السبت ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
تجاوزت المقهي - بين النزق الإنساني وتقنية المفارقة
بقلم يسري عبد الله

ركل العالم عبر اللغة!

ثمة مدلولات عدة يمكن تلمسها في العنوان المراوغ الذي يضعه القاص وليد خيري لمجموعته القصصية تجاوزت المقهي دون أن يراك أحدهم، مقتطعا اياه من جملة سردية داخل المتن الحكائي لاحدي قصص المجموعة، ففضلا عن تلك الرغبة العارمة في التخفي، فثمة مداراة وعدم اكتراث يبدوان بارزين منذ الوهلة الاولي، تبرزهما صفحة الغلاف التي لا تنفصل ومعها عنوان المجموعة عن متن النص السردي، فالصبي العاقد كفيه خلف ظهره، مبديا عدم اكتراثه بالعالم من خلفه، يبدو لي متماسا مع المنحي الرؤيوي داخل المجموعة هذا المنحي المسكون بروح التهكم علي العالم والسخرية منه، أو ’ركل العالم’ بتعبير السارد ذاته.

يقسم القاص مجموعته قسمة منطقية، تعد في رأيي مرتكزا لمعمار قصصي تتكيء عليه النصوص، حيث البدء من ’الصفر’ الذي يشي ببداية الحكاية، مرورا بالرقم (1) أو فر الكراريس حيث منابع البكارة الاولي، فالرقم (2) أو ’البنت فايرة والولد طايش’ حيث نصبح بإزاء وهج انساني يتخذ من نزق الصبا سبيلا له، وصولا الي الرقم (3) أو ’حدوث العالم’ حيث يبدأ السارد في تعاطي المعالم عبر رؤية مغايرة، علي الرغم من مفارقتها، حد البكارة الأولي، بيد أنها لا تتحول الي رؤية سكونية.

يطرح القاص عبر التقسيم السردي السابق رؤيته الخاصة للعالم، والمعبرة عن حالة مائزة من التواصل المقترب أحيانا من حد الوله بمعطيات عالمه الخاص ’البكارة الاولي/ نزق الصبا/ العلاقة مع المرأة’.

يبدأ القاص مجموعته بالرقم ’صفر’ معلنا بدء الحكاية، فيما يشبه التمهيد للنص، حيث ’يقرر الرجل الذي أصبح أبا للسارد فيما بعد مضاجعة امرأته ناشدا بعض الدفء’ عندئذ تتخلق الحكاية والتي تشي بدايتها بابراز ذلك الطابع الذكوري للمجتمع، فضلا عن رغبة السارد في كسر سطوة الاب ¬ وهي سمة في الكتابات الراهنة، بيد أنها تأخذ هنا طابعا تهكميا له صبغته الحميمية.

يصدر القاص الأقسام الثلاثة لمجموعته بمقاطع إبداعية لآخرين، حيث يصبح كل مقطع مدخلا لقراءة النصوص، ففي قسمه الأول ’فرالكراريس’ يستعير المقطع الشعري التالي: ’تخاف العجز/ فتملا الشوارع بحلم الطفولة/ شقاوة مهولة/ ما تشربش قهوة/ ماتشربش كولا’.

يحاول القاص الامساك بحلم الطفولة السرمدي، بادئا بالمنابع الاولي في قصته ’درس في ركوب العجل’ يتم السرد بضمير المخاطب ’كان أبوك يباغتك في الصباح وهو يداعبك بذقنه فتزعجك منابت الشعر’.

وقد اتاح هذا الامر للسارد قدرا أكبر من البوح، يتواءم مع رغبته الملحة في الكشف عن عالمه، هذا العالم الذي يصبح أكثر ادهاشا لا عبر تفصيلاته الدقيقة فحسب، بل كذلك عبر استخدام لغة ذات طابع حميمي وثيق الصلة بالمتلقي، كان لها القدرة علي منح العلاقة بين ’السارد’ و’أبيه’ في القصة خصوصية تتجاوز أبعاد العلاقة النمطية بين الولد والاب. وفي قصة ’سكرسنترافيش’ يتجه السرد الي ما يسمي بالسرد الذاتي وهو ذلك السرد الذي يتميز بسارد ظاهر تقوم مشاعره باضفاء الظلال علي الوقائع والمواقف المعروضة، ويبدو هذا السرد شائعا داخل معظم قصص المجموعة، مستخدما إما ضمير ’الأنا’ أو ضمير الغائب، ومثلما كشف لنا السارد عن علاقته بأبيه في قصته الاولي، فانه هنا يكشف عن علاقته الحميمية بأمه ’الطرف الآخر في معادلة احضار السارد الي العالم’، وهذا ما يتوازي مع ما طرحه القاص في بدايات نصه.

تبدو ثنائية ’البنت/ الولد’ حاضرت منذ الوهلة الاولي في القسم الثاني من المجموعة ’البنت فايرة والولد طايش’: واللافت للنظر أن هذه الثنائية المكرورة لم تكن أساسا لعلاقة نمطية بين الطرفين، بل كانت تعبيرا عن ’نزق انساني’ مظهره في المجموعة ’فوران البنت وطيش الولد’ وجوهره ’حلم الانعتاق من أسر القار’ ولذا فان القاص يستهل هذا القسم من المجموعة بابراز هذه العلاقة عبر أضلاع مختلفة، كما في قصته ’ولد وبنت وشايب والراوي العليم’ وفيها يحكي السارد بضمير الغائب، ويهيمن ’الراوي العليم/ المحيط بكل شيء قدرا’ علي النص، ولذا لم يكن مدهشا أن يتم تعرية هذا ’الراوي العليم’ وإلحاقه علي نحو مباشر بالمؤلف الضمني للعمل: ’أنا ¬ البنت عيونها سود وكحيلة، وأنا أحب العيون السود الكحيلة’.

وفي القسم الثاني من المجموعة تتجاوز عناوين القصص حد كونها بنية دالة لتصبح بنية كاشفة عن مدلولات النص القصصي، ويصبح الحكي من قبل السارد عن طرفي الثنائية ’البنت/الولد’ بؤرة للسرد داخل النصوص. وتمثل ’البنت’ الشخصية المركزية في بعض نصوص المجموعة مثل ’بسنت’ و’رباب’ و’البنت التي هواها يرد الروح’ وتتنوع النصوص القصصية هنا في استخداماتها التقنية، فترتكز قصة مثل ’رباب’ علي تقنية المفارقة فالبنت التي قبلت الولد مرتين في الاوبرا، هي ذاتها التي انكرت انها تعرفه في محطة المترو، ويصبح ’الاستباق’ تقنية رئيسية ترتكز عليها قصة ’سيأتي من بعدي ولد اسمه علي’، حيث يتم فيها الالماح الي وقائع ستحدث بعد اللحظة الراهنة ’لحظة انفصال السارد عن فتاته’.

ان الكتابة في القسمين الاول والثاني من المجموعة لست عن أشياء تبتعد عن وعي الراوي، بل هي من صميم تجاربه الحياتية، وخبراته ومشاهداته اليومية، ولذا فهي تستقي مصطلحا نقديا كلاسيا،
¬ لو أردنا وضع الامر في سياقه المنهجي ¬ واعني بالمصطلح ’الصدق الفني’ الذي يتحقق بجدارة في هذين القسمين ’فرالكراريس، البنت فايرة والولد طايش’.

وفي القسم الثالث من المجموعة ’حدوث العالم’ يحدث تحول تقني داخل المجموعة، تلعب ’اللغة’ فيه دورا بارزا، حيث اضحت اللغة ذات مد رفيع كما في ’الحيل القديمة’ و’مشاهد صغيرة تكفي لصنع مأساة’: وعلي الرغم من تلك المغايرة التي تتمتع بها قصص هذا القسم ’سواء علي مستوي استخدام اللغة، أو علي مستوي الرؤية الحاكمة للنصوص’ بيد أن روح البطل الزئبقي تظل مهيمنة علي النصوص، طارحة تمايزا في اطار النسق الكتابي العام للمجموعة.

وتبقي الاشارة الي منحي ’اللغة’ داخل هذه المجموعة، لا باعتبارها تقنية رئيسية فحسب، بل باعتبارها كذلك خصيصة أسلوبية مميزة للكتابات الجديدة، والتي لم تعد اللغة فيها غاية ’علي اعتبار أن الادب تشكيل جمالي للغة’، بل أضحت وسيلة، ومن ثم لم تعد تبحث عن ذات الجماليات السابقة، والتي ترتكز علي استخدام اللغة بمنحاها الكلاسي الأكثر سموقا، وانما بدأت تخلق جمالياتها الخاصة من الاشتباك مع الراهن، وتقديم اليومي والمعاش بشكل تفصيلي، يستعيض أحيانا عن شعرية اللغة بجسارتها، وقدرتها علي خلخلة البني السائدة، وتقويض القار منها، وهذا الامر يستلزم ¬ في رأيي ¬ احترازا في استخدام اللغة، حيث الخيط الواهي بين ’الركاكة’ و’اللعب اللغوي’.

لاشك أن الفن الحقيقي هو الذي يفتح الابواب المغلقة بدلا من أن يدخل الابواب المفتوحة ونحن بازاء مجموعة قصصية لا تسير علي نسق معين، بل تعبد مسارها الخاص، مرتكزة علي آليات مستمدة من الراهن المعبأ بثقافة لها آلياتها الجديدة ’واللغة جزء من هذا السياق الثقافي’ ومستمدة كذلك من رؤية للعالم، تعد علامة علي نسق رؤيوي ’ما بعد تسعيني’ نسق يأتي في ظل سياق سياسي وثقافي موار ومغاير عن السياقات السابقة .

الكتاب: تجاوزت المقهى دون أن يراك أحد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى