الأحد ٩ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بلاد بَني وي ـ وي

حدثني أبو ضياء؛ قال:

في سنة 840 جاءنا (السِّيرْكْ)؛ ونصبت أقوامٌ من سائر بلدان المعمور خياما مختلفة الأحجام والأشكال؛ وزيَّن كل قوم خيمته بما يناسب ثقافته من أشياء وألوان, في بهرج لا يخلو من إثارة وفتنة، وصدح كل مدعي بجودة عرضه في أبواق لا أقدر منها على تحطيم الأعصاب. يدعون الناس إلى التفرج على (نَمْراتِهم) الفريدة. فهذا من بلاد جبل العاج يقدر على الطيران بواسطة دراجة نارية، وهذا من بلاد طولِسان يقدر على بلع المواسي والسكاكين والسيوف، والثالث من بلاد مقلوبيا يمشي على رأسه، وآخر جاءنا من زُقْزقسْتان في صورة نسناس ينط مثله من مكان إلى آخر في طرفة عين ويقلد جميع أصوات الحيوان، وخامسٌ من روجْيا يبلع الكحول ويخرج من فمه النار ومن بلاد الكَبريت جاءتنا ملكة رقص تتلوى كأفعى وتسحر الذي ينظر إليها بعينيها المعدنيتين، وكان هنالك ـ أيضا ـ خداع من سرقونْيا يقلب ورق اليانصيب بين يديه وينبذ حجرا مكعبا في تنكة ولا أحد يربح؛ الحجر يقول له ًالضاضوصً واللاعب يسميه " قمّار " . ومن قُبقبلاند جاءنا دجال يحكي لنا حكايات لا رأس لها ولا ذيل بيد أنها تسحر وتجعل الوقت يمرّ فما يشعر المرء إلا وهو يضرب يده في جيبه ويلقي للقبقبلاندي الماكر بما فيه من مال... والسحر كثير في السيرك. لكن النمرة التي سحرتني بالفعل هي تلك التي قدمها لنا السحار الهِلَّوْفِسْتاني ذو العباءة السوداء المطرزة بخيوط الذهب والقبعة المخروطية المنتصبة على رأسه الحليقة كما منارة، واللحية المخيفة، وكان اسمه "سيف آباد حميدان الساساني كاهن بك الهلوفستاني" فنختصر اسمه في "الهِلَّوْفي" وقد قدَّم عرضه العجيب لنا، و الحقيقة أنني ما أدركتُ خدعته حتى سافرتُ إلى بلاد بني "وي ـ وي":وكان أن جاءنا برأس بشرية مفصولة عن جسدها ووضعها فوق كرسي من غير سند، وراح يخاطب الرأس المقطوعة وهي تخاطبه، في جو من العتمة والخشوع وكنتُ قلتُ لصديقتي "وفاء" التي رافقتني للعرض:"مستحيل أن تتكلم الرؤوس البشرية المفصولة عن جسدها وإنما هي خلف حجاب الظلام فلا نراها ونتوهَّمُ ما نراه" وكأن السحار علم بما قلتُ، فأخذ الرأس وقذف بها في الهواء ثم دحرجها بين يديه ثم كفَّنها في ثوب أبيض ثم طوَّح بها ثم لعب بها كما لو كانت كرة سلة وفي الأخير رما بها إليَّ فأمسكتُ بها و كلمتني فخفتُ ورميتُ بها إليه وقهقه.

ـ هذه أعظم خدعة في الدنيا. قلتُ ل"وفاء". فوجدتها مغشيا عليها من صدمة السحر. وانتهى العرض فقلتُ لها:"ما من مجيب عن تساؤلاتنا إلا أستاذي أبا جنان. فهرولتُ إليه. إذ لا يمكن لي النوم وفي ذهني خدعة. صار لزاما علي أن أعرف السر.

فقال لي أستاذي كلمة جد مختصرة "ارحل، تعرف!" ولما سألته "إلى أين؟" مدَّ لي ورقة وأخرجني من بيته دون أن يضيف كلمة. وفيها قرأتُ "بلاد بني وي ـ وي". فعلمتُ أن الكلام بلغ منتهاه وأن اللزوم للسفر. وهكذا حالي مع أستاذي؛ كلما ضاقت بي المعرفة، دفعني إلى المغامرة.

فركبتُ مركبي رأسا إلى "بيطايا" ومنها استأجرت راحلة إلى البلد المرام فدخلته في الساعة الثامنة والدقيقة الأربعين والشمس لم تشرق فيه بعد. مع أن زرقة من نهار الأمس ظلت عالقة في السماء ولا عسس على بوابة البلد. وكان أمامي طريق طويل يقسم البلد إلى ضفتين: شرقية وغربية تقول عنهما كتب الرحالة الإدريسي الغرباتي أستاذ أستاذي" ... الأولى ينبت فيها نبات الكلخ والثانية غنية بثمار القرع..." ولم يكن بمقدوري أن أتمم الكتاب الضخم الذي ألفه عنها إذ سارعتُ بالرحيل وفي اعتقادي أن أم المعرفة الحقة هي المغامرة كما علمني أستاذي أبو جنان. فها شاحنة قادمة. فاستوقفتها. وكانت محملة بأطنان من ثمار القرع "الدُّكالي" وقلتُ في نفسي "هذه ذاهبة إلى أحد الأسواق وفي السوق سأجد مرادي" تقدمتُ إلى سائقها فما رأيت إلا رأسا بدون جسد والله ما علمتُ كيف لمثل هذه الرأس المنفصلة أن تقود(!؟). ومع ذلك خاطبتها فقالت لي "اصعد إلى الخلف!" مع أكوام القرع الدكالي... فما كدتُ ألقي بجسدي المتعب عليها حتى صاحتْ "مهلا عليك أيها الغريب! نحن بشر مثلك ولسنا يقطينا." فهل تدري فيما فكرتُ؟ ... ومن على الشاحنة رأيتُ أجسادا بدون رؤوس منشغلة بأمور الحياة: تحرث الأرض وتسرح البهائم وتبني البنيات فكان لزاما علي أن أنط من الشاحنة لأستبين الأمر. وكان ما رأيتُ أعجب مما رأيتُ في جزيرة القيصرية:الأجساد حية أعناقا مقعرة والرؤوس مبعثرة هنا وهناك مثل اليقطينْ. ولما وقفتُ أمامها لمخاطبتها، هرول كل جسد إلى رأس ووضعها في محل العنق وصارت تخاطبني:

ـ من أنت وماذا تريد منا؟

ـ أنا من غرباتيا تلميذ يبحث عن الحقائق. فقهقهوا مني وقالوا"لا حقيقة إلا حقيقتنا" ولما سألتهم "وما هي حقيقتكم؟" دحرجوا رؤوسهم فأصدرتِ الرؤوس المدحرجة صوتا في مثل قول " ويوْ ـ ويوْ ـ ويوْ... " كما صفير الصفارة التي يطوح بها الأطفال. ففهمتُ من أين جاءتهم تسمية بني وي ـ وي. وربما أنت تسأل:"من أين لرؤوس مجزوزة أن تتكلم؟" وهذا من مغلق الأسرار ولكنه حاصل ورأيته بأم عينيّ. وفي غفلة مني وقف علي حاكمهم وكانت له رأس مثبتة على كتفيه. بدا حائرا آ سفا على شعبه وقال لي:"أيها الغريب، ما جاء بك إلى بلدنا؟ فأخبرته بالحقيقة. فما كان منه إلا أن شدَّ رأسه وتألم. وقال لي:"أنا أتعس حاكم. كيف لي أن أحكم أناسا رؤوسها منفصلة عن أجسادها وإذا ما سألتهم في أمر لا يفعلون سوى دحرجة رؤوسهم فتصدر عن الرؤوس المدحرجة ذالك الصفير المقيت: وي ... وي... وي...؟ وقال:"لم أسمع في حياتي كلمة "لا" وهذا الأمر يقلقني في مسألة الحكم. وكانت تلك أول مرة في حياتي أعرف فيها قيمة الكلمات والحروف. أعني أنني عرفتُ أهمية اللغة. فحرفٌ مثل حرف "لا" يمكن أن يجلب السعادة لبلد.

فخطر ببالي أن أسأله "دعني أجرب معهم!" فأعطاني الرخصة وجمعتهم في فناء رحب وخاطبتهم بهذا القول:"يا شعب بلاد بني وي ـ وي!... ألا ترون أنه من الأفيد للوطن أن تقولوا لحاكمكم؛ ولو من حين لحين كلمة "لا" لأمر يستشيركم فيه؟ ... فأخذوا رؤوسهم بين أيديهم ودحرجوها تجاهي لتصفر ذلك الصفير المقيت عند حاكمهم: ويوْ...ويوْ...ويوْ... فاستدرتُ فيه وقلت له:"لا عليك. سأسأل جماعة أخرى. وفعلت. فتبادلتِ الجماعة المسئولة رؤوسها برؤوس سابقتها وقالت نفس قولها. للمزيد من تعاسة حاكمها.

وهكذا نسيتُ أمر العجب من الرؤوس القرعية ولم أعد أفكر إلا في بلد يبأسُ بسبب حرف مفقود في قاموسه ألا وهو حرف "لا"...

وأنت أيها القارئ، هل حدث لك أن قلت "لا" في وجه أحد الحكام؟ ... نعم! فأهلا بك في بلادي غُرْباتيا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى