

دُروبٌ عَمــيَاءْ
مساء أحد أيام الشتاء الباردة، عندما تعلن الرياح قدومها بعنف.. فتخاف منها الشمس وتبخل بأشعتها، فيحجبها سَحاب قاتم مرسوم عليه حالة الطوارئ، ليختفي الحنان بين سطوره ويرتعش كالطفل العاري الذي يحتاج إلى التدفئة وهو بجانب النار..
هناك وبأحد قرى غزة الجريحة.. غسلت الأمطار آخر بقايا الثلج بالساحة.. وقف العم محمود (الشيخ العجوز). ذلك المجاهد العظيم، الذي شاب رأسه ولم يشب قلبه.. شاخ جسده ولم يشخ إيمانه.. وانحنى ظهره، لكن عقله ظّل مستقيما سديدا.
كان المساء ماطراً جدا حين جاءه بعض الرفاق يحملون ابنه الوحيد، وهو ينزف دما من كل جسمه.
طرحوه أمام عتبة البيت، وهم يتمتمون بصوت خافت: لقد استشهد جميع رفاقه.. وجراحه بليغة جدا.
نظر إليه والده بنظرات ملتمعة يؤكد بريقها الحاد على الرغبة في البكاء، وقد أوشك أن يهمّ بذاك لكنه تشجع كعادته ولمّلم دموعه.. اقترب من ابنه الطريح أمامه قائلا: مستحيل أن أتركك تموت..
وأضاف: لازم تعيش..
ثم نادى بأعلى صوته: تعالوا ساعدوني على وضعه فوق كتفي..
وما إن أحسّ باستناده فوق كتفيه، بادر بالخروج من قريته رغم ضعفه وعدم تحمل جسمه لهذا الوزن..
كانت القرية في عزلة تامة، فلا مستشفيات قريبة ولا سيارات اسعاف.. حتى وإن وجدت هذه الأخيرة، فكيف لها الوصول أو الخروخ. فكل الطرق وأغلبية الشوارع مدمرة بفعل القصف الاسرائيلي المتواصل.
ناداه صديق من ورائه، كان قد علم مقصد العجوز: " لكن الرحلة عمياء.. والدرب دماء".
لم يجبه العم محمود الذي مضى يمشي دون أيّ التفاتة إلى الوراء.. فقد اختار الطريق الجبلي رغم خطورته.
بعد مدة من الزمن نادى على ابنه:
– أنت يا من تجثم هناك فوق.. أخبرني إن كنت تسمع شيئا أو تلمح ضوءا من أي جهة.
– لا أرى شيئا.. - قال الابن
– لابد أن نكونا قريبين..- قال العم محمود
– نعم.. لكن لا أسمع شيئا.
استمر الخيال الطويل والأسود للرجلين يتحرك صعودا وهبوطا، يتسلق الحجارة، يصغر ويكبر.. كان خيالا واحد يتأرجح.
وبعد توقف المطر من الهطول، كان القمر يتصاعد من الأرض مثل كتلة مستديرة من اللهب.
– المفروض أن نكون قد وصلنا إلى تلك القرية الآن.
نكص العجوز على عقبيه حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة، وتوقف لدقائق.. استجمع أنفاسه وهناك عدلّ حمولته دون أن يلقيها على الأرض. لم يفكر في الجلوس على الرغم من ساقيه الخائرتين، لأنه لو فعل لما استطاع من جديد التقاط جسد ابنه الجريح.
– كيف حالك؟
- في غاية السوء.
كان يتحدث قليلا كل مرة أقل من سابقتها. تمر عليه أوقات يبدو فيها نائما، وأوقات أخرى يتملكه فيها البرد. كان يرتجف..كان يستدل على الوقت الذي تمتلك فيه ابنه القشعريرة من هزاته له، ومن رجليه الملتصقتين بجنبيه، وأيضا من يديه الملفوفتين حول عنقه عندما تحركان رأسه حركات توقيعية..
كان القمر هناك في مواجهتهما، قمر كبير ملون يغمر عيونهما بالضوء، ويبالغ في تسويد خياليهما على الأرض.. وكأنه يسمع حوارهما، ويحسّ بآلامهما ليُضفي على هذه الرحلة مزيدا من الشجن والحزن والألم في قالب جد مأساوي..
– أتشعر بالألم؟
– نعم..لا أرى شيئا.. أنا عطشان.
كان الليل طويلا جدا.. ليل لا ينتهي طوله، وفجر لا يبزغ.. وتباشير الصّبح لا تظهر.
واصل سيره متعثرا. كان ينكمش ثم يفرد قامته ليعود للتّعثر من جديد. ثم يحني ظهره مجددا ويمشي كما لو كان مصابا في عموده الفقري..
– أعطني ماءً.. قال الابن بصوت جد خافت
– المكان يخلو من الماء.. لا يوجد سوى الحجارة، حتى ولو كان الماء موجودا فلن أُنزلك لتشرب، لأنه لا أحد يساعدني على حملك ثانية وأنا وحدي لا أقدر.
ثم واصل سيره.. وأخيرا ها هي ذي القرية. شاهد أسقف المنازل وهي تلمع بفعل المطر.
كان الوقت فجرا.. وصلا إلى المشفى، مال على أحد جدرانه، وأنزل ذلك الحِمل بكل هدوء.. وألقى بجسده هو الأخر.
نظر إلى ابنه الممدد، وحاول إيقاظه من نومه - كما كان يعتقد- لكن لم يتلقى أي رد. كرّر فعل ذلك عدة مرات.. علم حينها علم أنه فارق الحياة، فاغرورقت عيناه.. وأدرك أنّ رياح الردى العاتية قد هبّت منذ حين وأطفأت شعلته الأخيرة، وحطّمت قلبه مرة ثانية.
صرخ صرخة كادت تخرج معها أنفاسه: قلت لك تحمل.. يكفيني فخرا أمك الشهيدة.
ثم قبّل جبينه الندّي، وحمله بين يديه، ودموعه تتساقط دون توقف.. هذه المرة استطاع حمله دون أيّ مساعدة، ولم يحسّ أبدا بثقل جثته. تقدم بخطوات ثقيلة إلى الأمام، متمتما آخر كلمات ابنه: "في غاية السوء.. لا أري شيئا.. أنا عطشان.. أعطني ماءً."
فجأة سُمع دوي قصف عنيف من قبل طائرة إسرائيلية، هدّم كل المشفى.. علا صراخ المصابين كثيرا ثم انطفى.
حسب شهود عيان.. ونقلا عن قناة الجزيرة، فقد رصدت الكاميرا جثة العم محمود وسط السُّخام.. سقط شهيدا محتضناً جثة ابنه، وعيناه جاحظتان تُمعنان في نور الفجر المنسكب على الدنيا.