الاثنين ٢٤ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بـِطالْيا

حدثني أبو ضياء؛ قال:

وجَدَتْني الشمسُ الطالعة غارقا في تأمّل عظمة البحر؛ وذلك؛ لا من حيثُ كونُه أكبر منشآت الله الأرضية؛ لكن من حيث هو سر الأسرار. وتخيّلتُ القِصصَ الرائعة التي يمكن أن يحكيها إذا ما أتيحتْ له فرصة الحكيِ وكانت لنا القدرةُ على الإصغاء. تخيلتُ المخلوقات الساحرة التي تعيش في عتمته اللجية، اللآلئ والدرر المزينة لصدور صدفاته المحجوبة عن الأنظار، الذهب اللمّاع الذائب في مياهه المالحة، بواخرَه الراقدة في فجاج الأعماق، وأطيافَ قتلى الحروب التي دارت على سطح أمواجه المتلاطمة. وتطلعتُ إلى الشمس التي بدأت خيوطها الدافئة تعاكس عينيَّ، وقلت لها:"لقد آن أوان زيارة الجنّة" وكنت أقصد؛ زيارة"بِطالْيا"؛ البلد الذي زيَّنتْهُ لي الصحفُ بوصفها الساحر لها. قالتْ:هناك العيش رغد إلى أبعد الحدود، ويكفي المرءَ أن يقول "خبز، حلوى، خمر، ديوان، امرأة جميلة، دنانير..." فتحضر هذه الأشياء من دون عناء. وإذا لم تقدر الأرض على تلبية طلبات الطالب، فما عليه إلا أن يتوجه إلى السماء ويزمِّرَ لها قليلا، فتنسكب عليه منها جميع أصناف المشتهيات. ولا عمل ولا باطرون ولا فقر ولا تسريح في "بطاليا". أليست هي الجنة على الأرض؟

ياه! ما ألذَّ العيش إذا كان كلّ ما تحلم به يحضر بين يديك على إشارة من إصبع! وقيل لي:"في بطاليا يعطونك بيتا فاخرا له واجهتان، وامرأةً شقراء طرية النهدين على الدوام، ولا تنجب سرتها "بَرْهوشاً"، وليس لها عائلة تبتزُّ منك المال، ومعها سيارة فخمة وحساب في البنك، وكلّ ما تريد يا مسكين" فسرت في ذاك الصباح الجميل رأسا إلى بيت أستاذي أبي جنان، فوجدته غارقا في عرقه يصلِّحُ ركنا من بيته العتيق، ويشرب من ماء بئره الأجاج، وهو سعيد. فلما رآني تعمَّد عدم رؤيته لي وكان غضبان؛ فضربت يدي في مواد البناء لأساعده، فثارت ثائرته وقال لي : لا يحق للكسول الواهم أن يضرب يده في خرسانة البنَّاء[ ولم أفهم قصده؛ وفهم أنني لم أفهم وقال لي:"لقد طغتْ عليك الأوهام والأحلام؛ وإذا كنت تعتقد أن الجنة موجودة على الأرض فأنت والله أقلّ من حمار". فكتمتها في صدري لأنني لم أفهم، وتوجهت توا إلى "و فاء" لأطرح عليها هذا السؤال:

ـ هل يحق للمسكين المستضعف أن يحلم؟ فكان ردُّها:

ـ البلد الذي تسأل عنه مكروه عندي، ولا أريد أن أكون امرأة من نسائه لأنه ـ على ما يبدوـ شكل من أشكال جهنّم. وانكبت على كتاب تكتبه.

وركبت الرحلة، فإذا ب"بطاليا" بلد له بوابة ورقية. دخلتها سنة 840 من سنوات الذلّ. فماذا وجدتُ فيها؟ وجدت حكمة أستاذي التي لم أفهم ساعة غضبه مني:فلا فلوسَ ولا حلوى ولا هم يفرحون. والناس، ليضمنوا لأنفسهم سببَ العيش، توجَّبَ عليهم أن يكدّوا مثل العبيد:غسلُ الأواني في خمارات أغنياء البلد، مسحُ سياراتهم، جمعُ قُمامتهم، المتاجرةُ في جميع أصناف المخدرات، وأمورٌ أخرى لا مثيل لها إلا في مكان نُسمّيه "جهنم". وإنني أحمد الله لكوني اصطحبت معي ما يكفي من المال لتفادي الحاجة، ولولاه لاضطررت للعمل المهين. وكان أن تعرفت على امرأة رائعة الجمال والمال، فأحببتها على الفور، وضننتُ أنّها ستزوجني نفسَها... ولكن، هيهات أن يحصل الواهمُ على مبتغاه! إذ ما كان منها إلا أن نوّمتْني بسِحْر، وأفرغت جيوبي من المال (وهي الحورية التي خِلتُها من عصافير الجنة) ولولا وريقات مالية أخفيتها في جوربي لما استطعت العودة إلى بلدي "غُرباتيا" ولما كان لكَ هذا الحكْي. وكانت تلك الجنية الجميلة قالت لي:"كثيرون هم من يحلمون بالجنة في "بطاليا" ولكن مصيرهم دوما العذاب أو الطرد أو الضياع" وأضافت:"هل هم حمير أم ماذا؟ هل هناك ـ فعلا ـ جنّة على الأرض؟"

وأنا ـ اليوم ـ أخاف أن يأتي جيل من الشباب الواهم يعتقد مثل هذا المعتقد السخيف، فيرمي بنفسه في البحر ويهلك. ولهذا عدت إلى بلدي...إلى بيتي المتهالك لأصلحه بيديَّ... إذ لا جنّة إلا جنة العمل.

ـ هل أنت مع العمل أم مع الكسل والوهم؟

ـ مع العمل والواقع؟

ـ مرحبا بك في بلدك إذن في بلدك الجديد:غُرباتيا... بلدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى