الاثنين ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

رحلتي إلى القبر

كنت أعاني من مرض عضال لم يمهلني طويلا. توقعت أن تنجح العملية الجراحية التي أجريت لي في القضاء على المرض وانتزاعه من جسمي، لكنه كان أقوى مني فرحلت عن هذه الدنيا هكذا دون إنذار.

سقطت فجأة على الأرض، لم أستطع الحراك، ولا حتى تحريك لساني، كنت أريد أن أصرخ أطلب النجدة لكني شعرت بالعجز، حاولت تحريك أصابعي فلم تتحرك، حاولت تحريك يدي فلم تتحرك، أيقنت حينها أنني مت وغادرت تلك الحياة الجميلة، هرولت زوجتي نحوي رأتني ملقى على الأرض صرخت وألقت بجسمها علي تحاول أن تحركني، نادتني، صرخت بي:
  نديم، حبيبي.

لكني لم أتحرك كنت أسمعها أريد أن أرد عليها لكني أصبت بالشلل.
جاء ابني وابنتي سألاها: «ما الأمر؟»، فقالت لهما: «اتصلا بسيارة الإسعاف».

بعد فترة لا أعرف مدتها لم أعد أميز الدقائق من الساعات حاولت استراق النظر لساعتي التي ما زالت على يدي لكني لم أستطع النظر إليها لم أعد أر شيئا، لم أعد أحس بشيء كأنني لا شيء. دخل الغرفة عدة أشخاص، سمعتهم يتناقشون، بدءوا بفحصي وبعد ثوان أقل من دقيقة قال أحدهم لها:

  • الله يرحمه.
    بدأت زوجتي وأولادي بالصراخ، حاولت إحدى السيدات أن تهدئ من روعها، طالبتها أن تستعين بالله، خرجوا من الغرفة جميعا بعد أن أطبقوا علي الباب.

تركوني وحيدا في الغرفة، أنا الآن ميت لم أعد موجودا، ليتني قبلتهم قبل موتي. من أين لي أن أعرف ساعة مغادرتي لهذه الدنيا، لم أعرف بالموت ولم أحس به، وعمري لم يصل الخمسين بعد فكيف يهاجمني الموت!

ترى ماذا يفعلون الآن؟ هل يخططون لدفني؟ أين سيدفنوني؟ في باب الأسباط أم في باب الساهرة؟ بعد لحظات فتح الباب، كانوا يدخلون علي أفواجا يقرؤون الفاتحة، لم أعرفهم كلهم، كنت أميزهم فقط من أصواتهم، إنهم أهلي وأقاربي، كان والدي يبكي قائلا:

  • رحمك الله يا بني لم أتوقع أن تسبقني إلى القبر.

أما أمي فكانت تبكي كالأطفال، هجمت على ابنتي وضمتها إلى صدرها.

كانت ابنتي مصدومة، لم تعرف ماذا يعني الموت، سألت ماذا يعني أنه مات؟ ألن يعود؟ لقد وعدني أن يشتري لي سي دي لبعض الألعاب على الحاسوب، أبي يفي بوعده لا أصدق أنه لا يتحرك.
أما ابني ابن ال١٤ سنة فكان أكثرهم تماسكا. كان يبكي بصمت، لا يعرف ماذا يقول.

كان الوقت صباحا، وإكرام الميت في بلادنا دفنه فبدأوا يجهزون لغسلي قبل نقلي إلى المقبرة. حضر أحد الشيوخ، وبعض رجال التكفين، نقلوني إلى غرفة أخرى وأخرجوا الجميع من الغرفة، بعد التشاور بين الأهل قرروا أخير أن لا يسمح لابني الصغير ولا لابنتي البقاء لحظة غسلي، حاول ابني أن يبقى فقال له أخي:

 عمي لا يصح أن تكون معنا أثناء غسله، بعد أن ننتهي ستكون أول من نسمح له بالدخول.
فخرج باكيا، غسلوني، وكفنوني، قال لي أبي:
 نديم سلم على جدك في الجنة وقل له أنني اشتقت إليه.
قبلني والدي في جبهتي، سمعت بكاءه، كان أخي يحاول أن يخفف عنه لكنه فجأة انفجر باكيا وقال لي:
 الوداع يا أخي سامحني إن أذنبت بحقك سامحني فأنت أخي الكبير، سأفتقدك فقد أصبحت الآن وحيدا دون أخ أو أخت.

بعد أن جهزوني وكفنوني بالكفن. لم يبق إلا وجهي ظاهرا، سمحوا للآخرين بالدخول، دخل ابني يناديني:
 أبي، أبي، أبي.
هجم علي كالمجنون.
 ماذا فعلتم به؟ لماذا قيدتموه؟
أمسكه أخي واحتضنه فحاول أن يمسح الدموع عن عينيه كان يناديني:
 بابا لماذا تركتني؟ لماذا الآن؟ أنا بحاجة إليك، لمن أشكو الآن إذا واجهت مشكلة؟ بمن أستنجد إن احتجت لحماية؟ ممن سأطلب مصروفي؟ من سيرسلني إلى الجامعة؟ أبي حبيبي، لماذا تركتني يتيما؟
قال له أبي:
 يا جدي، اصبر فأبوك ذاهب إلى الجنة.
 الجنة؟ ولماذا يتركنا ويرحل إلى الجنة؟
 يا بني هذه إرادة الله، ادع له بالمغفرة والثواب.
نظر إلي ابني وقال:
 الله يرحمك يا بابا، الله يغفر لك.

بعد انتهاء الرجال تتابعت النساء بالدخول إلى الغرفة تتقدمهن زوجتي وابنتي، كانت زوجتي حزينة، قبلتني وقالت:
 الله يرحمك ويحسن إليك.
لم تتمالك نفسها، فاحتضنتها أمها وقالت لها:
 عظم الله أجرك، البركة في ابنك وابنتك.
ابنتي بكت كأمها وظلت تردد سؤالها:
 متى سيعود أبي؟ لماذا مات؟
احتضنتها أمي وقالت لها:
 أبوك سيعود عندما تصبحين عروسا.
 صحيح؟
 نعم.
 لكن لماذا تركنا؟
آه كم كان بودي لو أرد عليها، أقول لها الحقيقة أنني لن أعود، لن أراها في هذه الدنيا، ما أقسى الموت، جربت الغربة، جربت السجن، جربت المرض، لكني أعترف لكم أن الموت أصعب من كل هؤلاء.

عند الظهر حملوني في النعش، وساروا باتجاه السيارة التي نقلتني إلى المسجد الأقصى، سمعتهم يتحدثون أن الدفن سيكون ساعة العصر في مقبرة باب الأسباط، هل كانوا يعرفون أنها أحب المقابر إلى قلبي فهي أقربهم إلى المسجد الأقصى، وأقربهم إلى البلدة القديمة حيث ولدت وعشت معظم حياتي، إنها المقبرة المحاذية للباب الذي دخل منه عمر بن الخطاب فاتحا، كانت جدتي رحمها الله تقول لي:
 يا بني من هنا دخل عمر، ومن هنا سيأتي فاتح القدس الجديد.
 كيف عرفت يا جدتي؟
فكانت ترد قائلة:
 إنها رؤيا رأيتها في منامي.

بعض الأحلام مجرد خرافات لكن رغم ذلك فبعض الخرافات تكون محببة للقلب.
الناس الذي توافدوا للمشاركة في الجنازة يتجمعون في ساحة المسجد الأقصى، بعضهم حضر محبة، وآخرون جاءوا مجاملة لأصدقائهم من الأهل والأقارب، تلك عاداتنا، الناس تتضامن معا في الموت، وفي الأفراح.

ها هم يصطفون خلف النعش يتقدمهم إمام المسجد الأقصى، يصلون علي صلاة الميت.
 الله أكبر.

انتهت الصلاة تسابق الرجال لحملي على أكتافهم وساروا في موكب طويل إلى مقبرة باب الأسباط يتقدمهم حملة الأكاليل، وخلف النعش الأهل والأصدقاء يتقدمهم أبي وأخي وابنتي وخلفهم الرجال من الأهل والأصدقاء أما زوجتي فكانت مع النساء في الخلف، مع أمي وحماتي وقريباتي. ها أنا محمول على الأكتاف ليس إلى القصر الملكي كما كانت تحمل الملوك في قديم الزمان ولكن إلى المقبرة.... تذكرت كلام أبي لي دائما عندما كان يدعوني إلى الصلاة:
 يا بني تذكر يوم تحمل على أكتاف الرجال!

ها أنا يا والدي أحمل على أكتافهم، إنهم ينقلونني إلى المقبرة، يقال إنه المثوى الأخير، هل صحيح أنه المثوى الأخير؟ ألن أنقل بعدها إلى الجنة؟ لا لا هذا ليس المثوى الأخير، إنه المكان الفاصل بين الحياة، والحياة، كأنه قاعة انتظار، انتظار لموعد إقلاع الطائرة إلى الجهة الأخرى، هل سيطول الانتظار؟

وصلوا إلى المقبرة، كان القبر جاهزا، محفورا ومعدا لدفني فيه، إنه نفس القبر الذي دفن فيه جدي قبل 25 سنة. لم يبق فيه سوى رميم عظامه التي وضعوها جانبا، أنزلوني من على أكتافهم، كنت في التابوت ووجهي إلى السماء، كنت ملفوفا بعلم فلسطين كما يلف الشهداء، قالوا من مات في فلسطين فهو شهيد، لأنه لم يهاجر منها ولم يغادرها رغم كل إجراءات القمع والأسرلة.

اقترب مني بعض الأقارب لإلقاء نظرة الوداع كان أخي يمسك يد ابني ويهدئ من روعه، وكانت أمي تمسك يد ابنتي وتعيد على مسامعها:
 أبوك سيعود عندما تصبحين عروسا.

عندما انتهى الجميع من إلقاء نظرة الوداع اقترب أخي وحملني من رأسي من النعش فيما حملني آخرون من أماكن أخرى وأنزلوني في القبر بسلام وسط وجوم ابني وبكائه، لكن والدي أصر على سحب ابنتي بعيدا عن القبر.
 لماذا يا والدي؟ لماذا لا تريد أن تسمح لابنتي برؤيتي في تلك اللحظة؟
أعلم أنك تخاف على مشاعرها من الانهيار، إنها اللحظة الأصعب في حياة الأطفال. بعد أن أصبحت داخل القبر، حمل بعض الأقارب المجارف ليهيلوا علي التراب فصرخ ابني بأعلى صوته....
 لا لا لا لا
تسمر الجميع هجم أخي على ابني ليحتضنه.
 حبيبي
وأشار لهم أن يتوقفوا قليلا، بعد أن ربت على كتفيه وقبله سأله:
 ألا تريد الراحة لأبيك؟
 نعم.
 إذن ادع له بالمغفرة.
 ليغفر الله له، عمي؟! أريد أن أهيل عليه أول ذرات من التراب بنفسي.
نظر إليه أخي وقال له:
 سأهيله معك.
اقترب ابني من القبر، حمل بكلتا يديه بعض التراب، قبله ونثره فوقي، وكذلك فعل أخي ثم أشار لأقاربي أن يكملوا البقية.

أنا الآن في القبر، مظلم موحش، لا أنيس، ولا قريب. كانت أول ليلة تمر علي، فعلا الموت أصعب شيء يواجه الإنسان.

اقترب الصباح، بدأت الشمس ترسل أشعتها تدعو الناس يهبوا إلى أعمالهم، فجأة سمعت وقع أقدام فوق القبر، ترى من القادم؟

إنه هو، نعم هو لقد عرفته من صوته كان ابني يقرأ على قبري سورة الفاتحة، فجأة سمعت صوت أمه وأخته جاءوا جميعا ليزوروني كأنهم افتقدوني، ربما لم يشعروا بعد بغيابي، أو كأنهم لم يقتنعوا بموتي واعتقدوا أنني انتظرهم هناك لأسمع أصواتهم، بعد انتهائهم من قراءة الفاتحة بدأ ابني يخاطبني بصوت يسمعه المارة:
 أبي حبيبي متى ستعود؟ أنا أحبك، أنا حزين لأنك رحلت، كنت أريدك أن تكون معي عندما أتخرج من المدرسة، كنت أتمنى أن تحتفل معي بيوم تخرجي من الجامعة.
الله يرحمك يا والدي، ويسكنك فسيح جناته. أنا لن أنساك أبدا ستظل معي ما دمت حيا.

بعده بدأت زوجتي تخاطبني:
 حبيبي، إلى جنة الخلد. مكانك في البيت لم يتغير صورتك ما تزال على الحائط، لقد تركت فراغا لن يملأه أحد.

أما ابنتي فاقتربت مني وقالت:
 بابا مع السلامة، أنا أحبك، أنا حزينة لفراقك سأنتظرك عندما تعود، قالت لي جدتي أنك ستعود عندما أصبح عروسا، وأنا سأنتظرك، أنت أعظم أب، أنت كل دنياي.

وأجهشت بالبكاء.

ودعوني جميعا وغادروا. كنت أتمنى لو أرد لهم التحية لو أقول لهم شيئا، لو أقول لهم فقط كلمة واحدة، أحبكم، لكني لم أستطع التحدث لم أستطع التحرك فأنا لم أعد من سكان الأرض، أنا الآن في قاعة انتظار طويلة، قاعة من يدخلها لا يخرج منها إلا من الباب الآخر بالاتجاه الآخر.

ليتهم انتظروا أكثر، ليتهم ظلوا معي لفترة أطول، على الأقل سأسمع أصواتهم، لماذا يبكي الأهل فوق قبور أحبائهم فيثيرون أحزانهم ويزيدونهم غما على غم؟ لماذا لا يخاطبونهم بكلمات جميلة يخففون عنهم رحلة العذاب في القبر؟

بعد لحظات من فراقهم، سمعت وقع أقدام أخرى، هل عادوا؟ لا، وقف رجلان لكثرة الأكاليل على قبري، سمعت أحدهم يقول للآخر:
 انظر هذه الأكاليل الجميلة.
فقال له الآخر:
 ليرحم الله صاحبها.
توقفا بجانب قبري، قال الأول للثاني:
 هل تعرف، لماذا لا نأخذ إحدى هذه الأكاليل؟
 وماذا سنفعل بها؟
 نزيل الورقة التي تحمل اسم المتبرع ونضع اسمنا واسم الميت الذي سنزوره الآن.
 نظر إليه الثاني مستغربا وقال له:
 يا رجل، أنسرق الموتى؟
 نحن لا نسرق أحدا، إنها أكاليل ستذبل وتنقل إلى المزبلة.
 ولكن أصحابها اشتروها لهذا الميت رحمه الله.
 يا رجل ماذا سيجري لو نقصت إكليل؟
هز الثاني رأسه وقال:
 أنت الذي سيحمل الذنب؟
 أنا الذي سيحمله.

حملا الإكليل وغادرا المكان.
كدت أن أنفجر بالضحك، لكن كيف لي أن أضحك؟!
حتى أكاليل الموتى ثمة من يفكر بسرقتها، آه لو يتعظ الناس من الموت، ألم يأخذوا العبرة من الأموات الذين لم يأخذوا معهم شيئا عندما غادروا الدنيا؟

بعد أيام لم أدر عددها، شعرت أن القبر انفتح وأن أحدا حملني وطار بي، حاولت أن أرى شيئا لكن عيوني كانت مغمضة، لم أر شيئا، لم أحس شيئا، فجأة دبت في الحياة، فتحت عيوني، لأجد نفسي في مكان جميل. هل أنا في حلم؟ الموتى لا يحلمون؟ سألت أحد المارين في الطريق فقال لي:
 أنت في الطريق إلى الجنة.
 أنا؟
 ما دامت هذه هي الطريق؟ فكيف تكون الجنة؟
تركني وذهب في حاله...

تساءلت متى سأصل إلى الجنة؟ كنت كالطائر السابح في الفضاء، كنت أطير بدون جناحين، دون أن أحرك يدي، ما الذي يحركني؟ سألت شخصا آخر:
 متى سنصل إلى الجنة؟
 الطريق إلى الجنة طويل، هل بدأت تشعر بالملل؟ لماذا أنتم سكان الأرض على عجلة من أمركم؟
إنه صادق، أحيانا نقضي ساعات في لعبة الورق دون فائدة فيما نتذمر عندما ننتظر في طابور لعدة دقائق نتسابق، كل منا يريد أن يكون الأول حتى لا يتأخر عن مشاهدة مسلسل، أو سماع نشرة أخبار.

دخلت باب الجنة بعدما وصلتها، لم أجد حارسا على بابها، لماذا؟ ألا يخافون أن يدخلها أحد متسللا؟
سمعت ضحكة لم أر صاحبها. التفت حولي فلم أجد أحدا، فجأة سمعت هاتفا يقول:
 هذه الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون...
 المؤمنون؟ إذن أنا أحدهم، الحمد لله، الحمد لله لقد نجحت في امتحان الدنيا.

كنت لا أفكر بغير زوجتي وابني وابنتي وأمي وأبي وأخي، نعم كانت الجنة جميلة، رأيت الحوريات التي سمعت عنها في كل مكان، لكنها لم تثر فضولي، ترى ما أخبار زوجتي، كيف حال ابني وابنتي؟ ليتني أستطيع أن أكتب لهم؟ ليتني أستطع أن أراهم؟
سمعت نفس الصوت:
 هل تريد التحدث إليهم؟
 نعم.
 حسنا اجلس تحت هذه الشجرة وانتظر حتى يصبح ظلها فوقك حينها تحدث إليهم.
 كيف؟
 في تلك الساعة سيكون قد انتصف الليل عليهم وناموا سيرونك في المنام، قل لهم ما تريد.
 حقا؟
 أتشك في ذلك؟
 كلا لكني لم أجرب ذلك من قبل.

انتظرت حتى أصبح ظل الشجرة فوقي، فجأة ظهرت أمامي شاشة كبيرة تشبه شاشة الكمبيوتر لكنها بدون لوحة مفاتيح ولا ماوس، كانت الشاشة معتمة، وفجأة ظهرت زوجتي نائمة في غرفتها، وابني في غرفته، وابنتي في غرفتها. كلهم يغطون في نوم عميق.
قلت لهم:
 أحبائي: اشتقت لكم، أحبكم جميعا
أنا الآن في الجنة، أنتظركم، اشتقت إليكم وأنا في القبر، اشتقت لآهاتكم لصرخاتكم لأناتكم.

لا تقنطوا من رحمة الله، ستجدوني دائما معكم. حبيبي أحمد، تابع دراستك، عندما تتخرج من الجامعة سأكون معك، سأشاهد الحفل من هنا، سأسمع كلماتك وأراك بملابس التخرج رافعا رأسك للأعلى، وأنت يا ابنتي، يا أغلى الناس لن تغيبي عني، سأدعو الله دائما أن يحرسك ويحميك، والآن سأودعكما لأتحدث إلى أمكم.

دعوني أحدثها وحدها، صحيح أنت الآن في عالم آخر ولكن حتى في الأحلام يوجد أسرار بين الأزواج.
حبيبتي، غاليتي، الموت لم يقطع الروابط بيننا أبدا، حوريات الجنة كلها لن تنسيني عيونك الجميلة.

لا يا حبيبتي سأنتظرك هنا، لا أريدك الآن، سأصبر على وجودك في الدنيا فالأولاد بحاجة إليك، لا تتركيهم أعرف أنك الآن تتحملين العبء الأكبر، أنت الآن الأم والأب لهم، وضعك الاقتصادي سيكون صعبا، لكن لا تقنطي من رحمة الله، الدنيا كلها امتحان وهنا نقطف الثمرات، كم أنا مشتاق لك يا زوجتي، كم أتمنى لو أقبلك لكن كلما طال فراقنا سيزيد شوقنا.

الجنة؟ إنها جميلة، لكنها بك تكون أجمل.

تعليق من الكاتب السوري الأستاذ نادر زعيتر:

عزيزي الأستاذ عادل المحترم

سلام قولاً من رب رحيم

لا تؤاخذني إن أثقلت عليك في التعليق المرير ليل أمس على قصتك القصيرة بأبجديتها الآفاقية في أبعادها.

كان يقال عن الممثل الراحل فريد شوقي أنه وحش الشاشة بسبب الأدوار المروعة التي كان بجيدها، وكان يغتبط إذ يقال له ذلك، وفي زيارة لي إلى مصر في السبعينيات قابلته شخصياً، ذكرته بما بقال عنه فضخك، وعبر لي عن اعتبار ذلك مديحاً، وهو في الحقيقة من أودع الناس وأتقاهم!

وهكذا الأستاذ عادل فقد أبدع في ( تراجيديته) بحيث استطاع أن ينتزع من القارئ ذاته ويولجه في صميم الحدث، والقارئ تارة يتشخص في الميت أو تارة في أحد المفجوعين المكلومين، وكلا الحالين فيهما الكمد الفظيع.

ولو كنت مكانك يا أستاذ عادل (طبعاً ليس كميت) بل قاص وقد أفضت في المشهد الإنساني الرهيب الذي مهما تكرر تبقى له مأساويته القصوى، أجل لو كنت مكانك لذكرت كيف حصل النزاع؟ الروح أزف وقت رحيلها وتوديعها للجسم المضنى من السقام، كيف تستأذن في الفراق الأبدي، أن هكذا قضاء الله ولا راد لقضائه...وكيف آثرتْ أن تبقى بعد نأيها قريبة من سيرورة المصاب ترقب المكان الأليف والأهل الذين زاملتهم سنيناً طوالا، ولو كنت مكانك راوياً لهذا الحدث الجلل لما نسيت أن أذكر كيف تمت الصلاة في المسجد على الميت صلاة لا سجود لها والميت مسجّى يصلى عليه من دونه، وقد حرص إمام المسجد أن يكون ذوو الميت في الصف الأول في هذه الاحتفالية الأثيرة... ولو كنت مكان الراوي لذكرت كيف انفض الجميع بعد الدفن مباشرة ودون استثناء وسريعاً..إلا من الخبثاء كذاك الذي اختلس الإكليل، ولو كنت أنا الراوي لرافقت بروحي ما ذا جرى في البيت حين ابتعد النعش عن المكان وأهل المكان، وشعورك كميت كيف تغادر لآخر مرة وأنت محمول! إنها من أصعب اللحظات التي تدمي الجنان وتبكي الحجر.

سامحني يا أخي الأستاذ عادل, وليرض عني أستاذي الدكتور أحمد زياد محبك الذي ربما يعاتبني أنني تجاوزته وكما تجاوزت في التعليق، ــ وقد انتهزت فرصة اعتكافه في القاهرة ــ وأتمنى من الأستاذ عادل أن يورد هذا البوح في موضعه استكمالاً لمقاله المؤثر جداً جداً، وإنه مثير للشجون حقاً.وفي الختام أحيي الراوي فقد أبدع حتى أوجع...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى