت الى الأسئلة والاجاباتقلت: (هذا أناأتعبني الامتحان جداًالحمد لله انتهى)ويعرج الشاعر على وصية الرئيس الراحل فيقول :(افعلوا بعدي ما تشاؤونأحبوني أو لا تحبونيقدسوني أو لا تفعلوالكن اعلمواأنني لم يكن لي قوم سواكمأحبكم لأنني ليس لي أحدٌ أحبه غيركمسلام عليكمهذه قدرتي)
ثم يجمع الشاعر صفات القائد الراحل وأضدادها ويضعها في الكيس، كما يضع صورته –أي الشاعر - وهو ابن أربع سنوات واقفاً بين يدي الرئيس، يجمع كل ذلك في الكيس الصوفي ويجعل منه تميمة للشعب حيث يقول :
(أضع الكيس أماميأركز عليه علماًأكتب عليه اسماً وتاريخينأجعله حول الرقاب حجاباً)ولهذا الحجاب سحره(فمن مات منكم وهذا الحجاب على عنقهلن يموت، وان مات الا قليلاًومن عاش وهو على عنقهعاش يحمل حملاً ثقيلاً)وهذا قدر الفلسطينيينويختتم الشاعر قصيدته بقوله :(وحقك لست بدار لما نحبكلكنني أتأكد اذ يظهر القول نفسهأن سيبقى رثاؤكوالشكر والمكر يرجع في هذه لك سيديأقول سيبقى رثاؤك يا شيخنامستحيلا..)
فهكذا كان الرئيس الراحل شخصية كبيرة ذات صفات متعددة ومتناقضة تصعب الاحاطة بها.
أما قصيدة في القدس والتي تحمل عنوان الديوان فإنها قصيدة تمثل ما تمثله القدس في وجدان الفلسطنيين والعرب والمسلمين، وكافة المؤمنين في الأرض، ولم أكتب عنها لأنني وجدت نفسي سأكرر ما كتبه عنها الدكتور عادل الأسطة ونشره في مندى (ديوان العرب).
(ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع الاسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس).