الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم معاذ محمد فاروق

شجرة برتقـال وارفة الظلال

ومضه وسط الحطام جذبت انتباهه، رفع رأسه وحركها يمينا ويسارا، كان محشورا وسط الركام، وقد تكومت فوق ظهره كمية من الحجارة والأخشاب المحترقه، حاول الزحف للخروج من مكانه، وكان الأمر عسيرا، أغلق عينيه، ثم فتحهما مستجمعا قوته وحاول مرة آخرى، وثانية، وبقوة، وبغيظ، وباستماتة، وبدأ الجسد يتحرر وعاد يكمل محاولاته، ويدفع بقدميه الحافيتين لينطلق إلى الأمام ويتشبث بالحياة، وتحرك ببطء شديد، وشيئا فشيئا تحرك للأمام.

مضت ساعات، وهطل المساء، ولم يكفْ عن المحاولة، يستريح قليلا ثم يواصل المضى تجاه الحريه.

عند انتصاف الليل كان قد خرج من مكانه، واستوى قاعدا على الأرض وكل خلية فى جسده تنزف ألما، ودما وحسرة
نظر حواليه، واستند على حزنه، وقام واقفا يترنح، يزيح من حوله رسل الموت، مقاوما لأجل الحياة، باحثا عن دنياه التى يخبو وجهها أمام عينيه، ثم صرخ

"أمى"

صرخ بلا صوت، وكأنما لسانه قد قطع حين سقطت القنبله على الدار، فأطاحت بالمستقبل والماضى، وانتفض الظلم فهدم الحلم فى الحياة، وصرخ مرة آخرى

"أمى"

وأدرك أنه يصرخ، بلا صوت، يصرخ داخله، تصرخ خلاياه، ولكن الكون لا يسمع، لا الأرض تسمع ولا السماء، وتبين له أن صوت الصمت من حوله أقوى من صوت لسانه الذى لم يعد بمقدوره النطق وعاد يحاول الصراخ.

"أمى"
"أمى"

وبدا كأنه يتعلم النطق"أ أ أ"، واجتهد فى المحاولة، لابد أن يصرخ، حقه أن يصرخ، ولابد أن يسمعه أحد،وصرخ، وصرخ حتى انطلق صوته فى الفضاء، وكما خرج جسده من بين الركام خرج صوته من بين ضلوعه، وشق الفضاء إلى السماء السابعه.
"أمى أين أنت.. أجيبينى"

وظل يصرخ مناديا، ملتفتا، باحثا بين قطع الحجارة والأخشاب وبقايا الهدم، تُقلب عيناه، وقد تحجرت بهما الدموع حتى لم يعد قادرا على الرؤية، فقرر أن يبكى.

بكى، ونزلت الدموع تسقى الأرض من تحته، وتنبت بها تحت قدميه الخضرة، فتعود الرؤية إلى عينيه، لكن الأشياء تصطبغ بالأسود فقط.

وانتفض فى داخله مارد، وأخذ يرمى الأشياء ؛ أكوام الحجارة، كتل الأخشاب، أسياخ الحديد، وتدمى يداه، وتنزف قدماه، ويدوس وجه الأرض الممتلئ ببثور بقايا الحرائق، وألسنة الفوضى الضاربة جذورها فى وجه الكون.
وفى بحثه أثار الغبار، وتأوهت الأشياء، ولم يبالْ، وهو يهز الدنيا بصرخاته، وضربات أطرافه، والدماء تنزف، والأرض تمتص دماءه.

"أمى... أين أنت؟"

وانزلق النهار من رحم الكون، وتثاءبت الشمس، وعادت الومضة تجذب انتباهه، فانحنى ينبش بأطراف أنامله، حتى استخرج الجسم المعدنى، وتناوله بين يديه، فإذا هو ملعقة أمه، قربها من عينيه فوجدها موشاة بآثار شفتيها، فواحة بمسك رائحتها، وعليها لا يزال لون الحليب الذى كان يسقيه لها.

 من أين أتيت بالحليب ياحمزة؟
 حلبت العنزة ياأمى.
 ذق بعضه.
 كله لك. اشربى فإن بجسدك ضعفا

وضع الملعقة فى جيبه، واستكمل نبشه بحثا عنها، رفع بابا خشبيا قد تفسخت ألواحه، فوجدها، تسارعت دقات قلبه وتجمد مكانه.

"أمى"

 أمى... هل سنموت؟
 كل المخلوقات سوف تموت
 سيقتلنا اليهود
 لا غالب إلا الله
 لنهرب ياأمى

ارتفعت يدها ونزلت على وجهه بلطمه قاسية، ونظر إلى عينيها فوجدهما تقدحان شررا مخيفا.

 إياك أن تقول هذا مرة آخرى... لو فعلت فسأقتلك وصمت قائما ثم سألها

 أمى.. هل سيموت اليهود أيضا؟

كانت دائما ما تذكره بهذه الحادثة وتضحك من طفولته، له جسد ضخم مثل والده الشهيد، ولكنه بعقل طفل صغير.
وتعلم الدرس، وكان يتذكر دائما ما قالته، ويتحسس أثر اللطمة على وجهه وقال لها ذات مرة أمى.. لقد رحل الشيخ حسون وزوجته وابنته فاطمة

 نحن سنبقى.
 ورحل العم إسماعيل بعد أن مات ابنه
 نحن سنبقى

ويصمت ثم يعلق.

 لم يبق غيرنا

ولا تجيبه، وتنتظر مايقول، فينظر إلى الأفق والخرائب الممتدة من حولهما.

 هل نبقى أنا أنت فقط؟ نعم يا أمى سنبقى.

عندئذ تضمه الى صدرها، وتهدهده، فيبتسم وتضحك، وتداعبهما النمسات القادمة من الشمال حيث أشجار البرتقال والزيتون

"أمى – هيا استيقظى"

ومسح دموعه بكم قميصه الممزق، وقام يبحث وسط الحطام عن صندوق ملابس أمه، اهتدى إلى بقايا حجرتها، وتحت حائط المطبخ وجد الصندوق الذى تبعثرت محتوياته، أخرج منه ملاءة نظيفة، وخرج بها من الحطام الى شسوع المكان، فرشها على الأرض، وعاد إلى أشلاء الدار، حمل رأس أمه، وجزء من صدرها، وساقها اليسرى، ووضعهم فوق الملاءة، ثم عاد يبحث عن بقية الجسد.

أزاح أرتال من الحجارة، والخشب المحترق، وأكوام التراب، وبدقه بالغة كان يبحث، وجد بعض الأنامل فوضعها فى جيبه، والأذن اليمنى والسوار العاج، والحذاء الأسود.

كان البحث شاقا عسيرا، وكان هو قد سيق الى الجنون، فلم يدر مايفعل غير أنه ظل يبحث مستندا على أحزانه.
عندما انتصف النهار كان قد وجد معظم أجزاء الجسد ماعدا الساق اليمنى.

جلس ليستريح بعض الوقت، وقد تلطخت يديه بالدماء

 أمى – أمى
 خيرا... مابك؟
 رأيت جثة مسعود الفران والكلاب تنهشها
 يالطيف ياالله
 عندما نموت ستأكلنا الكلاب
 الله المنجى، كم تمنيت أن أدفن فى البقيع عندما أموت
 البقيع؟
 نعم فى بلاد سيدنا النبى وحلمت بالذهاب وحج بيت الله ثم أموت فيدفوننى فى البقيع
وتجذبه اليها من ياقته، وتنظر فى عينيه.
 هل تعدنى بشئ؟
 أعدك بما تريدين
 عندما أموت أحملنى واذهب بى إلى البقيع واطلب منهم أن يدفوننى حتى أكون إلى جوار الصحابة، وبالقرب من سيدنا النبى.
 أعدك.. سأفعل.
 ثم تعود من هناك إلى هنا، وتتزوج وتعمر الدار، وتنجب الكثير من الأطفال.

مد ساقية الحافيتين، وقد تورمتا وأصابتهما الجروح، نظر إلى جثة أمه مفكراً

"يجب أن أجد الساق اليمنى"

قام ليكمل عمله، واستغرق الأمر ساعات طويلة حتى وجدها، فشعر بارتياح شديد

"الأن اكتملت ياأمى... يا الله ما أجملك؟

كان الليل قد تمطى فى الكون، ولم يعد هو يرى شيئاً، فاشعل نارا ورقد الى جوار الجثه الممزقة، فأخذ يُحصى أجزائها، وفجأة جاءه صوت نباح الكلاب من بعيد، فقام واقفا، وأسرع يبحث عن عصا، وعاد بلوح خشبى، وكوم إلى جانبه كومة من الأحجار، وقبع فى الانتظار.

أخذه النعاس، وعندما أشرقت الشمس استيقظ، ونظر إلى جثة أمه، فوجد ساقها اليمنى قد اختفت، أحس بالفزع ورأى على الأرض آثار أقدام الكلاب فتتبعها بلهفه وفى يده اللوح الخشبى.

لم تكن الكلاب قد ابتعدت، ولحسن حظه كانت تتشاجر حول الساق، يحاول كل منها الاستئثار بها

أسرع يهوى باللوح الخشبى عليها، وهى تنبح وتعوى وتزمجر من حوله حتى حاصرته،

كانت أنفاسه تتقطع، والدماء تغلى فى رأسه، فصرخ فيها

"جثة أمى ياكلاب"

وجن جنونه فراح يضرب بلا هوداه حتى فرقهم، وقد حفلوا بإصابات بالغه

حمل السابق وعاد بها إلى الجثة ووضعها مكانها، ووقف ينظر إليها بانبهار وفرح ثم تجهم، أدرك أن هناك شيئا خاطئا
"هناك بعض القطع فى غير موضعها"

ومن جديد بدأ بترتيب الأشلاء، واستغرق الأمر بعض الوقت حتى انتهى إلى أفضل ترتيب ممكن.

"هذا هو ما أريد.. أنت الأن فى أتم صورة ياأمى"

ونادته

 حمزه... أنت ياولد
 نعم ياأمى
 اسمع... لا تذهب بى إلى البقيع حين أموت.
 لماذا؟
 لا أريد أن أترك هذه الأرض.. حين أموت احفر لى لحدا بجوار شجرة برتقال.. أنا أحب رائحة البرتقال.. أنت تعرف ذلك؟
 نعم

وأطال النظر إليها، مثل فنان يقف أمام لوحته مفكرا... متأملا

"أمى... يجب أن تلتصق أجزاء جسدك"

وأسرع إلى الصندوق، أخرج من يده الإبرة والخيط، وبدا مهمة شاقه فى خياطة الجسد الممزق، بصبر وأناة، وأثناء العمل كان يخيط بعض الأجزاء ثم يقطع الخيط ليعيد ترتيبها، يمسحها من الدماء بقميصه، يخيطها بهدوء وباتقان.

واكتمل العمل، وصار أمامه جسد أمه كاملاً تاماً، شعر بفخر وفرح

"أمى.. يجب أن ترتدى ثوبا جميلا... يليق بك"

أسرع إلى الصندوق وأخرج ثوب زفافها الأبيض، كان اللون قد حال الى لون غير معلوم، وقد إهترأ، بينما تلألأت على الصدر بضع من حبات لؤلؤ صناعية فقيرة

وألبسها الثوب بحرص شديد، فالجسد رغم حياكته إلا أنه بدا هشا، غسل الوجه، ومسحه، وجدل الشعر فى جديلتين سوداوين لا يعد الشيب فيهما نادرة.

"وداعا ياأمى"

لف الجسد بالملاءه، وربطها عند القدمين، وعند الرأس، حملها وذهب ليدفنها.

"أين أدفنك ياأمى.. نعم عند شجرة البرتقال"

وقف مفكرا، إلى أين يذهب؟ كل الأرض خراب، أطلال وحطام وركام.

سار تاركا لقدميه الاختيار، كان الطريق مفروشا بحجاره البنايات المهدومه، وكان يدوسها صاعدا وهابطاً، يتجه يساراً ثم إلى اليمين.

توجهه أكداس الحجاره، يتحاشا الضخم منها، يدور حولها ثم يعبرها الى غيرها، لا يلتفت، ولا يتوقف، مستمرا الى حيث لا يدرى.

"ليتنى أستطيع الذهاب بك الى البقيع"

كان يحملها بين يديه، وحبات عرقه تسقط من جبهته إلى جسدها فتنبت على الملاءة زهورا ووردا ورياحين، ويتألق العطر منها الى الكون الذى اغتسل من جنابته، وأزاح الخرائب وأنفاس الدمار، وصار حمزه لا يرى سوى أرضا منبسطة تكسوها الحشائش وأشجار البرتقال.

"أى أشجار البرتقال ياأمى تفضلين.. هذه أم تلك"

لحظتها عادت الطائرات تقذف الموت والدمار، لم يرها حمزه، لم يسمعها، كان مشغولا باختيار شجرة برتقال وارفة الظلال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى