الثلاثاء ١٢ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم الهادي عرجون

رواية «مطر خلف القضبان» لميرنا شويري

لم أكن أدري وأنا أطل خلف قضبان ميرنا شويري من خلال روايتها «مطر خلف القضبان» أن أتعاطف مع شخصياتها، حينما تصبح البطلة كالممحاة تمحو بعض المآسي لتشعر أن جزءا من حياتها قد انقضى ونقص، فقد ولدت في المكان الخطأ والزمن الخطأ لذلك تدفع الثمن باهضا وتدخل في سبات عميق من الأحزان لا ينتهي،وأنا أمسك بقلمي لأخط ما تقاطر من حزنها،فقد تعددت القضايا التي تطرحها الرواية حيث برزت النزعة الإنسانية بصورة جلية، فتجربة أدب السجون من أقسى التجارب التي يمكن أن يمر بها الانسان، فمن عتبة السجن يولد الأدب من رحم المعاناة والألم والظلم خلف القضبان الحديدية، فأدب السجون يتميز بحيوية الانفعال، وصدق التجارب، وهو الذي يكتب في أجواء من الأمل والألم وفي ظل المعاناة والصبر، فإذا بالكاتبةعلى الرغم مما تحمله روايتها من وجع قاس، وتوق إلى الاستقرار وسكينة الروح، وهو ما يجعل من الزمن بطيئا ثقل الواقع الذي تعيشه وما يعكسه هذا الواقع من ألم وتمزق وحنين.

في البداية يمكن أن ننطلق من العنوان (مطر خلف القضبان)، والذي وضع نصب عيني أفكار مسبقة لمحتوى الرواية بأحداثها وشخصياتها قبل قراءتها، ولكن العنوان في الغالب يكون حمال أوجه ومتناقضات عدة، وقد تكون عتبات النص مدخلا ابستيمولوجيا آمنا لعوالم الرواية وتحولاتها المثيرة من حيث علاقته بالبنية السردية للرواية، وما يحمله من دلالات يمكن أن تكون مرآة عاكسة لمضمون الرواية، فـ"العنوان يُعد في أي خطاب إبداعي دلالة سیمیائية محورية"(1). حيث يعد اختيار العنوان من الأفكار والمشاغل التي تتبادر إلى ذهن الكاتبة وأخذت حیزًا من فكرها، لتكون ملخص الفكرة الرئيسية التي ترنو إليها أو التي شغلت ذهنها؛ أي أنهاتكتب عن المُفَكر فیه.

الكاتبة في روايتها (مطر خلف القضبان) ترسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النّصّ وتخبر القارئ بمحتوى روايتها حين تضع مسارا له بقولها: "سأقدم بحثا عن وضع المرأة السجينة في لبنان وأحضر رواية أيضا عن هذا الموضوع" (ص11). وهي محملة بالإرث الثقافي في شكل علامات مرجعية ورموز نصية وسيميائية، تستوجب من المتلقي أثناء التعامل معها أن ينطلق من خلفية معرفية مزودة بمعلومات مسبقة عن وضعية السجينات لتحقيق اتساق النص وانسجامه مع الواقعي والمتخيل كما هو الحال أثناء التعامل مع روايات تاريخية التي تعتمد المزج بين سردية فنية تخييليه وبين التاريخ كمعطى واقعي معيش، فالكاتبة قامت بجهد خارق في البحث والتوثيق والاطّلاع على كلّ ما يتعلّق بموضوع روايتها.

حيث اتجهت من خلال هذه الرواية الي الحديث عن حياة السجينات الجنائيات، واضطهادهن بالسجون وخارج السجون، وحقوقهن الإنسانية، عبر قصص مشوقة عن مجموعة من السجينات ومصائرهن من جوانب مختلفة ومتنوعة، والتي تشتبك حياتهن بما فيها من قصص وحكايات مع حياة ميشاالفتاة الجميلة المثقفة التي تتعرض لعملية احتيال من عمها، والتي يتم سجنها على خلفية تحرير شيكات من دون رصيد. لتتعرض داخل سجن النساء لشتى الصعوبات والمضايقات، وصولًا إلى تهديدها بالاغتصاب من قبل السجينة أم أمجد، لتجد نفسها في واقع غير الذي عاشت به، كل ما فيه متغير مع انقلاب المفاهيم والعادات والتقاليد والأخلاق فهي شخصية رأت غربتها في الحياة وكشفت قناعها لتتكشف أقنعة أخرى كانت تدور حولها.

في حين تشكل بعض الشرائح من المجتمع اللبناني خلفية للأحداث، والمعايشة النفسية لشخصياتها عبر تصوير الواقع الاجتماعي ونقده، مع إقحام بعض من آراءها للتعبير عنها بعفويته ينزاح إلى ضرب من التحليل النفسي لشخصياتها التي تبدو شخصيات مركبة بثت خواطرها وأفكارها بأدوات فنية جمعت بين أحداث واقعية وبين المذكرات والحكايات السير ذاتية.
لتتمكن الكاتبة بعمقها النفسي والفكري منتمريرخطابها الأدبي بنقدها للواقع وإضاءة نقاط مهمّشة لا يعرفها الكثير في حياة السجينات التي أقحمتها الروائية ميرنا شويريفي عالمها كشخصيات تدلي بتجربتها وسيرتها الكتابية مثقلة بالأسئلة، أسئلة الوجود ورغبات الفكر، أسئلة البحث عن الذات.

فكانت لعبة الأقنعة هذه نوعا من الانعكاس الذاتي للكاتبة من أجل الإدلاء بمنظورات وتصورات تجاه شخصيات روايتها وقضاياها. فهي محاولة جريئة مختلفة عن السائد المألوف عن أدب السجون"انطلاقا من تجارب شخصيات سياسية كان نص السجن هو نصهم الوحيد، سجلوا فيه تجربتهم ثم مضوا إلى أشغالهم وتخصصاتهم الأخرى، وتشمل هذه الكتابات فضلا عن اليوميات والسير الذاتية والروايات والقصائد والمسرحيات، شهادات لا حصر لها ومقابلات وشذرات"(2)، ولكن في هذه الرواية تطل علينا الكاتبة ميرنا شويري بشخصية اجتماعية قل ما نجدها في أدب السجون كما أسلفنا ذكر ذلك فالشخصيات ( ماري)،التي تبدأ قصة حب جمعتها مع كيفن بألم حافظ على عذريتها، لأنه كان يود الارتباط بها، كونه من ثقافة تقليدية تهتم بهذا الجانب، لكن حين يزهد بها لإصابتها بالصمم، يحاول فضها فترفض ، بسبب إصابتها بالصمم، ولعل أهم بواعثها الفكرية الحقوقية، ومناصرة قضايا المرأة والمهمشات و(ميشا)، الشابة الجميلة المثقفة العصرية التي تعيش في بحبوحة ورفاهية تتعرض لعملية نصب من عمها، يتم سجنها لتحريرها شيكات من دون رصيد. تتعرض لشتى الصعوبات داخل سجن النساء، وصولًا إلى تهديدها بالاغتصاب من إحدى السجينات. وغيرها من الشخصيات كـ:( سميرة الأرملة الغنية/قمر، الفتاة السورية التي تم التغرير بها للعمل في الدعارة/أم ماجد، تجمعت فيها الشرور، تسيطر على كثيرات، وتغتصبهن/نهاد متهمة بالدعارة، قصتها مرتبطة بأبيها تاجر المخدرات/ رنا الصباغ سجينة مختلفة تستأنس بها ميشا وترتاح إليها/سجينة أثيوبية متهمة بالقتل، وكانت مخدومتها تعنفه/ سنية غريبة في حديثها عن الجنس، إلى درجة تقديس المتعة/ آية المريضة بالإيدز، التي اضطرت إلى العمل في الدعارة) التي تطل من نوافذ هذه الرواية تجسد شخصيات اجتماعية تتحرك في فلك المجتمع القاسي والعلاقات الاجتماعية بأشجانها وإحباطاتها، بالإضافة إلى مجتمع السجن الذي له لغة معينة وعلاقات غريبة أيضًا، ما بين العادي وغير العادي، من علاقات مثلية، واغتصاب، واستغلال الدرك للسجينات، خاصة خلال نقل السجينات إلى المحاكم، حيث تبيع إحداهن جسدها في مقابل وجبة طعام.

ليظهر تميز الكاتبة وتفردهامن خلال مقدرتها الواضحة على المزج ما بين الواقعي من ناحية،والمتخيل والافتراضي من ناحية أخرى فهي تبحر بنا في مسارب نجهلها دليلنا فيها، غرابة الأحداث والشخوص التي تتأرجح بين واقع مألوف بأشجانه واحباطاته، وبين تخييل يتشحبثوب القلق والبحث عن الذات" أقول في نفسي: لعل كتابة أحزاني تشفيني، ولكن المريض يشفى، أما الميت فلا روح لديه. في خوفي وإحباطي لم أعد أملك إلا القلم، لعل كلماتي تشعرني ببعض من نبض الحياة، لكن عندما أقرأ كلماتي لا أرى على الورقة إلا نبض موتي"(ص21) وهذا ما جعل الرواية تتأسس على التنوع والتباين والفوضى والغموض.

والملاحظ أن الكاتبةقد أكثرتمن استعمال أسلوب الاستفهام (هل، كيف، كم، لم، من...) وهو استفهـام بلاغي والذي يعدُّ أحد أساليب الإنشاء الطلبي في الجملة العربية سواء كان لهدف محدد ومباشر،أم كان لتصور إيحائي جمالي غير مباشر عند المتكلم، وقد عمدت في جل صفحات الرواية إلى جملة من الاستفهامات، نقدا لوضعية معينة "سألت نفسي: لماذا كل هذا يحاك ضدي؟ لا أعرف، لكن أشعر بأن الموت يقتلني مئات المرات، وبأن الحياة لن تقترب مني بعد اليوم، وأدرك بأن كرامتي التي تأبى أن تركع ستصفعني كل يوم، ولا جدوى من أي سؤال؟" (ص56)، أو تثبيتا لرأي أو ثناء على شخصية من شخصياتها أو استهجان لفكرة "لكن كيف سجلتما زواجكما؟"(ص33)، وقد وشحت بها روايتها لتزيد من متعة القراءة تارة ولتثري نصها بجملة من الأفكار ظاهريا ولتوهم القارئ أنها مجرد ناقل للأحداث وللآراء بوصفها القارئ الأول للمذكرات أو للرواية.

وقد عمدت عند استعماله لأسلوب الاستفهام لتنويع الأغراض البلاغية المتعددة التي تنبثق عن التعجب، والدهشة، والاستغراب، والتقرير، والإنكار، وهذا ان دل على شيء، فإنما يدل على معاناة الكاتبة من خلال شخوص الرواية، والحالة القاسية التي ألمت بهذه الشخصيات، فقد أخذت بجذوة الكشف عن أسرار شخصياتها لتنفس عنها من خلال أدوات الاستفهام التي تثير في النفس التأمل والتدبر، وتجعل القارئ مشاركا في هموم الشخصيات ومآسيها " هل يريد والدي مني أن أخدم هؤلاء؟ مستحيل كلهم أشرار. هذه المرأة خائفة اليوم من أم أمجد، ولكنها متهمة بالدعارة.في الخارج أيضا لا أحد بحاجة إلي إلا طفلي"(ص169).

فتكرار أدوات الاستفهام كان له كبير الأثر في الكشف عما يعتمل في صدر البطلة من أحاسيس ومشاعر فياضة، حيث نجدها متعجبة أحيانا، مما تنقله من أحداث أو ما تقرأه لنا من مذكرات، بينما نراها متحسرة هازئة أحيانا أخرى، وهذه هي حال الكاتب الحق، الصادق الأحاسيس، الذي يحمل همه في داخله، وفوق رأسه أينما حل وأينا اتجه. فالاستفهام قد لا يبحث فيه المتكلم عن إجابة، وإنما يهدف إلى تصورما يتحدث عنه فيخرجه عن حقيقته إلى مقاصد شتى، كما أنه،لا يتطلب جواباً وإنما يحمل من المشاعر أغراض بلاغية عديدة منها:التشويق- الإنكار- النفي- التمني –التقرير- التهكم والسخرية- التعجب – المدح والتعظيم – الاستبعاد – الأسى والحسرة- التسوية وغيرها من الدلالات التي تفهم من خلال السياق، وتعرف من خلال الموقف الذى يقال فيه وحالة الأديب النفسية والجو الشعوري المسيطر على الحدث وسر جمال الاستفهام البلاغي أنه يعطى الكلام حيوية ويزيد من الإقناع والتأثير كما أن فيه إثارة للسامع وجذبا لانتباهه وإشراكا له في التفكير ليصل بنفسه إلى الجواب دون أن يملى عليه لارتباطها الوثيق بحركات النص الوجدانية الداخلية، من خلال الحالة الشعورية التي عليها الراوي (الحزن،الأسى،التمزق،الضياع،...).

وقد كشف لنا أسلوب الاستفهام، بأن هناك نوع من الأزمة المعرفية التي تعيشها الكاتبة وبطلاتها مع ذاتها، للولوج إلى حرم الحقيقة التي تنشدها، وهذا إن دل على شيء فقد دل على قلق الكاتبة المتمثل في فعل المراجعة الذاتية الدائم لما يعانيه المثقف العربي عموما.

كما اعتمدت الكاتبة منذ الصفحات الأولى للرواية على الرمز الطبيعي، أحد أهم عناصر التصوير الرمزي، كما أنه يتميز بالحركية والديمومة ويعطي المبدع حرية التصرف الفني في هذا الرمز. فهذه الرموز لها دورها في التعبير عن الحاجات النفسية، والمواقف الاجتماعية، كما أنها تعكس حالة الشخصيات. وعلى هذا نلاحظ استدعاء الكاتبة للرموز الطبيعية مثل ثيمةالبحرالتي تكررت (18 مرة)،وكذلك الشأن بالنسبة لثيمة المطرالتي تكررت بدورها (54 مرة) في مختلف فصول الرواية والتي لها جملة من الأبعاد والايحاءات الرمزية.

والتي تستوحيها من واقع الانسان وعلاقته بهذه الرموز التي تحمل مدلول استمرار الحياة والأمل، فهي تسخر الابعاد الايحائية لهذه الكلمات من أجل التعبير عن خوالج النفس والتعبير عن أفكارها ورؤاها. هذه الرموز الطبيعية التي تحمل في ثناياها دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها طبيعة الشخصيات، فالبحر عادة يرمز إلى الخوف والرهبة كما أنه رمز الحكايات والمعاناة ولكن حين نتدبر المعنى الرمزي للبحر في هذه الرواية نلاحظ أن البحر يوحي بالحياة والامل والصراع مع الشعور بالغربة ليبتعد عن الأبعاد المعروفة، فالبحر كما يقول يونغ: "يرمز البحر إلى اللاوعي الذي تحتشد فيه آمال الانسان وأحلامه ورغباته عارية عذراء لم تعرف قناعا" هنا لا يرمز أبدا للخوف أوالرهبة ولكنه يشحن شخصيات الرواية بمشاعر خاصة تستثير في النفس مشاعر الخوف والرهبة.

كما أن عناصر الطبيعة ترتفع باللفظة الدالة على العنصر الطبيعي كلفظة المطر من مدلولها المعروف الذي يعبر عن الجمال والمحبة، كما أنه المنقذ من الجفاف والمخلص من الجوع إلى مستوى الرمز لأن الكاتبة من خلال رؤية شعورية تشحن اللفظ بمدلولات شعورية خاصة. فالمطر يصبح رمزا للانبعاث الإنساني وأداة الإنسانية، لأنه أداة تفجير الطاقات الباطنة في الذات الإنسانية فالمطر هو الخيط الواصل فين السماء والأرض، الواصل بين الجفاف والخصب، بين الموت والحياة، بين الألم والأمل، بين الظلم والحرية.فإذا بالمطر عند الكاتبة فعل خلق وتغيير وبعث وحياة.

وفي الختام يمكن القول بأن الكاتبة ميرنا شويري، أحدثت لنا تماهيا وانصهارا مع معاناة شخصياتها عموما المضطهدة بشكل إنساني و لسبر أغوار غربة السجينات النفسية التي تبدو فيها الذات المغتربة داخل المجتمع وخارجه في حيرة تشعر بالضياع والخوف، ويظهر ذلك من خلال تكرار الـ"أنا" لتبحث الذات عن نفسها إلى حد تشعر فيه الروائية بالذوبان في شخصياتها،ليبزغ من وراء الاستفهام، الخوف من الخضوع للواقع بكل ما فيه من سلبيات، بلغة بينة وصريحة دون أن تلتحم بظل الظالم وبعيدًا عن الانتماءات الفكرية أو اعطاء حلول للتخلص من هذه المشاكل، بل لتُظهر المشكلة وتترك التحليل للقارئ اللبيب.

حسین المناصرة، "الجدار والإنسان: قراءات في ثقافات القصة القصيرة وجمالياتها" دار جامعة سعود للنشر، الرياض، 2015 ص10.

أدب السجون شعبان يوسف، مقال أدب السجون في الوطن العربي، رضوى عاشور ص11.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى