الاثنين ١٨ آذار (مارس) ٢٠٢٤
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

رجُـل القَش!

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إنَّ عُروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها قد تنزَّلت على العَرَب من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة. ربما كان من يَهرِف بمثل هذا يعرف ذلك الأصل، لكنَّ حالته، على الأرجح، تتمثَّل في حُبِّ التلبيس؛ لأهداف نفسيَّة لا تخفَى على عاقل، ولتعصُّبات ذهنيَّة، تُعمي وتُصِم. وفي ذاك من البدهيَّات شواهد، قد يسوقها نموذجٌ من الناس ليُثبِت بها على نفسه الإفلاس! وتلك من مغالطات (رجل القَشِّ)(1)، التي يركبها أمثال هؤلاء، حصانًا طرواديًّا زائفًا، من خلال دُمًى يصطنعونها- وإنْ كانوا لا يحسنون اصطناعها في الحدِّ الأدنَى- متمترسين بها دِفاعًا عن تراثهم! هذا إلى أساليب معروفة من الانتقاء والاجتزاء والبتر في بعض النصوص، بهدف توجيهها كيفما بُيِّتت الاعتقادات والنيات. وفي ذلك آية من آيات الإعياء في الاحتجاج، بالتماس ما لا يعني شيئًا في ميزان الحقائق الموضوعيَّة والعِلم. وهنا مثالٌ ثقافيٌّ واحد يكشف تاريخًا من تسيير النفوس والعقول في حروب فكريَّة غير نزيهة.

هكذا ابتدر (ذو القروح) لقاءنا. فتساءلت:

 وأين الردُّ على أمثال هؤلاء؟

 الحقُّ أنَّ الردَّ يندرج تحت تحذير الحكمة الفرنسيَّة: «من ينفِ، فإنَّما يتَّهم نفسه أحيانًا!qui s’excuse, s’accuse »(2) لأنَّ عدم نفي التُّهَم المتهافتة أَولى، على طريقة الشاعر القائل: «إذا نَطَقَ السَّفيهُ، فلا تُجِبْه!»

 لكن ما العمل إذا كثُر السُّفهاء، وكان فينا سمَّاعون لهم أكثر؟!

 صحيح، فمن نَكَد الثقافة، أن تجد نفسك أحيانًا مضطرًّا إلى إيضاح الواضحات.

 على أن من المسلمين أيضًا من هم أكثر تدليسًا، وعدم احترام لا للعقول، ولا لسياقات النصوص.

 ومنهم بشير (هذه الأُمَّة) الليبراليَّة، وهو سيِّد معمَّم. فهو الآخَر- في وجدانيَّاته، التي قد ينعتها بـ«العرفانيَّة»- يرتدُّ إلى الفكر الغنوصي العبَّاسي، مجترًّا مخاضات (ابن الراوندي) تارة، وبعض ما يُشبِه الباطنيَّات تارةً أخرى. مردِّدًا بدَوره القول بأنَّ «القرآن» من أكثر الكتب تناقضًا على وجه الأرض. وهو في ذلك أكثر من «الإنجيل» و«التوراة»، بزعمه! آخذًا بمنهاج هرمنيوطيقي، يبدو فيه عالةً على الإيراني الذي نهج هذا المنهاج (محمَّد مجتهد شبستري). على أنَّ هذا الأخير يبدو على عِلم بهذا المنهاج لا نصيب للسيِّد المعمَّم الليبراليِّ منه.(3)

 كيف يا سيِّدنا؟

 لستُ سيِّد أحد! ولكن لنقرأ النصوص التي يعبث بها الرجل في ندواته؟

 أهو يحكِّم العقل؟

 ليته يحكِّم العقل! وفرقٌ بين تحكيم العقل وتحكيم الدجل! ولكن لنر ميزان اعتدال الرجل وعقلانيَّته.

 هات!

 يبدأ لك بحكاية الآيات المدنيَّة والمكيَّة(4)، التي تتردَّد كذلك في (قناة الحياة) لدَى قمُّصها الهمام (زكريا بطرس)، وكأنما تشابَه قلباهما، قائلًا: إنَّ الآيات المكيَّة كان فيها «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْن»، فيما تأتي الآيات المدنيَّة وفيها قتالٌ وجهاد. وهذا وجه اختلافٍ وتناقضٍ لديه. والواقع أنَّ هذه أوهى حجَّة في مناقضتها للواقع والتاريخ معًا. فمن الطبيعي أن لا يدعو الرسول للقتال في (مكَّة)، ومن الطبيعي بعد تأسيس الدولة، وبعد التهديدات المُحيقة به، أن يُؤذَن لأهل المدينة بالقتال، دفاعًا عن النفوس والدولة الوليدة؛ فلكُلِّ حادث حديث. والتهديد كان من العَرَب المشركين، ومعهم اليهود من جانب، ونصارى الروم وأحلافهم من نصارى (الغساسنة) في (الشام) وغيرهم من جانبٍ آخر. كان التهديد من الأحزاب الذين حاصروا (المدينة) الوليدة وتألَّبوا عليها- أَعرابًا ويهودًا- ومن الرُّوم الذين كانوا يحشدون في الشَّام ويحضِّرون لاستئصال شأفة المدينة والمسلمين. والتاريخ معروف في ذلك. في تلك الظروف جاءت آيات القتال دفاعًا ودرءًا للعدوان. أ فمن العقل، أم من العدل، أن يُعَدَّ المُدافع معتديًا؟! أمَّا في غير تلكم الأحوال، فالآيات تَتْرَى واضحاتٍ في رفض العدوان: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَـمُسْرِفُون.» «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.»

 هل ثَمَّة أوضح من هذا؟

 وهذا ما ورد في (سورة البقرة)، المدنيَّة.

 هؤلاء لا تهمُّهم قراءة النصوص، بتمامها، ووَفق سياقاتها.

 ولذا تراهم يجتزئون، ويتقافزون، لانتقاء ما يشتهون، وما يخدم أغراضهم العقديَّة من جهةٍ، والتشويهيَّة من جهة. خائنين بذلك أمانة القراءة العِلميَّة، ومبادئ العدل، والإنصاف، والأخلاق.

 ألا ترى أنَّهم يفعلون ذلك، كما يفعل نظراؤهم من الأصوليِّين الإسلاميِّين من ذوي الأهواء، حينما يجتزئون من النصِّ كذلك ما يخدم مآربهم، متعامين عمَّا سواه.

 بل قل: متعامين عن الآيات المجاورة للآيات التي بها يستشهدون وعليها يدندنون. ستجدهم يقفزون إلى الآية التي تلي الآية السابقة- وكلُّها آياتٌ في سياقٍ واحدٍ متكاملة- قائلين ها هو قرآنكم يقول: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»! ويقفون هنا. لا يُكمِلون، حتى هذه الآية نفسها: «...وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ؛ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ. وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. فَإِن قَاتَلُوكُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ؛ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِين.» ثمَّ يقفز أحدهم كالكنغر إلى آيةٍ من سورةٍ أخرى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ. فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» فيصرخون: أ هو، يقول: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ».. إرهاب.. إرهاب يا أمريكا ويا إسرائيل! ألا تسمعان؟ وهؤلاء هم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ»، أي مجزَّءًا؛ ليقولوا ما يشاؤون.
 تعني أنهم لا يربطون الآيات حتى بسياقاتها الداخليَّة النصوصيَّة، فضلًا عن سياقاتها المتعلِّقة بالتاريخ، أو ما يسمَّى بأسباب النزول، أي (السياق الخارجي)؟

 نعم. لأنَّ هذا كلَّه لن يخدم أغراضهم. «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ! يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ. قُل: لَنْ تَتَّبِعُونَا، كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا! بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ فَإِن تُطِيعُوا، يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» (سورة الفتح).

 هؤلاء المخلَّفون من الأعراب كانوا خونةٌ للنظام القائم، إذن، أو للدَّولة بلغة العصر، هاربون من الخدمة العسكريَّة، وهم في الوقت نفسه وُصُوْلِيُّون، مرتزقة، نفعيُّون، يبحثون عن المغانم فقط.

 ولهذا يأتي الخطاب ليردَّ عليهم، أنهم إنْ كانوا صادقين في حُبِّ القتال، فـ«سيُدْعَوْنَ إلى القتال»، وليس فقط «سيُسمح لهم». ولكن «إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليس إلى «مَغَانِمَ ليَأْخُذُوهَا»؛ ليكون الاختبار، وليتبيَّن مَن يُقاتل في سبيل الله ممَّن يُقاتل في سبيل المغانم. كما هو اختبار الله لخلقه النفعيِّين دائمًا، منذ الشيطان الرجيم- الذي سقط في الاختبار؛ لأنه بنَى طاعته على بلوغ كبريائه؛ فلمَّا لم تتحقَّق مقايضته مع الله، نَكَص- وصولًا إلى نماذج أخرى، بَنَتْ إيمانها وتقواها على الرغبة في الحصول على مغانم، واستثناءات نفعيَّة خاصَّة، فيما هي «متدروشة»، لا تسعى؛ فلمَّا مرَّت بامتحان الله، سَقَطَتْ، وعندما لم تتحقَّق مقايضتها مع الله، كَفَرَتْ، وأصبحت شواهد على صبيانيَّة العقل المتشبِّث بماضي آبائه وأجداده!

(1) حول مغالطة (رجل القَشِّ)، يمكن الرجوع مثلًا إلى: (مصطفى، عادل، (2019)، المغالطات المنطقيَّة: فصول في المنطق غير الصوري، (القاهرة: رؤية)، 203- 214).

(2) ترجمته الحرفية: «مَن يعتذر، فقد اتهمَ نفسه!» غير أنَّ «مَن يعتذر» هنا بمعنى: «مَن ينفي اتهامًا»، لا «مَن يعتذر عنه». وكأنَّ من تداعيات هذا قول (محمود درويش): «لا تعتذر إلَّا لأُمِّك!»، مسمِّيًا ديوانه «لا تعتذر عمَّا فعلتَ!»

(3) كثيرًا ما يبدو قَدَر (العِراق)، تاريخيًّا وجغرافيًّا، أن يتبع (إيران)، حتى إنَّ (الزبيدي، تاج العروس، (عرق))- وهذه من الغرائب، ولا سيما في القرن الثاني عشر الهجري- ينقل في تعريف العراق: أن «العِراق: بلادٌ معْروفةٌ من فارِس، حدُّها من عبَّادان الى المَوصِل طولًا، ومن القادِسيَّة الى حُلْوانَ عرضًا!» مع أنها قامت في العِراق حضارات، ساميَّة وغير ساميَّة، مستقلَّة عن الفُرس، منذ ما قبل التاريخ، من السومريِّين، والأكاديِّين، والآشوريِّين، والبابليِّين، والكلدانيِّين.

(4) ثمَّة تداخلٌ في السُّوَر، بين الآيات المنسوبة إلى (مكَّة) وتلك المنسوبة إلى (المدينة). ذلك أن ترتيب «القرآن» لم يكن توقيفيًّا بصورة مطلقة، ولا متسلسلًا زمنيًّا، بدليل قِصَّة جمع «القرآن»؛ إذ لو كان توقيفيًّا، لما احتاج الأمر إلى جهد (عثمان) لجمعه، بل لما ساغ النظر في ترتيبه، ما دام توقيفيًّا، ولو كان متسلسلًا زمنيًّا، لكانت «سُورة العَلَق»، مثلًا، أُولى السُّوَر. وعليه، يبدو أن مسألة المَكِّي والمَدَني إنَّما نشأت عن «السِّيرة النبويَّة». والسِّيرة لم تكن تاريخًا عِلميًّا. بل لقد جمعت روايات شتَّى، في متن السِّيرة وفي هوامشها، اعتذر (ابن إسحاق) عن تحمُّل عُهدتها العِلميَّة؛ من حيث هو راوٍ، لا باحث ولا محقق. وبما أنَّ «القرآن» كذلك نصٌّ جَدَليٌّ، وبما أنَّه جاء وَفق طبيعة الثقافة الشفويَّة العَرَبيَّة، فلقد كان بطبيعته تلك قابلًا لتكرار الآيات والخطابات، بحسب مقتضيات الأحوال والنوازل. ولهذا كلِّه ظلَّ من الصعب «أرخنة» النصِّ القرآني على نحوٍ عِلمي، يترتَّب عليه القطع بما هو مَكِّيٌّ وما هو مَدَني. وحول المَكِّي والمَدَني (يُنظَر: السيوطي، جلال الدِّين، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 1: 43- 00).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى