الثلاثاء ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم ثامر إبراهيم المصاروة

شعرية النص النثري كتابات «عايد الحريزات» نموذجًا

تحمل مفردات اللغة طاقات إيحائية ذات دلالات متعددة، بالغة التأثير في نفس المتلقي، حيث تتحول المفردة في النص النثري إلى مفردة شعرية، لها من الدلالات كأنها في نصٍ شعري، فتنقل للمتلقي تجربة الكاتب النثرية في سياقات شعرية.

 ولذلك لم يعد الشعر يحتفظ بفروق كبيرة تجعله غريبًا عن النثر، إذ إن العصر الحديث شهد تداخلاً شديدًا بين الأجناس الأدبية، وأصبحت نظرية الشعر تتعدى ذلك الفصل القديم بين الأجناس الأدبية، أي أن النص النثري يحمل بلغته ومفردته المحمل نفسه الذي يحمله النص الشعري وما فيه من دلالات.

 إذن يمكن القول إن مصطلح الشعرية في النقد العربي الحديث ليس مقصورًا على الشعر، بل أصبح يُطلق على النثر فكلاهما له شعرية، وكلاهما له خصوصيته.

 وتكمن شعرية النص سواء أكان شعرًا أم نثرًا في نظمه، أي في مفردات النص المعطّى، حيث يوظف الكاتب مفرداته في نصهِ بطريقة التكثيف، بمعنى القليل من الألفاظ والكثير من المعاني، وهذا ما سوف ندرسه في النص النثري عند الكاتب عايد الحريزات.

 فاللغة في النص النثري عند عايد الحريزات تأخذ دلالات متعددة، فيحملّها الكاتب انفعاله وإحساسه واندهاشه وغيرها، وهذا ما يساهم في رأيي بروز الشعرية في المفردة عنده، إذ تكون في نصهِ ذات دلالة مع من سبقها ومع من لحقها من المفردات، فتؤدي الوظيفة التي أرادها الكاتب؛ للتعبير عما يجول في خلجات النفس.

  ونلمح ذلك في كتابات الحريزات من خلال العنوان، أي سيميائية العنوان، إذ يشكل العنوان العتبة الرئيسية للولوج إلى متن النص، وكما يساهم في إصدارات توقع المتلقي وعدم توقعه، فالعنوان عند الكاتب جاء من نوعٍ آخر، فهو بمثابة المفتاح لفَهم معطيات النص.

 ومن عناوين الكاتب، نصه المعنون بـ "لقاء مع دموع"، حيث يشكل العنوان خطوة أولى وأساسية لفهم ما جاء بالنص، فالعنوان السابق يشحذ المتلقي بدلالات متعددة، حيث يبدأ المتلقي برسم صورة عامة لذلك النص، فالعنوان يعبِّر عن مشاعر وانفعال واندهاش الكاتب من شيء ما، وكذلك الأسئلة التي تدور في ذهن المتلقي عن ذلك العنوان كيف يتم اللقاء؟ ولماذا؟ وماذا قصد بالدموع؟.

 إذن فالعنوان هو من شحذ المتلقي بتلك الصور وتلك الأسئلة التي تجعله مشاركًا فعّالاً للنص، فالكاتب عمد إلى مثل ذلك العنوان؛ لكي يصبح المتلقي عنصرًا إيجابيًا لا سلبيًا لقراءة النص، وخاصّة أن المتلقي عنصرًا أساسيًا في عملية الإبداع التي تدور بينه وبين النص وكاتبه.

 كما يحمل العنوان بُعدًا مكانيًا واضحًا، فاللقاء يحتاج إل مكان لكي يتم الاجتماع، ولكنّ هذا اللقاء كان مجازيًا عند الكاتب، فهو لقاء يحمل معاني كثيرة من مثل معاني الفراق والدموع واللوعة والغربة والخداع، كما يعكس ذلك المكان المجازي بُعدًا زمانيًا، يطرح على المتلقي سؤال: متى يتم ذلك اللقاء؟ أو متى تم اللقاء؟.

 ومن هنا، نجد أن العنوان عتبة رئيسية لفهم معطيات النص، فالعنوان السابق شحذ المتلقي عمّا يدور في ذهن المبدع، وجعله مشاركًا له في الأحاسيس والمشاعر، وجعله يخمّن قبل قراءة النص أن مفرداته تدور حول اللوعة والمكابدة والعناء.

 ويمكن القول إن عايد الحريزات جعل عناوينه أكثر فاعلية في إنتاج الدلالة، فنجد أن العنوان لديه يتخذ طابعًا خاصًا، يمكن أن نسميّه طابع التحفيز أو الاستثمار، ذلك الطابع الذي يأخذ بيد المتلقي لكي يستثمر في ذلك النص، فتأتي القراءة الأولى والثانية للنص من متلقين مختلفين بناءً على ذلك العنوان.

 ومن عناوينه عنوان نص بـ" عندما نطيق الصمت" فالعنوان عند الحريزات له سيميائية خاصة، فأصبح يكشف عن مقصده، ومراميهِ، فهو مفتاح مكثّف أراده المبدع؛ ليخبِّر به المتلقي عن مكنونهِ.

 إن ما يلفت الانتباه في ذلك العنوان تلك المفارقة الواضحة، التي بدت جليًا، فالكاتب جمع بين كلمتي (النطق)، التي تحمل دلالات متعددة من مثل الحركة والاضطراب والقلق والفوضى، وكلمة (الصمت)، والتي من دلالاتها السكون والسكينة والهدوء وغيرها، فجاء العنوان "عندما نطق الصمت" بهذه المفارقة الجميلة باعتقادي؛ ليعبر بها الكاتب عن رؤية أراد أن ينقلها للمتلقي بتلك المفارقة من خلال العنوان؛ لأنه يراه المفتاح الذي يسهم في تخصيب النص.

 ويمكن القول إن الكاتب استطاع أن يجمع في عنوانه السابق بين ضدين اثنين، أولهما يدل على الحركة والاضطراب، والرغبة في التعبير، وثانيهما يدل على السكون والصمت والامتناع عن التعبير، وهذا يدل في رأيي على التنازع الذي يكنّه قلب الكاتب فجاء بذلك العنوان ليعبر يجول في ذهنه.

 وما يلفتنا كذلك إلى العنوان ذاته، أن الكاتب جعل الصمت ينطق ويتكلم ويعبر، أي أن هناك عملية استنطاق للصمت، وباعتقادي ما جاء به إلا رغبةً منه في التعبير عما في نفسه رغم الامتناع عن ذلك، ولذلك جاء بمثل هذا العنوان لكي يحمل المتلقي ما تحمله نفسه.

 ولعلّ تخصيب العنوان كما ظهر عند الحريزات، هبة للمتلقي لكي يخترق دلالات النص الشعرية ويفك الشيفرة، فمن خلاله يطوف المتلقي في ثنايا النص، ويحمل من الدلالات والبنى سواء أكانت الداخلية أم الخارجية، مما يساهم لإنتاج نص إبداعي آخر.
 وفي رأيي أن العنوان الأخير للكاتب "عندما نطق الصمت" سمة خاصة وهي استنطاق النص وتعريته من الداخل، وكل ذلك من أجل البوح بمكنوناته الداخلية، وتفجير ما يجول في ذهنهِ ونفسيته، ويضعه أمام المتلقي لكي يشاركه انفعاله وإحساسه ومشاعره، ومن هنا جاء دور المتلقي الإيجابي الذي يعمل على إنتاج نص فوق نص، فيصبح مبدعًا آخر للنص.

 وقد يعبِّر العنوان عن رؤى مكنونة في نفس المبدع، فتكون هي بمثابة الاستشراف للمستقبل والتهيب له، ونجد ذلك في عنوان نصه "موعد مع صوت ولقاء بلا مكان ".
 فقد يتبادر إلى ذهن المتلقي من خلال العنوان السابق، أن ذلك النص النثري يحمل معنى اليأس والرضوخ والحلم، حيث توجد عن الكاتب رغبةً في امتلاك ذلك الحلم، ألا وهو ذلك الموعد مع ذلك الصوت وتلك الصورة، ولكّن هيهات لاجتماع كلٍِّ منهما.

 وكذلك قد يتبادر إلى ذهنه الرغبة والحلم في شيء من الخيال، فذلك الصوت وتلك الصورة التي أرادها الكاتب غائبةً عن الواقع، إلا أنها حاضرةً في ذهنهِ، فهي مرسومة في اللاواقع.

 ونلاحظ أن العنوانات المختارة السابقة من كتابات عايد الحريزات، تتخذ طابع الاسمية، التي تتنوع بين المفردِ والمضاف والصفةِ والموصوفِ، ومن المعروف أن الاسم يتخذ صفة السكون والثبات بعيدًا عن الحركة والاضطراب والتغيير، ولكّن باعتقادي أن الكاتب وقع ضحية العنوان، فجاء بالاسم الذي يأخذ صفة السكون والثبات، وأراد الفعل الذي يأخذ صفة الحركة والاضطراب؛ ولهذا جاءت المفارقة واضحةً في عنواناتهِ من حيث الجمع بين ضدين واضحين بين السكون والحركة.

 ودليلٌ على ما سبق ذكره أن الكاتب وقع ضحية العنوان، أنّه أراد أن يعبِّر ويفجر عمّا في مكنونهِ، ولذلك استنطق الصمت، وجعل صوت ولقاء بلا مكان، وجعل الدموع تُقابل وتحاور وكأنها شخصٌ آخر.

 والذي يؤكد لنا أن النص النثري له شعرية وخصوصية كما للنص الشعري، السؤال الذي يطرحه المتلقي عند قراءة ذلك النص، ما هي الفنية الجمالية والشعورية على ذاته من ذلك النص النثري؟.

 وما دام أن النص النثري له قيمة شعورية وجمالية، إذن يمكن القول إنه خرج عن إطار النثرية واكتسب خصوصية الشعر؛ لما له من قيم، وهذا ما نجده عند عايد الحريزات، حيث اكتسبت المفردة شعرية ذات قيمة فنيّة وجمالية.

 وفي رأيي أن ذلك هو الفارق الوحيد بين النص النثري والنص الشعري، القيمة المحققة منه سواء أكانت جمالية أم شعورية، وخصوصية اللفظة وما لها من دلالات متعددة في سياقات مختلفة.

 وتظهر جماليات المفردة في سياقاتها، أن الكاتب حملّها أبعادًا مختلفة، صفات جديدة، متألقة، تجعلها أكثر بهاءً وكأنها في نصٍ شعري موزون، ومن ذلك قوله: "منتهى همى تلك اللحظات.... رغم ما فيها من أوجاع تجدني أبحث عنها... فهي النهاية الموجعة لصورةٍ أمضيتُ عمري في رسمها... فإن استضافت النفسُ لذة فحتمًا هي الضيفة والقلب من استضاف، وإذا تمنيتُ وكان للأمنيات أمل فهي الأمنية وهي ذاك الأمل... جميلة كالزهر... بريئة كالطيف... طاهرة كالندى "(1) .

 فنلحظ من النص السابق أنه يصف ما يسببه وما سببه له ذلك الحب، فيحدثنا عن تلك الفتاة التي خالطت الأحلام، وفاقت التصورات، فلا مثيل لها، ورغم أن ذلك الحب سبب له الوجع والهم، لكّنه جاء من نوعٍ آخر ومغاير، فهو ليس كوجعنا وليس كهمنا، بل هو هم استضافه الكاتب، وتدفقه في نفسه وقلبه، هذه الشعرية جاءت خالصة للرؤية التي أراداها.

 كما نلحظ أن الكاتب جاء بمفردات من عالم الطبيعة (الزهر، الطيف، الندى) وكلّ ذلك تتدفق معها وجوه وصور الحب وصفات تلك المحبوبة، التي أراد وصفها الكاتب؛ لكي تأخذ ملامح وأبعاد طبيعية متحركة في نص نثري يتغلغل بالشعرية الخاصة لكل مفردة.

 وباعتقادي أن الحريزات نجح بتوظيف الطبيعة في نصوصه النثرية؛ لكي تضفي عليها الصفات الحيوية، وتمنح النص الحركة والحيوية والحياة الدائمة بدلاً من الثبات والجمود، ولهذا كلّه جاءت المحبوبة التي وصفها في قالبٍ آخر، جاءت روحها تستقي من خلود الطبيعة، وتجددها المستمر، فجاءت معانيه تفضي عصرًا، وجاءت نصوصه في قوالب ذات قيمة شعورية برّاقة، حيث يقول: " قادتها قدماها نحو النافذة في ليلٍ ربيعي هادئ، حيث حمل النسيم من الحقول الغارقة في الظلام روائح من زهر البرتقال، وطالعت في الكون وجهًا غريبًا كل شيء فيه ذابلاً، وتلاعب النسيم بذوائب شجر البرتقال فباتت ترتدي ثوبًا رماديًا من جنس الثوب الذي ترتديه"(2) .

 ولعلّ ملامح وصور الطبيعة بارزة بشكل واضح في نصهِ، وكل ذلك أكسب محبوبته الحياة الدائمة، ولوّنها بلون الطبيعة الخضراء، كما ساهم في إكساب النص رونقًا خاصًا، وطابعًا خرج به عن النثرية التقريرية.

 ونخلص إلى القول إن النص النثري عند عايد الحريزات جاء بطابعٍ خاص، قريبًا إلى الشعرية بخصوصيتها، فجاءت اللفظة في سياق محدد وخاص، حيث أخذت دلالات متعددة ضمن سياقاتها المختلفة، ولهذا جاء نصه مكثف بالدلالات والإيحاءات المعبّرة، التي من دورها نقل النص من التقريرية المباشرة إلى الإيحاء والشعور.

 وتجدر الإشارة إلى أن هناك نماذج أخرى للشعرية وخصوصية اللفظة المفردة بتجلياتها المختلفة وردت في كتابات الحريزات، وما سلف هو دراسة لنماذج مختارة سعينا من خلالها إلى الكشف عن ظاهرة بارزة تمثلت في كتاباته من حيث شعرية النص النثري وخصوصية اللفظة فيه، وكشفت الدراسة أيضًا عن مشاعر الكاتب وعواطفه الصادقة اتجاه الطبيعة الموظفة لخدمة التعبير عن تلك المحبوبة التي أراد لها الديمومة في الحياة والحركة المستمرة. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى