الجمعة ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم تركي بني خالد

صديقي الفيلسوف..!

أعترف بداية بأنه لا أصدقاء "حقيقيون" لي في هذا الزمان المادي جداً حيث غدت العلاقات الشخصية والاجتماعية والدولية والعامة تبنى على أساس من المصالح المتبادلة والمنفعة السريعة تغلفها عبارات النفاق التي هي الأخرى نضيفها تحت بند المجاملة.

وأتذكر دوماً قول الشاعر الذي لا اعرف اسمه:

إن قل مالي فلا خل يصاحبني

أو زاد مالي فكل الناس خلاني!

واعترف كذلك أن الخل الوفي هو من رابع المستحيلات الذي يضاف عادة إلى الغول والعنقاء ولا ادري ماذا أيضاً.

وحيث يتدنى كشف حسابي لدى البنوك المحلية والعالمية إلى ما يساوي حفنة من الدولارات أو الدنانير أو الدراهم تقل عن ما كان يعطيه الوالي أو الخليفة إلى زواره حين كان يقول عبارته الشهيرة: يا غلام أعطه ألف درهم!

وعليه فإن الخلان الذين أعرفهم وأتعامل معهم لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وحيث أنني لا أجيد لغة الدبلوماسية والمجاملات والاتيكيت والبروتوكول وذلك عائد ربما للجينات الوراثية التي احملها وهي آتية من عمق الصحراء الأردنية.

لكن رغم قلة عدد الأصدقاء، فإن لي صديقاً اعتز بصحبته واستمتع بأحاديثه بل إنني أتعلم منه شيئاً ما كلما حدثني عن مشاهداته أو قراءاته أو متابعاته. صديقي هذا مدرسة متنقلة، أو هو كتاب قيم رغم أنه يصعب فهمه أكثر الأحيان، فكلام الفلاسفة بطبيعته عميق يحمل دلالات كثيرة وأحياناً متناقضة.

وصديقي هذا مثقف بمعنى الكلمة يعرف شيئاً عن كل شيء، وكذلك هو متعلم خبير في تخصصه الذي يعرف عنه كل شيء تقريباً حيث إن الكمال لله وحده.

صديقي هذا متفلسف دوماً له رأي في كل شيء مهما كان هذا الشيء بسيطاً أو معقداً. وعندما استفسر منه عن سبب تفلسفه يقول لي إن الفلسفة حب الحكمة ومن لا يحب الفلسفة أو التفلسف هو بالضرورة إنسان يتخذ موقفاً معدياً من الحكمة.

ويحزن صديقي هذا لأن الفلسفة أصبحت معزولة لا تستقطب أحدا. بل إنه غاضب لأن الناس صاروا يتهمون الفيلسوف اتهامات باطلة مثل انه حكواتي وكثير كلام ونظري وبعيد الواقع، لدرجة أن الأم التي تريد "بهدلة" أحد أولادها حين يسأل عن شيء تقول له "بلاش فلسفة، وبلاش كثرة حكي". هكذا إذن يشعر صديقي الفيلسوف أن المجتمع العصري تخلى عن الفلسفة وتنكر للفلاسفة مثلما تنكر للأدباء والشعراء وكبار الكتاب وأصبح يصفق للدبلوماسيين والسياسيين والمجاملين وغيرهم.

صديقي الفيلسوف لا يتكلم كثيراً. يصمت مطولاً، ويمتاز بالهدوء والرزانة لكنه حين تتاح له أول فرصة للحديث الجاد أو عندما يوجه له سؤال محدد وذكي تجده ينهمر كالمطر حديثاً شيقاً غزيراً وأفكاراً وملاحظات مدعمة بالأمثلة والشواهد والأدلة والتشبيهات التي تجعلك تتأمل كثيراً في كل ما قاله هذا الشخص.

صديقي هذا عالم في مجاله لكنه يشكو من الزحام وعدم الانتباه له، وكاتب لكنه مغمور، وشاعر لكنه خجول بطبعه حيث يخشى على أحاسيسه أو يخاف مما يسميه سوء الفهم.

كما قلت لكم صديقي هذا اختصر المدرسة في شخص واحتضن في عقله جامعة ليست ككل الجامعات، وسأحاول دوماً أن أتعلم منه أو ربما أن أتقرب منه أكثر، فأنا أشعر أنني لا أفهمه جيداً، بل إنني لا أفهمه أبداًَ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى