السبت ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
كم تمضي الأيام سريعة
بقلم أمل الجمل

ستون نور الشريف «مع سبق الإصرار

«التمثيل السينمائي يُختصر في جملة واحدة: الكلمات التي تقولها لا بد من أن تظهر على وجهك وفي أدائك قبل أن تنطق بها». الجملة السابقة هي أول نصيحة قدمها حسن الإمام إلى نور الشريف عندما بدأ معه مشواره السينمائي في فيلم «قصر الشوق». بعده شارك نور في سبعة أعمال فنية متتالية قبل أن يقوم بالدور الرئيس في فيلم «السراب» الذي اعترف النقاد من خلاله فقط، بموهبته كممثل. ومن هنا يعتبره بدايته الحقيقية، كما يعتبر دوره في فيلم «مع سبق الإصرار» خطوة مهمة في مشواره السينمائي، خطوة شجعت أبناء جيله على كسر الصورة التقليدية للنجم صاحب الشعر اللامع الذي يرتدي الملابس الجديدة الراقية حتى لو كان يلعب دور «زبال» أو «خادم». جسّد نور في ذلك الفيلم شخصية «مصيلحي» رجل التربية والتعليم الذي اكتشف خيانة زوجته، واكتشف أن ابنته ليست من صُلبه، إنها الدليل الوحيد على عجزه. فبدأ رحلة البحث عن والد الطفلة بين أصدقائه القدامى. في معظم مشاهد الفيلم يظهر «مصيلحي» في هيئة رثة، له ذقن غير حليق، ويُعاني من حالة عصبية واضحة في العينين. قدم «نور» الشخصية بجرأة ربما لم يسبقه إليها إلا يوسف شاهين في فيلم «باب الحديد».

يُعد الفنان نور الشريف من الممثلين القلائل في مصر الذين يُجيدون التمثيل اعتماداً على لغة العيون. يتضح ذلك في لقطة مُقربة جداً للوجه من فيلم «حدوتة مصرية»: انه يستمع باستغراق شديد إلى غناء كوكب الشرق «أم كلثوم». تُوحي اللقطة كما لو كان نور يجلس فعلاً أمام «ثومة» وهي تشدو بصوتها. كذلك في نهاية فيلم «شوارع من نار» هناك لقطة لوجهه من دون حوار لكن عينيه تقولان: القواد في بلادنا قواد بالصدفة والبطل أيضاً في بلادنا بطل بالصدفة.

تنوعت أعمال نور الشريف بين السينما والتلفزيون والمسرح، بين التمثيل والإنتاج والإخراج. في السينما قدم علامات في تاريخ السينما المصرية: «زوجتي والكلب»، «مع سبق الإصرار»، «الكرنك»، «دائرة الانتقام»، «قطة على نار»، «ضربة شمس»، «أهل القمة»، «حدوتة مصرية»، «زمن حاتم زهران»، «سواق الأتوبيس، «المصير»، وغيرها حتى بلغ رصيده السينمائي حوالى 177 فيلماً.

لم يصل نور الشريف إلى هذه المكانة من فراغ، ولكن بالدراسة المستمرة، بالعمل الدؤوب، وبالثقافة المتنوعة. اكتشف منذ بداياته الأولى أن الفنان لا يكفيه أن يكون ممثلاً جيداً، لأنه عندئذ يسهل اصطياده في أفلام تجارية، فيتم استهلاكه واستنفاد طاقاته، ثم يبحثون عن ممثل آخر جديد. قرر نور تفادي هذه الآلية فأصبح حريصاً على زيادة متابعاته اليومية للأحداث العالمية، على السفر إلى المهرجانات الدولية وعلى متابعة تجارب الآخرين، على الاستمرار في القراءة اليومية من السابعة إلى التاسعة صباحاً. يقرأ بكثافة وتنوع. يقرأ في الدين، في التاريخ، والأدب، والشعر، والمسرح، والفلسفة، وعلم النفس، والطب. في أحيان كثيرة يتحدث عن تفاصيل الجسم البشري كأنه طبيب تشريح.

لا يكتفي نور بالتلقي السلبي لما يقرأ، فهو قارئ إيجابي، يضع الخطوط دائماً أسفل الكلمات وحولها. الهوامش عنده زاخرة بالأفكار والتعليقات والملاحظات. عندما يبدأ الإعداد لعمل تاريخي أو اجتماعي يظل يبحث، يجمع المعلومات من كل كتاب، وكل مجلة، وكل جريدة. أثناء إعداده لمسلسل «رجل الأقدار عمرو بن العاص» شاهدت في مكتبه عشرات الكتب والمراجع التي تحدثت عن «عمرو بن العاص». ظل «نور» على مدار عام كامل يقرأ عن بطله حتى يستطيع أن يُقدم الشخصية «في أقرب صورة ممكنة في ظل المسموح به رقابياً ودينياً».

فخ الأداء النمطي

أدرك نور أن كتابة السيناريو في السينما المصرية مسؤولة، بدرجة كبيرة، عن وقوع كثير من الأجيال في فخ الأدوار النمطية، فالممثل مهما كان موهوباً لا بد من أن يصل معها إلى أداء نمطي تكراري. لذلك بدأ يبني لنفسه مخزوناً ثقافياً ومعرفياً وإنسانياً. لم يكتف بأن يختزن في عقله ملامح الشخصيات التي يُقابلها لكنه رسمها بقلمه في كراسات كثيرة أصبح يعود إليها بين الحين والآخر.

جميع أعماله بلا استثناء شارك فيها بأفكاره وباقتراحاته من دون أن يكتب اسمه على التتر مصحوباً بجملة «رؤية درامية» مثلما يحلو للبعض أن يفعل. في جميع أعماله يعشق المشاركة في جلسات العمل على السيناريو، على الحبكة والشخصيات، وقد يهتم برسم ملامح دور ممثل آخر مثلما فعل في فيلم «المصير».

في سيناريو فيلم «المصير» كان تقديم شخصية الخليفة «المنصور»، عبر أول ظهور للخليفة في الفيلم، في الجناح الخاص به. يأتي إليه «ابن رشد» قاضي القضاة فيلعبان الشطرنج، أثناء ذلك يتحدثان في أمور السياسة والحكم وأحوال أبناء الخليفة. لم يستحسن «نور»، أو «دُقدُق» كما يُلقبه «جو»، تقديم شخصية الخليفة بهذا الشكل. كان لديه تصور آخر. اقترح على «يوسف شاهين» أن يبدأ بالخليفة وهو عائد مزهواً بنصر حققه في أرض المعركة، أن يستقبله جنوده بالهتاف، فيما يندس المتآمرون وسط الجنود ليهتفوا معهم بحياة الخليفة «المنصور».

رفض «جو» الفكرة وقال: «أنت اتجننت. هذا معناه ملايين. أنا بيتي ممكن يتخرب يا «دُقدُق»...». فأجابه نور: «يمكن أن تضحي بعدد من المشاهد الأخرى. احذفها ونفذ هذا المشهد».

كُثر يعتقدون بأن «جُو» عنيد الى درجة يُصبح معها من المستحيل أن يتراجع عن رأيه. لكن «نور» له رأي مختلف. يرى أن عليك أن تُلقي إلى «جُو» بطرف الخيط الذي تقصده، أن تتركه يُفكر مع نفسه من دون الضغط عليه، وألاّ تجعل النقاش معه يصل إلى العِناد. لذلك عندما أصر «جو» على الرفض لم يُلح عليه نور. ظلا يتبادلان النظرات كل يوم من دون أن يتحدثا في الموضوع. في فجر أحد الأيام أيقظه «جو» بحماسته الطفولية المعهودة ليُخبره أنه سيُنفذ اقتراحه.

يحتاج التمثيل إلى عقلية هندسية من وجهة نظر «نور» لتصميم بناء الشخصية. فالمخرج في أحيان كثيرة قد لا يبدأ تصوير المشاهد بالترتيب الفعلي للأحداث. لذلك ينتصر «نور» للممثل الأكاديمي المحترف. ولا يقبل بفكرة بعض المخرجين، ومنهم «شاهين»، أن الممثل مجرد قطعة إكسسوار، إلا في أضيق الحدود. الممثل في رأيه كائن متكامل غير قابل للتجزئة، لا بد له من أن يقرأ « الديكوباج «، أن يفهم في المونتاج وفي الإخراج. لذلك أصبح «نور» حريصاً على الاهتمام بكل تفاصيل العمل الفني، من سيناريو وإخراج، من موسيقى وديكور وإكسسوار وملابس. فمثلاً يهتم في فيلم «كتيبة إعدام» بارتداء قميص أكتافه تسقط قليلاً أسفل أكتاف البطل لُتساهم في تجسيد إحساس الشخصية بالانكسار، وبالهزيمة. وفي فيلم «ناجي العلي» يرتدي قميصاً ضيقاً ليُوحي باختناق البطل وبحصاره المتواصل على كل المستويات.
الموسيقى والأداء
الفنان نور الشريف لا يترك شيئاً للصدفة. يستمع إلى الموسيقى ويتذوقها. يُؤكد ضرورة أن يعرف الممثل نوع الموسيقى التصويرية المناسبة للفيلم. هل هي موسيقى تعتمد على اللحن أم على الإيقاع لأن ذلك من وجهة نظره يُؤثر في أداء الممثل. لذلك في أعماله الفنية كثيراً ما يحدد بنفسه طبيعة الموسيقى التي يريدها ونوع الآلات المستخدمة في العزف. مع ذلك لا يُنكر أنه وقع في بعض الهنات إلا «أن طبيعة الحياة السير في خط متذبذب» فالخط المستقيم مرادف الموت.

تعود نور أن يُشاهد تجارب زملائه ويُقوّمها ليستفيد من أخطائهم، فمثلاً في فيلم «الهلفوت» قدم عادل إمام دوراً جميلاً من وجهة نظر نور الشخصية، مع ذلك يُشير إلى خطأ وقع فيه صُناع العمل تسبب في هبوط الإيقاع في شكل واضح. كانت شخصية البطل لا تستطيع نطق الحوار بسهولة، لا تستطيع النطق بالإيقاع الحقيقي، وكان عادل إمام مُضطر إلى ضبط الأداء. مما خلق الإحساس بأن اللقطات طويلة زيادة عن اللزوم. كان المفروض ألا يضع المؤلف حواراً كثيراً للبطل، أن يختصر الحوار الخاص به، أن يجعله قصيراً وتلغرافياً حتى يُعطي فرصة للممثل أن يُؤدي في شكل صحيح.
خاض نور تجربة شبيهة إلى حد ما في فيلم «صراع الأحفاد». لكنه حذف حواراً كثيراً من حوار الشخصية، وعمل خدعة أثناء التصوير، فكان لا يضبط الأداء التمثيلي ليسرق الإيقاع في المشاهد الانفعالية جداً والتي ربما لا يلاحظ فيها المُشاهد إذا كان الممثل يضبط الأداء أم لا. عند تصوير المشاهد التي بها حوار 3 أو 4 أسطر كان نور يبدأ الجملة بالإيقاع الذي عود المشاهدين عليه حيث طبيعة الشخصية في النطق. في منتصف هذه الجمل الحوارية الطويلة كان نور يكسر القاعدة التي يُمثل بها الدور، ويُكمل الحوار بسرعة أكثر قليلاً، لا لشيء سوى ضبط الإيقاع. فالفن أياً كان في المجالات كلها هو إيقاع في الأساس، فإذا لم يكن المبدع مُدركاً قيمة الإيقاع سيدمر كل شيء، وهذا الإدراك جزء من احتراف الممثل.

في 28 نيسان (أبريل) الماضي أتم نور الشريف عامه الستين. على مدار 38 عاماً من التمثيل والإنتاج والإخراج كانت حياة نور الفنية تسير وفق مسار دقيق. مع ذلك وقع في كثير من الأخطاء. نجح أحياناً في تحويل الأخطاء إلى نجاحات. لا يخجل من الاعتراف بأخطائه. عندما قدم «هارون الرشيد» على خشبة المسرح لم يقرأ عنه بالقدر الكافي. اكتشف بعد البحث والقراءة أنه ظلم هذه الشخصية فقرر إعادة تقديمها لكن على شاشة التلفزيون.

تُشكل شخصية «الشريف» خليطاً مميزاً من الفن والفكر والسياسة والإنسانية. لديه طموح بإقامة مسرح يحمل اسمه يقوم فيه بتدريب جيل جديد من الممثلين ينقل إليهم خبراته، بإخراج مجموعة من المشاريع السينمائية الجميلة ما زالت ترقد في درج مكتبه، من بينها: «قوم يا مصري» لعبدالرحمن محسن ، و «الطير المسافر» لرؤوف توفيق، «الإسكندراني» لأسامة انور عكاشة، «الشبكة» و «قصة حب عصرية، لشريف حتاتة، «الكوديا» لنبيل راغب. لكن انشغال نور شبه الدائم بتصوير أعماله التلفزيونية والبرامجية لا يسمح له بتحقيق كثير من طموحاته الأهم.
أحياناً أسأل ماذا كان يُمكن أن يكون مستوى نور في ظل صناعة النجم الموجودة في السينما العالمية، في ظل وجود مُنتج جريء، وسيناريو مُتقن الحبكة، ومخرج مُبدع، وإصرار الفنان على عدم تقديم تنازلات.

كان نور الشريف فناناً مغامراً يهوى الاكتشاف. قدم عدداً من أهم المخرجين المبدعين في تاريخ السينما المصرية مثل سمير سيف وعاطف الطيب، ومن الكتاب عبدالرحمن محسن في «زمن حاتم زهران». اكتشف عدداً من الوجوه الشابة في التمثيل وساندها. كان يتميز بالجرأة، وبالمخاطرات الفنية. لكن في السنوات الأخيرة شعرت بأن هذه الروح التي تميز بها لأعوام طويلة أخذت تجنح إلى الحسابات المادية الدقيقة، إلى الرغبة في تحقيق مزيد من المكاسب. لم يعد لعينيه قوة بريق المغامرة. والفن في الأساس مغامرة وتمرد على الذات قبل المجتمع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى