الأربعاء ٤ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم محمود فهمي عامر

ما وراء «أرض النفاق» ليوسف السباعي

بانوراما أرض النفاق أو النص المقروء ليوسف السباعي تذكرنا بسخرية النص المكتوب أو كرنفالية الدال والمدلول في (الأرض اليباب) للشاعر ت. س. إليوت، والفرق أن السباعي مع صراع الأنا والصورة أهدى العمل إلى نفسه: (إلى خير من استحق الإهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي، ولو قلت غير هذا؛ لكنت شيخ المنافقين من أرض النفاق)، أما إليوت فهرب من ذاته، وقال: (أنت، أيها القارئ المنافق! ياشبيهي، يا أخي!).
نعم هو النفاق الذي يجد خلاله القارئ عملين متعالقين يتابع أحدهما بواقعيته نفس الآخر بميتافيزيقيته، ويلهث الاثنان معا وراء إنزياحية المعاني، فأمام التحديق بذات المرآة يتأمل السباعي فوضى القضايا الإنسانية والثيمات الاجتماعية التي طرحها إليوت في خرابه؛ ليشكل الأنا المغتربة وراء الأكمة.

ومن الأمثلة على مرحلة المرآة ورحلة الأثر ذلك النقد الذي وجهه السباعي للذرية المتكاثرة في أرض النفاق، حيث تذكر البطل في الجزء التاسع المعنون بأهل الخداع قريبه المصاب بداء النسل والذرية، وقال: (ما رأيكم في بنين بلا مال، ببنين حاف؟ هل تظنون أنها زينة أم أنها مصاب وبلاء؟ المسألة تحتاج إلى قانون ينظمها، فهي ليست مسألة أفراد بل مسألة أمة ص140)، وهذا الهم غادر إليوت حين قال: قالت ومطت وجهها: هذي الحبوب التي أخذتها حتى أنزله، قالت صار عندها خمسة، وكادت تموت مع الأصغر جورج، وفي قول آخر أكد إليوت عنوان السباعي (رجل شجاع) الذي يعد من ركائز أرض النفاق حيث قال: (يا صديقي الندم يخض قلبي، الجرأة المرعبة في لحظة استسلام لا يقوى على سحبها دهر من الحصافة)، وتاجر الأخلاق عند السباعي يتواصل مع قول إليوت: ( مدام سوسوستريس، البصارة الشهيرة، أصابها زكام شديد، ومع ذلك فهي معروفة كأحكم امرأة في أوربا، لديها رزمة ورق خبيثة)، ومن يقرأ العملين يجد الكثير من الأمثلة المستعارة كالفأر، والكلب، والنهر، والسياسة، والأخلاق، والدين، والجنون: (هيرونيمو) قد جُنّ من جديد، أما السباعي فقال: (يا أهل النفاق!! لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة!).

ليس هذا مسعاي في هذه الوقفة مع أرض النفاق للسباعي؛ فمفهوم النصوصية المتداخلة لا يجد المستعين به حرجا من إليوت أومن غيره، ولكن كان لابد من ذلك؛ لبيان الأثر الذي يحدثه العنوان في فهم النص، أو تعرف العلاقات بين الأعمال الإبداعية ومحاكاتها.

وهذا بدوره يوجه القارئ لعناوين أخرى متشابهة، تعد بذاتها تقنية من تقنيات السرد لا تقل أهمية في فهم العمل عن النموذج السابق، من مثل: أرض السواد (الأرض والناس) لعبد الرحمن منيف، وأرض السودان (الحلو والمر) لأمير تاج السر، وأرض البرتقال الحزين لغسان كنفاني، وأرض المدامع لـ البشير الدامون، وأرض الخرابة لعبد الجواد الخفاجي، وأرض الغجر لأحمد أبو هيبة.

وبالعودة إلى رواية (أرض النفاق) للسباعي نجد العنوان في قائمة المضاف والمضاف إليه، ولا يكتسب المضاف قيمته إلا من المضاف إليه، فما قيمة هذه الأرض المضافة إلى النفاق؟ وكيف الخلاص من المضاف إليه؟ وما حال من يضاف إليها؟ وما البديل؟

لعل هذه الأسئلة كانت دافعا إلى نرجسية الكاتب في إهدائه، وغروره وأنانيته في مقدمته، واختيار صيغة المتكلم (أدهشتني اللافتة) لأدائه السردي المتحكم بالعمل، واعتماد الصراع الداخلي في تطوير الحدث، كما أكدت مفهوم النص المقروء الذي كُتِب لتوصيل رسالة محددة ودقيقة لقارئ مستهلك تقتصر مهمته على استقبال الرسالة وإدراكها؛ ولهذا قدم السباعي لافتة أو مقدمة قبل كل فصل من فصول روايته تلخص ما ورد فيها قبل الشروع بقراءتها؛ حتى تصل تغريدته السردية بهذا التأطير إلى المجتمع الذي كتب إليه، وقد بدا بهذا المنطق السردي متلهفا متسرعا لتغير المضاف إليه بتلك اللافتات أو المختصرات أو المقدمات.

إن المضاف إليه هو الذي جعل الكاتب يبحث عن مخلص حقيقي لهذه الأرض من النفاق، أو عن زعيم أو بطل الأخلاق المحمودة، وهذا جعله يعنون الجزء الأول بـإضافة التاجر إلى الأخلاق (تاجر أخلاق)، حيث قدم لافتة أو مقدمة للجزء جاء فيها: (النزاهة والعفة والمروءة والتضحية، أوتظن أن هذا هو ما يدفع المرء إلى مرتبة الزعماء في هذا الزمن؟ هل تظن أن زعماء هذا الزمن يجب أن تتوافر فيهم هذه المزايا والأخلاق؟!).

وتطرق الكاتب مؤكدا التغيير أو الثورة على المضاف إليه حين قال ص15: (يصر على أن يسمى عطارته أخلاقا، ولا أظنه الأول من نوعه، فقد سبق لي أن صادفت بائع «فول مدمس» لا يبيع بضاعته إلا إذا طلب منه الشاري «لوز»، وبائع «طعمية» لا يطيق أن يطلق أحد على بضاعته سوى «كباب»)، وما استعان الكاتب بالحجاج في هذا الجزء إلا لأنه غير أرض العراق، وهو يريد قيادة شجاعة تغير أرض النفاق؛ ليحرر خلالها أرضه من النفاق، ثم أرض فلسطين من الاحتلال.
إذن هي الشجاعة التي اختارها أولا من بين الأخلاق؛ لتكون عنوان جزئه الثاني (رجل شجاع)، وليحقق خلالها حلم الثورة على المضاف إليه.

ولكن البطل ظهر من البداية مهزوما، والشجاعة لم تصادف من يستحقها أو من يقدرها في ارض النفاق؛ فكانت سببا في فرض عناوين مختارة على أجزاء الرواية، فبسببها حدثت (الخيانة العامة) في الجزء الثالث، ومن ويلات الشجداعة ونتائجها القاسية استنجد بـ (الجبن) المتمثل في الجزء السادس، والذي تنازل عنه لعدم توفره في حانوت الأخلاق، فبحث عن معادل يخفف حدة الشجاعة، فكانت (المروءة) في الجزء السابع، حيث تعرف خلالها في الجزء الثامن على القذارة كما وصفها ومجمع الشحاذين، و(أهل الخداع) في الفصل التاسع، حتى وصل إلى الفصل العاشر المعنون بـ (جنون المروءة) هذا الجنون الذي دفعه عندما وجد نفسه وحيدا بأخلاقه إلى أن يسرق خلاصة الأخلاق؛ ليضعها في النهر؛ ليصل بسرده المتواتر إلى الجزء الحادي عشر (بلا نفاق).

وهنا تبدأ نقطة التحول في الرواية، حيث أصبح النقد لاذعا صريحا (بلا نفاق) وكشف خلاله الكاتب حال العلاقات الاجتماعية الزائفة والقبح الإنساني الدفين الذي أدرك ذاته في مرحلة المرآة وتكوين الأنا النرجسية أو كذبة حياته التي رعاها بنفاقه كما في الفصل الثاني عشر (في جنازة)، وحال رجال الدين وسلطتهم الأبوية الكاذبة في الجزء الثالث عشر(في صلاة الجمعة)، وحال السياسيين والنخبة المتحزبين ومكوناتهم الثقافية الساقطة في الجزء الرابع عشر(في حفلة انتخابية)، وهذا كله نتيجة الجزء الخامس عشر (وباء الأخلاق) الذي انتقد بعده الصحافة في الجزء السادس عشر(صحافة بلا نفاق)، وجاء الجزء السابع عشر المعنون بـ (خاتمة) ليقول: (هذا الشعب لا بد أن يكون أحد اثنين: إما شعب يكره نفسه؛ لأنه رغم ما يشيعون عنه من أنه مصدر السلطات يأبى أن يصلح حاله، ويعالج مصابه، ويزيل عن نفسه ذلك القيد الثقيل من الفقر والجهل والمرض، وإما أنه شعب زاهد قد تعود ذلك البؤس الذي يرتع فيه، والحرمان الذي يأخذ بخناقه)، ثم قال: (عامل الناس كما تحب أن يعاملوك) وانتهى بقوله: (لا تلومني ولوموا أنفسكم، لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة، هذه قصتكم، ومن كان بلا نفاق فليرجمني بحجر).

وعلى الرغم من أن الرواية نشرت عام 1949م إلا أنها ما زالت متناغمة مع الواقع، وتصور ما فيه كما سرد السباعي في أرضه.

والجدير بالذكر أن الرواية من السرد الطويل والحجم الكبير؛ حيث كرر الكاتب المعاني تكرارا يعبر عن الواقع المتكرر بأحداثه، ومال إلى التفاصيل الدقيقة للفضاء المكاني، ورصد أنفاس الشخصيات وملامحها النفسية وحالتها الاجتماعية، وفتح لها المجال لتعبر عن نفسها بحرية معتمدا تقنية التشخيص، ومشتغلا على تقنية الحواس، وخصوصا حين (اختار منطقة القللي، وما أدراك ما القللي؟ خطر لي وأنا أجول في الشارع أن الأسماء التي يكنى بها عن مصر كأرض الفراعنة وبلاد الأهرام ينقصها اسم قد يكون أصدقها وأدقها تعبيرا وهو أمة الملوخية ص 122)، وحين وصف الشحاذين، وجارة الوادي أو جارة السوء؛ فجاءت الأحداث معبرة عن ثنائية الواقع والمتخيل؛ لتجذب القارئ إلى فضائها وتخيلها، بل لتقمص شخصية البطل أو غيرها خلال الحوار اليومي للقارئ.

واعتمد السباعي بشكل رئيس على تقنية السرد المتواتر من خلال الحدث الذي تكرر أكثر من مرة كما في مجمع الشحاذين، وتواتر المشاعر كالشعور بالجنون عندما يخرج عن مألوف النفاق، والتواتر الذي أسسه الحدث الذي انطلق من البحث عن البطل ومفهوم الشجاعة؛ لتصبح جميع الفصول متواترة الحصول،

كما استعان في تقديم الأحداث بالسرد المتقطع الذي يعتمد على تعدد الأصوات بين البطل وبين تاجر الأخلاق وبين الشحات؛ ليظهر التناقض الموجود في الواقع، هذا التناقض الذي دفعه إلى تقنية سردية ثالثة تعتمد على المفارقة من مثل: (والمصاب الأعظم هو أن بين المال والبنين تنافرا شديدا، ولو حاولنا أن نضع لهما قانونا من قوانين الطبيعة لما كان أكثر من أن يناسب مال الإنسان عكسيا مع ما لديه من بنين، فهذا المليونير لم ينجب بنين قط أما حنكورة والمعلم حنفي والشيخ أبو سريع فلدى كل منهم دسته من البنين والبنات ص140)، وخلال هذه التقنية السردية يثير الكاتب تقنية رابعة مستمدة من الاسترجاع الزمني كما في حديث تاجر الأخلاق عن تجربته مع بضاعته، وحال البطل قبل مشروبي الشجاعة والمروءة أو أثناء تذكر جيكل والمستر هايد ص 130، وخلال تذكره خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وانتصارات العرب وغزواتهم ص50، وهذه التقنية جرت الكاتب إلى تقنية سردية خامسة تمثلت في تداخل الأحداث وأسلوب المفاجأة (وخطر لي فجاة خاطر عجيب وفكرة مدهشة، لم لا نحاول أن نفصل لعبة الحكم عن الحكم فعلا؟ ص85)، كل ذلك في فضاء مكاني يتناسب مع طبيعة الشخصيات المشحونة بالنفاق الذي يصارع الواقع، هذا الفضاء المكاني الذي ركز عليه الكاتب كثيرا، وانتقد ما فيه من قذارة وبشاعة؛ لينقله كما هو، وليقود الأحداث إلى حقيقة النفاق التي واجه الكاتب فيها القراء، وهذا الأسلوب السردي الساخر والمعتمد كثيرا على مقامات بديع الزمان الهمذاني خلق حالة من الدرامية والتشويق تحولت معه الرواية إلى فيلم سينمائي سنة 1968م.

ولا بد من وقفة مع تقنية مهمة من تقنيات البناء السردي اعتمد عليها يوسف السباعي بطريقة غير مباشرة، حيث استثمر مفهوم المغالطة القصدية، وأطلقه خلال سرده، هذه المغالطة التي غلفها بأسلوبه الساخر؛ لتمر دون النقد المباشر، والمغالطة القصدية تعبر عن ذات المؤلف، وتتوجه إلى قصده وأغراضه وغاياته خلال تقنية سردية أخرى تختفي خلاها تلك المغالطة، هي تعبر عن انزياح المعاني في ظل السياقات الاجتماعية والثقافية المتحكمة بالنص المسرود، وتمثل ما وراء النص السباعي، ومن الأمثلة على ذلك:

أولا: (إن الإنسان هو الإنسان، غشاش مخادع كذاب منافق في كل أمة في كل جيل، لا تقولوا رحم الله أباءنا وأجدادنا؛ لأنهم كانوا خيرا منا وأفضل خلقا، لا تقولوا ذلك؛ لأنهم لا يقلون عنا رداءة وسفالة ص 58).
ثانيا: (ما هذا الاعتبار الذي يقيمه الإنسان للملابس؟ هل هناك ما يدل على سخف الإنسان من مسألة الملابس؟ لقد خلقه الله بلا ملابس؛ لأنه لا حاجة به إلى الملابس، ولو كان به إليها حاجة لخلقها معه كما خلق الفراء للحيوان والريش للطيور، فيولد الإنسان من بطن أمه وفي قدمه حذاء، وعلى رأسه طربوش أو برنيطة، ولكن الله هو العليم الحكيم وجد أنه كويس كده، وأنه كفاية عليه الجلد والشعر؛ فتركه يهبط من بطن أمه عريان ملط، فماذا فعل الإنسان الأحمق الغبي؟! أبى إلا أن يضيف من عنده الحواشي ويضع الرتوش... ثم حشر بعد ذلك بين ساقيه سروالا؛ حتى يستر عورته، ولو تركها عارية لما شعر أحد قط أنها عورة، بل ولتساوت مع غيرها من أعضاء الجسم ولاعتادها البصر حتى لم تعد تثير أقل اهتمام، وليس أدل على ذلك من أنه كلما ازدادت النساء عريا قل تأثيرهن ص 167 -168).

ثالثا: (وانتهيت من قصتي، ووجدت الرجل يهز رأسه ويقول: أحمد الله، علام؟! وماذا يمكن أن يصيبني شر من هذا؟! اللهم إلا إذا كنت تعني أن أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ص181).

رابعا:(خمس أموات يا رب، وإلا خليهم عشرة مش بترزق من تشاء بغير حساب؟ خليني مرة واحدة في العمر(من تشاء) مرة واحدة بس خليني (من تشاء) وابعث فيهم فرّه وإلى شوطة وسيب الباقي عليّ ص211- 212).
خامسا: (حدث ذات يوم أن ذهب القوم إلى الجامع لتأدية فريضة صلاة الجمعة، فاعتلى الخطيب المنبر، وبدأ في إلقاء خطبته، وأخذ في وعظ القوم وإرشادهم وحثهم على ترك الحشيش، مبينا لهم أضراره... ولم يكد ينتهي من خطبته حتى علا بين المستمعين صوت يسأله: الحشيش أنهو يا سيدي؟ حشيش الأرانب؟! ونظر إليه الخطيب في غيظ واستنكار، ثم مدّ يده إلى عمامته فأخرج من بين طبقات الشال (فص حشيش)، وأجاب السائل: لأ الحشيش ده يا روح أمك... وقال لمن قال حرام الضحك في بيت الله: ألا تدري أن رب ضحكة تخرج من صدورنا طليقة مخلصة تجعلنا أشد إيمانا بالله؟ ألا تدري أنه رب أغنية جميلة تطهر نفوسنا، وترسب شوائبنا، وتحلق بنا إلى السماوات، وتقربنا من الله أكثر من ألف ركعة وسجدة؟ ص222-223 ).

ويبدو أن الكاتب استهدف في هذه المغالطات المقصودة شريحة كبيرة من المجتمع العربي، فمن يحارب النفاق يدب السم في العسل أوقل الدسم، وقد استعان على نشر هذه المغالطات بالسخرية أو النكتة القريبة من النفس الإنسانية، وغلفها باللهجة المحكمية؛ حتى تكون مستساغة، ومقبولة، وسريعة الانتشار، من مثل: (طباخ السم بيدوقه ص21) و(خناقة لرب السماء ص33) و(فرقع لوز ص54) و(بعد خراب مالطة ص110) و (يا ما جاب الغراب لأمه ص158) و(جن لما يلخبطك ص174).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى