الاثنين ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم محمود فهمي عامر

(رغبة) حسين الجفال القصيرة (جدا جدا)

(رغبة) هي المجموعة القصصية القصيرة المكونة من ستة وخمسين نصا في ثمان وستين صفحة بعد الإهداء والفهرس، وهي التجربة الأولى من نوعها للكاتب السعودي حسين الجفال، وقد صدرت في طبعتها الأولى عام 2009م عن دار فراديس للنشر والتوزيع، وكانت لوحة الغلاف التشكيلية للفنانة زهراء متروك، وجاء إهداء المجموعة ليقول: لها في الغياب! أترك الشوق على حافة الحكايا، وأهيم بالوجع.

عن هذه المجموعة قال حسين الجفال كما ورد في موقعَي: موفن، ومنبر الحوار والإبداع: (وما زلت أعتبرها محاولات خجولة لكونها انطباعية بالأساس... وكان الأصدقاء يترقبون مجموعتي الشعرية، لكني أتيت بشكل آخر، القصيدة مازالت مهربا رومانسيا جميلا من وجع الحياة، أما القصة فهي بوح ورؤية ومن خلالها وجدت طريقا لتوصيل أفكاري للجميع).

من هذا البوح وتحت عنوان (سعدية المفرح رغبة مضاعفة وثلاثة ملامح في قصص حسين الجفال) نقرأ في منبر الحوار والإبداع عن هذه المجموعة: (وهو يكتب قصصه التي لا تصدق أنها بدأت حتى تكتشف أنها انتهت بذات الدقة والرقة والعصف ورائحة القلب المحترق على جمر الإبداع وهوامش الموسيقى والخطوات الراقصة ألماً. يتماهى حسين الجفال مع نصه إلى درجة الاندغام، فيشفّ النص القصصي عن ذات الشاعر في حين تعبر تلك الذات إلى مفردات ذلك القص برشاقة وأناقة وانبهار بالتفاصيل الموحية والمنمنمات الخزفية).

وفي جريدة البلاد السعودية في الصفحة الثقافية الموسومة بـ: (مثقفون احتفلوا به في أمسية قصصية نقدية مسرحية..الهم القومي يشغل سرد حسين الجفال) قرأ عريف الحفل الشاعر محمد الفوز بعض شهادات النقاد والأدباء العرب في تجربة الجفال القصصية والثقافية التي وصلت عن طريق الإنترنت، ومنها شهادة الشاعر الكويتي دخيل الخليفة الذي قال: (في قصصه القصيرة جدا استفاد الجفال من تقنية قصيدة النثر التي جربها في محاولاته السابقة، ثم ركنها جانبا ليعلق صور الأحياء الموتى على جدرانه المضيئة، لذلك يتقن الجفال نهاية قصصه بشكل مدهش).
هذه الشهادة وغيرها في هذه المجموعة القصصية القصيرة (جدا جدا) يبدو أنها تجاوزت بعض القصص، أو فهمتها بميتافيزيقية لا نفهمها، فأين يا أستاذ دخيل النهاية المدهشة في قصة (عالق) التي لم يقل فيها الكاتب إلا: ( اشتقتك فأدمنت الرحيل ص38)؟ وأين هي في قصة ( فتنة) التي لا تحتوي إلا على هذه الجملة: (صدمه اكتشاف العالم، فأسكن روحه البحر ص22)، أين هذه القصة في هذه الكلمات المعدودات حتى نقول: إن لها نهاية مدهشة؟! أم هي (النهاية) أو (البداية) التي نطلب من القراء أن يقترحوا تداعيات مخاضها؟
ثم أيتها الشاعرة سعدية المفرح أين هذه التفاصيل الموحية والمنمنمات المزخرفة في القصص السابقة، وقصة ( نرجسية) التي أفردها الكاتب في صفحة مستقلة بـ: (بعد أن تيقنت أن الله معي... خنت العالم ص15)؟!

أهذه هي (الثورة) التي علقت عليها صحيفة الوسط البحرينية في عددها 2470: (في كل قصصه تجد ثورة تجرح الزمن المتحيز)؟ إن هذا التعميم تجاوز على سبيل المثال قصتين للكاتب، الأولى بعنوان (إنطفاءة)، وهي من سطرين وكلمة، يقول في نهايتها: (لم يسمع أي همس، أغلق بابه منتظرا الغروب ص68)، والثانية (عالق) المكونة من قوله: (اشتقتك فأدمنت الرحيل)، فهل من يغلق بابه وينتظر الغروب، أو من أدمن الرحيل يعد ثائرا في الزمن المتحيز؟

أهذا هو الطريق الذرائعي الجديد الذي أوصلنا إلى اكتشافه حسين الجفال عندما قال: (أما القصة فهي بوح ورؤية ومن خلالها وجدت طريقا لتوصيل أفكاري للجميع)؟ أم هو قراءة غير خطية ونص متعالق شبكي ليس له معنى ثابت بذاته، بل يقفز هنا وهناك؛ ليربط بين موقع وموقع آخر من النص نفسه، أو من نص آخر، أو معلومة في غير مكان النص المقروء، بقدرة عالية من التفكير غير التتابعي في اللحظة ذاتها، أو بكلمات الناقد جورج لاندو: (تقنية معلوماتية تتألف من كتل نصية، أو مفردات، إضافة إلى حلقات الوصل بينها ومسارات الربط التي تفضي إليها)؟!

فهل هذه المجموعة بهذا المفهوم التعالقي والخلوي وما بعد البنيوي تعد حلقة ضمن شبكة معلوماتية متداخلة وفكرا مرتحلا تفرض على القارئ لقصص الجفال القصيرة (جدا جدا) أن يلم بكل تفاصيلها وألا يكون صندوقا قبل الشروع في القراءة؛ ليزيح نظرية العماء عنها؟
ومما يثير العجب في حالة الإشارة والفضاء هذه، وهذا التطور السيميائي في عالم القصة القصيرة (جدا جدا) عند الجفال، أو كما قال في قصه حداثة: (سأكمل لك ما تعلمته بشأن الفن المفاهيمي لاحقا ص40)، أنه ما زال في تشبيهاته قيد الصور التقليدية الساذجة التي لا تتغانص مع هذه القدرة الماورائية في تشكيل المعاني الكرنفالية، ومن ذلك ما جاء في قصة شاشة: (الدموع التي خاف أن تفضحه أخذت تهطل كسماء غاضبة ص50) أو ما ورد في قصة تفاحة بكر: (وهي الصبية التي تجيد امتطاء الفرس وملاحقة الفراشات تجد نفسها لم تكبر بعد، تدور نهداها والتفا كما تفاح بكر، أصبح شعرها الأسود يغطي ردفيها الذين لا يشبههما سوى ردفي جينيفر لوبيز! ص57) أو ما عبّر عنه هاتفة المحمول في قصة رسائل قاتلة: (وصلتني رسالة أخرى: مساؤك يانع يا حبة الرمان، هنا ذهب عقلي لذاكرة بعيدة، الرمان الطائفي كم هو لذيذ، ومع انزياح في عقل شاعرصعلوك ذهبت لما هو أجمل، صدر امرأة!! ص53).

وهذا يقود القارئ إلى ما هو بعيد عن المجتمع السعودي، وخصوصا الفوز بجوائز اليانصيب التي تكرر ذكرها في قصتين: (فصّ أزرق ص20) و (السمراء وجذور لا تموت ص28)، وإلى بعض التجاوزات في الحديث عن النساء على نحو ما نجد في قصة (دفء ص66) حيث بدأها بـ: (خرجت مسرعة من المصعد متوجهة للصلاة في بيت الله، اصطدمت بجسد شاب وسيم كان يحاول الولوج للمصعد، خجل هو وابتسمت هي بحياء) ثم أنهى القصة بعد انتهائها من الصلاة وعودتها إلى الغرفة، وقد تحسست ذراعها مرات عدة بقوله: (في الصباح أخذت تحدث نفسها: ماذا لو اصطدم بي مرة أخرى!!؟) أما قصته (بلاهة أنثى ص85) فنقطف منها: (سأسهر معها... ستسجل على أنها ليلة ليلاء... انتهى كل شيء سنمضي للسينما، ثم نمضي بعض الوقت، ثم أعود أدراجي بعد أن يمل جسدانا عناقا وعركا... بادرته هي بالسؤال: هل من الممكن إدخال الشراب إلى البحرين؟... لا عليك جلبت لك واحدة من السعودية، وهي هديتي إليك... أوقف السيارة، فتح حقيبتها تحسس أسفلها وجد قنينة ويسكي مختومة).

إن كان للشاعر حسين الجفال نفس شعري فهو غير مكتمل الزفير في خواطره القصيرة أو رسائل هاتفه المحمول؛ لأن عناصر القصة القصيرة جدا تكاد تختفي في كثير من أعمال هذه المجموعة.

وليس الحديث هنا عن عدد الكلمات، ولكن يكفي اقتراب هذه الكلمات المكتنزة من فن القصة القصيرة جدا، التي لا بد لها في ظل هذا الاحتواء الدلالئ المكثف أن تبدو المفارقة فيها واعية، وليست كلمات عائمة مبعثرة لا تجمعها بنية درامية أو استراتيجية نصية تحدد نوعها النثري؛ لتحقق بذاتها القصيرة جدا متعة سريعة أو (رغبة) صادقة تبحث عنها الحالة المزاجية لظروف القارئ العصرية.

هذا الكلام ليس عائما في مجموعة قصصية قد يبدو الإهداء فيها أو الفهرس الموسوم بـ (رغبة النصوص) كأنه قصة قصيرة جدا من قصص هذه المجموعة، وقد تطفو كثيرا وأنت تقرأ قصة تركب خلالها الشعر المنثور أو موجة التفعيلة برويها المتصعلك كقصة: (زوبعة ص47) التي ننقلها كما وردت بنصها الكامل: (يصافح الغيم ثم يعانق المطر، يكتب سطرا، ويمسح آخر، يضع القلم جانبا ويده تتحسس ذقنه، يعاود الكتابة... يأخذ نفسا عميقا ثم يغني، هكذا ساعة من الزمن، يكتب ويشطب، في نهاية المطاف يطلق ورقته للريح ويشرع في مشاكسة جميلة مرت بالجوار)، ومن قصة: (مسرح ص24) نشاهد: (الستار يأبى انغلاقا، يعلو التصفيق... الفصل الثاني أكثر بؤسا، يسقط مفتونا بالحب قتيلا)، وفي قصة (سارة ص46) يقول الجفال: (مثل أوراق اللوز عندما يسرق البرد بهاءها، يشحب كل شيء، تنكمش، تتكور، هذا ما وجدت في روحها، لا شيء يستحق المحاولة سوى عنادها)، أما قصة (مسٌ ص35) فهي خاطرة بامتياز.

نعم، نحن نريد قصصا سردية قصيرة جدا بطريقة غير معتادة، ولكن في المقابل تبقى القصة قصة تحكى، وليست فنا آخر، أو مسخا لا نستطيع تحديد هويته، نريد المضمون المسرود وعملية السر نفسها التى لا تفتقر إلى صوت الروائي ولحظة المفاجأة، وهذا ما أكد عليه القاص عدنان كنفاني في موقعه تحت قائمة المقالات المكتوبة في هذا الجانب، ومنها: (القصة القصيرة جدا إشكالية في النص أم جدلية حول المصطلح) و(المطرقة والسندان) و(القصة القصيرة جدا مرة أخرى) يقول فيها: (فنحن عندما نقول قصّة علينا أن ننتظر سماع نص قصصي يحمل على أول درجاته وأقلّها شيئاً من القص، وهذا القص له شروط مبدئية... وأهم شرط من هذه الشروط الحكائية أي الحدث أي القصّة... وعلى هذا المغزل يشتغل المبدع حتى تستوفي القصّة شروطها... ولا بد للقصة أن تحمل مكانها وزمنها... القصة تختلف عن الخاطرة أو الحكمة أو النكتة. لها شروطها ولها ضوابطها ولها مسمياتها لكنها تبقى بالمعنى العام قصة، وإلا فلنجد لها تسمية أخرى...).

النوع الأدبي له أعرافه وقوانينه، والمؤلف الحقيقي في النص الجيد المطبوع وغير المصنوع يعد ضيفا على نصه كغيره من القراء الحقيقيين غير الافتراضيين، والقارئ في هذا الزمن يثور على النص الذي يظن كاتبه أنه يحتكر القصد والمعنى فيه، لأنه ببساطة أصبح أكثر إيجابية في معايشة النص وإنتاج جزء منه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى