

شُمُوخُ خيمةٍ ونَزيفُ حَجَر..!
وكانت القذائف والصواريخ
وصوت الرصاص..!
ولكن الله كان ولا يزال..! يحمي الأجنة في البطون، والعاشقين في السجون".
ألقتْ طائراتُ العدُوِّ أطنانَ القنابلِ المميتةِ على بُيوتِ الغزّيّين، وفَصلُوا آلاف الأرواح ِعن أجسادها. ظنُّوا أن تحطيمَ الجسد، وتحويلَه إلى أشلاء، نهايةُ الإنسان. نَسُوا أن الأرواحَ جنودٌ مجندة لا تموت؛ إذ سرعان ما تتجلى الأرواح المُناضلة وتُبعث ثانيةً في أجساد أجيال أخرى..!
حطّمَ العدو آلاف البيوت، وخرب آلاف الطرق، وسوّى مئات المستشفيات بالأرض على رؤوس المرضى والمعطوبين والأطباء، فجعلها مقبرة لهم جميعا؛ مرضى ومنقذين..!
رباه ! من أين لهم بهذه الوحشية..؟!
كان إعلام العدو يسرد أمرين:
انتصاراته الوهمية، وما فعله به المناضلون في العاشر من شهر أكتوبر، يوم أرجع بعض كرامته، وقال متحديا الغرب، وكل الذين يساندون الكيان: "نحن هنا. مهما قتلتمونا، وشتتتم أجسادنا، فأرواحنا تُبعث في كل جيل، ودماؤنا التي تنزفُ، تسقي هذه الأرض الطاهرة؛ كي يزهر السلام، ويكون رسالة إلى العالم".
وكلما أعلن العدو عن الانتصار في منطقة، وتسوية كل بناية عالية بالأرض، انتصبت خيام اللاجئين وانتشرتْ، مُشَكِّلة أحياء على شكل قبائل. ألم تكن الخيمة بيت العربي المفضّل؟
ألم تكن أوتاد الخيمة رمزا للثبات والاستقرار والوجود..؟!
بلى، بلى وربي، بلى..
كانت الخيمة منزلا منتصبا وسط الركام، وكانت الرياح تعصف، والسماء تمطر في شراهةٍ مُعلنة عن غسلِ دماءِ الأطفال والنساء. وكانت القذائفُ والصواريخُ وصوتُ الرصاص..!
ولكن الله كان ولا يزال..!
وكانت الشاحنات تعبرُ المعابر بعجلاتها المطاطية متحدية دوِيّ الصواريخ، واهتزاز الأرض، ومَكْرَ المُسَيّرات. ولا زال حجر البلد ينزفُ حتى تصومَ الأرض عن شرب الدماء، وحتى تنمو شقائق النعمان في كل الشوارع، حتى ينمو غصن زيتون في قلوب الرجال والجُبناء!.
وكان الله في كل مكان، ولا يزال..
أعلن عن قرار فتح المعابر لتمُرّ الشاحنات المحملة بالطعام والشراب والدواء والخيام، فبعد ستة أشهر من القصفِ والهدم، والخراب، والدموع، والاعتقال، جاء الفرج، وكان على العدو أن يرضخَ لشروط الهُدنة العربية، كي يتسلم دفعة الأسرى الأولى. وكي تدخل الشاحنات..
يا الله..! الثكالى كثر، واليتامى كثر، والرجال والنساء في الأسر..
العصافير تاهت عن أعشاشها، وحمامة السلام طارت ولم تعد. غصن الزيتون الأخضر صار يابسا..! فهل يسكت الفلسطيني عن حقه المغتصب؟! وهل يسكت الله الذي حرّم الظلم، وبعث في الأميين رسولا؟!
لن يسكت الله، وسيظهر الحق ثم ينتصر على الباطل ويزهقه. "إن الباطل كان زَهُوقا".
.. وتسلم مصطفى خيمته من الشاحنة بين الجموع، وثبت أوتادها في خان يونس بين الخيام، وكان الركام، والغبار، والخوف في قلوب الرجال على نسائهم. وكانت قلوب النساء ملأى بالإيمان والانتصار. فالله كان وسيبقى في كل مكان.
ابتسم أطفال مصطفى.. فرحوا.. وهتفوا.. وتقافزوا. قال ابنه يونس:
– وأخيرا صار لنا بيت ككل الجيران.
– رد أخوه فؤاد: بل خيمة ككل الخيام يا أخي.
وابتسمت فدوى، فظهرت سنها المخلوعة من موضعها، ثم أغلقت فمها بيدها اليسرى وقالت في استحياء: "كم هي جميلة يا أبي.. أرجوك أن تُعلق عليها البالون الأحمر والأبيض والأزرق".
عقب الأب: ولمَ أفعل يا فدوى؟ نحن في حرب ولسنا في حفلة..!
قالت الأم: بل في حفلة يا زوجي. حفلة يراق فيها دم أصحاب الحق والأرض الأبرياء، ويشاهد العالم هذا الدمار وهذا الخراب! فمن يتحرك كي يوقف زحف العدو، ويوقد شرارة تبعث السلام في البلدان، وتثبت القلوب على التآخي وقول الحق..؟
في تلك الأثناء، كانت طائرات العدو تلقي بقنابلها الثقيلة على بعض البنايات القريبة من المخيم، وكانت الأرض تهتز تحت أقدام الجميع. جرت فدوى نحو أبيها، وارتمت في حضنه، بينما حمل الطفلان مسدساتهم البلاستيكية ووَجّهَها إلى السماء يُصوّبان في حركات سريعة على الطائرات. وكانت الأم مُنهمكة في تقشير خضروات يابسة غير آبهة لأصوات الطائرات.
ودَبَّ الرُّعبُ في قلوب الخيام، لكن العدو كلما رأى خيمة تنتصب في الأرض، وبين الخراب، أو على الركام، تساءل: ألم يتعبوا بعد؟ ألم يموتوا بعد؟ ألن يستسلموا؟!
كانت الخيام تزرع الفزع في قلوبهم؛ إذ كيف ينام في العراء جائع، وضعيف، والرصاص والقنابل والصواريخ من تحته ومن فوقه وعن أيمانه وشمائله؟! كيف ينام؟!
ومد مصطفى كسرة خبزه اليابس لجاره أبي عَلِي. فصراخ ابنه محمود من الجوع مزّق قلُوب المخيم. الجوع غُول.. والجوع شَبح.. والجوع مُصيبة..
أتتصورون هذا..؟!
في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر التقنية، والعولمة، وإذابة الحواجز بين الحدود، وعصر الرفاهية، يجوع طفل في خيمة..!
وتبكي أم لأن ثديها جفّ من الحليب، كما تجف عيون المقهورين من الدموع؟!
ولكن الله في كل مكان يحرسُ قلب طفلة يرتعشُ خوفا من صوت الرصاص، وهدير الطائرات المجنونة، وهذه الصواريخ الفتاكة.
لم يكن أبو علي رجلا عاديا، بل كان حجرا في صورة رجل. دفع بكل أبنائه إلى الميدان، إلا محمودا الصغير، وقال لهم: "لمثل هذا اليوم العصيب خلقتم، ولمثل وطن طاهر كفلسطين وجدتم. آن لكم أن تؤدوا وظيفتكم وتهزموا الخوف والجبن في قلوبكم، وتطرقوا أبواب النصر".
وخرج أبناء أبو علي. خرج الأبطال إلى ساحة الوغى مُحمّلين بالحجارة والعصي والإيمان بقضية الوطن.
– "ومن هذا الذي لا يؤمن بقضية الوطن إلا الخونة وناهبوا المال العام"، قال صوت في بواطن أبي علي.
اجتمعوا في البداية، ولم يتفرقوا. فأبو علي أمرهم ألا يخرجوا إلى العدو متفرقين؛ لأن في اتحاد الإخوة قوة لا تقاوم. وعملوا بفكرة الوالد، لكن رصاص العدو أبى إلا تشتيتهم، وتشَتّتَ الثلاثة ولم يعرفوا ما هم فاعلون.
وواصلت الرصاصات الطائشات تطايرها في كل مكان، واستمر الحجر هو الآخر يلقى على الجند من كل مكان..!
وكان الله، والحق في كل مكان.. لكن متى صمد حجر في وجه رصاصة..؟!
ويقول العربي: "ليت الفتى حجر" !. ليت "اللفظ حجر"!
كانوا ثلاثة، لكن الرصاصات أخذت منهم واحدا. فقد انطلقت تلك الرصاصة الطائشة بجنون لتستقر في صدر الشاب حسن. ونزف الشاب وتلطخ الحجر في يده فبدا المشهد عجيبا ! فبدا كما لو أن الحجر نزف في اليد. ومن لحظتها تشتت الأخوان عمر ومراد.
استمر جنون المدافع، والرشاشات في إمطار الفلسطينيين بالرصاص. وحاول عمر ومراد العودة، بعدما هدأت المدافع، إلى المكان الذي سقط فيه حسن لانتشال جثته. أفلحا في العودة واللقاء هناك، لكنهما فشلا في انتشال الجثة؛ لأن العدو ذهب بها إلى أقرب قاعدة عسكرية. ومن لحظتها، انتقل هدف عمر ومراد من الدفاع عن الوطن المغتصب إلى استرجاع جثمان حسن.
أقسم الأخوان ألا يعودا إلى ديارهما إلا وحسن معهما، أو يستشهدا ويلحقا بأخيهما. وانطلقت الرحلة المجنونة. اتجها، في البداية، نحو بقايا البنايات الكائنة قرب مستشفى الشهيد كمال عدوان الحكومي في بيت لاهيا. لم يدخلا إلى المستشفى، لكنهما على علم بما يواجهه المرضى والمصابون هناك. بعيدا عن أنظار العالم، كانت الإبادة الجماعية متواصلة، وكان الجوع غولا ينهش البطون، وانتظار الموتِ أو دواءٍ أو مُسَكِّن أمرا حتميا. كانت العرباتُ التي تجرها الحميرُ العجفاءُ وسائل لنقل المرضى والمصابين وأشلاء الشهداء.
المصابون يصرخون طوال الوقت من شدة الألم؛ إذ لا وجود لمسكنات أو محاليل، أو عقاقير فعالة. الطعام شبه منعدم، والأطقم الطبية شبه منعدمة. نداءات الاستغاثة موجهة للعالم دون مجيب.. لا يوجد مجيب..! فأين من يدعي الإنسانية ليرفع الظلم والحصار المُطبق على غزة؟
غير بعيد عن المستشفى، كان عمر ومراد يتسللان خلف كتيبةٍ من جنود العدو. كانا يريان المشهد واضحا. أحدهم ينظفُ أسنانه بالفرشاة والمعجون، وآخر ينظف سلاحه ويلقمه الرصاص، وآخر يتحدث في جهاز لا سلكي. وكان ثمة مجموعة تتحدث وتستعرض ما فعلت بالأطفال والنساء، ثم يقهقهون كالمجانين. فجأة، توقف كل شيء، وتصاعد دخان كثيف، وسُمعت أصوات عالية تردد: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.
استوعب الأخوان أن الجنود تعرضوا لهجوم من قبل عناصر المقاومة؛ إذ فجروا بهم المكان، وسقط الجنود موتى وجرحى، ثم علا صراخ من نجا وبكاؤهم. وقلّب الأخوان عيُونهم في المكان، لكنهما لم يريَا أيّ فرد من أفراد المقاومة، غير أنهما على يقين أنهما كانا مكشُوفيْن لهما. ولو أرادوا الإجهاز عليهما لفعلوا. لكن، لمَ لا يظهر أحدهم ليتحدث إليهما، أو يدعوهما إلى الانضمام إليهم؟!
واصل الأخوان طريقهما للبحث عن أخيهما حسن. لكن، أين سيبحثان؟ جبال الركام تملأ المكان، والطرق خربها العدو بالجرافات والجرارات. ومَرّا بالقرب من بنايات سقطت للتو جراء غارة عنيفة بالطائرات اهتزت لها الأرض من تحت الأقدام، وسَمعا أصوات الاستغاثة من تحت الركام. حاولا التدخل لإنقاذ ما استطاعا، لكن طائرتين عادتا مرة ثانية، وجددتا القصف. ولولا ألطاف الله لكانت تلك نهايتهما؛ فقد فرّا بسرعة إلى مكان قريب. وحين غادرت الطائرتان، عاد الأخوان إلى المكان، لكن الأصوات لم تعد تُسمع.
وكان الخراب، وكان الركام، وكان الدمار، ولكن الله كان.. وسيبقى.
علم عمر ومراد أن أولئك السكان كانت بيوتهم مأوى لهم، فتحولت إلى قبورهم. فكل بيت في غزة مسكن وقبر..!
وتمشى الأخوان لأسابيع تحت القصف إلى أن بلغا جبلا كاملا من الأشلاء والجثامين. كان جنود العدو يتلذذون بتعذيبهم وقتلهم أمام أعين الأحياء منهم، وكانوا يغتصبون الصبايا أمام آبائهن، وكانوا يسخرون من الرجال بخلع أسمالهم أمام أبنائهم. كانوا وحوشا في صورٍ بشرية.. وكانوا أسوأ أمة أخرجت للناس.. كانوا.. وكانوا.. وكانوا..!
ولكن الله سيحمي الضعفاء.. وسيهب الفردوس للشهداء.
رائحة الجثث تعم المكان وتزكم الأنوف. بعض القطط والكلاب السمينة تلتهم الجثث، وضمير البشرية لا يزال ميتا.. نعم، ميت؛ فما لجُرح بميِّتِ الضّميرِ إيلامُ!
توقف مراد وعمر عند هذا المشهد المريب، وقدّرا عدد الجثث، لكنهما لن يتمكنا من حزر العدد. النساء عاريات، والصبايا مغتصبات، والرجال مُصوّبٌ على رؤوسهم، والأطفال زُرْقُ الوجوه، مُتَيَبِّسُو الشفاه كما لو أنهم ماتوا عطشا.
وقرر الأخوان دفن هذه الجثث، ثم الاستمرار في رحلة البحث عن جثة أخيهم حسن. حفرَا القبور بالجلاميدِ الحادّة، وبالأظافير حتى تَكسّرتْ، وبما بلغته أيديهم من عصيٍّ وأطرافِ حديد. لَفّا بعض الجثث في أسْمالِها، والأخرى فيما وجدَاه من قُماش في الجوار، والباقي دون كفن.
في كل قبرٍ حفروه سقطتْ فيه حَبّات عَرقِهم، وبعدها دَمعاتهم التي لا تتوقف.
مضى أسبوع كامل، ودفنَا نصف جبل الجثث، وبقي النصف الآخر ينتظر دوره. وكلما فقدَا طاقتهما، تزوّدَا من القرآن، ورحمة الإسلام.
الرائحة صارت أقوى، والجثث لا تنتهي. وأحسّ مراد أن أمر الحرب لن ينتهي بسهولة، وأنهما سيجدان آلاف الجثث في كل مكان؛ لذلك عليهما العودة إلى بيتهما وجلب أدوات الحفر، والمؤونة الكافية، وأن عملهما هذه المرة مقتصرٌ على دفن الشهداء.
وانطلقا، أخيرا، لجلب الفؤوس والمعاولِ والمساحِي والكَرازِين، ولما عادا لإتمام جبل الجثث، وجدَا مكان كل قبر حفراهُ، ثم دفنَا فيه شهيدا، زيتونة وكَرمة. ورأيَا أن الأشجار شكلت غابة صغيرة. وكلما حطّ طائر على شجرة من الأشجار، تناول ثمرة ثم حلق عاليا بأجنحة قوية.
ومن يومها، لم يسمع عمر ومراد قصف المدافع أو تحليق الطائرات. أما الجنود، فقد علموا أن كل شهيد يدفن، فإن روحه تتحول إلى شجرة، وكلما ذاق طائر من الثمار تحولت الروح إليه، وطارت بعيدا..!