الثلاثاء ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

صراع في الحلَبة الفارغة

 تعال نتعالى عليهم أولئك المُتعالين الجُدد، ولو كانت الرّيح تهبُّ الآن وفق ما تشتهي أشرعتهم. والنأي بالنفس، والهجرة إلى عالم النسيان، لن يجنّبانك نيران الاستئثار وغائلة الحيتان التي لا تشبع.

 فعلاً، لقد استقووا وتمادوا وتمدمدوا، ولا أظن بأنّ مكاناً لي بينهم باقٍ، فلنهاجر تاركين لهم الجمل بما حمل

 لا، أيها المتقاعس، لقد ربحوا جولتهم لأنك أنت انسحبت من الحلبة، ابقَ معهم، فحلبة الصراع تتسع للكثير

 حسناً، لنَسِرْ معهم بالمعيّة، ما رأيك؟ كواحدٍ من المجدّفين في زوارقهم، على الأقل أكون خلف ظهورهم كجنديٍّ مجهول؟

 لا، لا صديقي، إنهم مجرّد صعاليك متكبّرة، لذا

استكبِرْ فوقهم أولئك المستكبرين، والله أكبر

دَعْكَ من الاستضعاف، والاستلطاف والاستظراف أمامهم فلن تجنيَ منهم إلا الاستخفاف بك، ومزاحمتك، بل وتجاوزك أيضاً، ومن ثم شطبك وإلغاءك. كسيّارة متفوّقة أبطأَتْ مسيرَتَها، وجانَبَت الرّصيف لتطمئنّ على الركب المتأخّر عنها أملاً في السير برتلٍ جماعيّ متفاعل بروح المحبّة والمنافسة الشريفة.

وماذا ستظنّهم بها فاعلين أيها الأرنب الوثّاب؟

ستتجاوزك السلاحف القميئة البطيئة، بصمتِها الرهيب، وجلَدِها وصبرها، وإصرارها، غير معتمدة على قوّتها، بل على جهلك واستمرار جهلك!

وستطفو على أمواجك الراكدة بعد أن استبدلْتَ هديرَها بسكون خنوعك، وزبَدها الثائر بصفاء صفحة مياهك. انتبه، فقد بان قعرك، وسبروا قاعك، واكتشفوا مواطن أصدافك ولآلئك وكنوزك الدفينة، لا بل عرفوا أن لا حيتان قد تفاجئهم ولا حتى زعنفة قرش مُقلقة، لا بل بانت لهم حدود شطآنك البعيدة، فتحوّلْتَ بنظرهم من بحرٍ لا متناه إلى بحيرة محدودة!

لا بل قد يعتبرونك مستنقعاً ضحلاً، فيردمونك، أو يجفّفونك، كأرضٍ تدوسها أقدام العابرين!

 فماذا أفعل أيها العقل المغامر الذي يأبى الضيم؟

 تعال ـ أولاً ـ نُظهِرْ لهم ابتسامة الظفر ولو كنا خاسرين، صدّقني سيصدّقون أنك ربِحْتَ جولتك عليهم، صدّقني سيجدون أنّ انتصارَهم المؤقّت فارغٌ وتافه، وسيليه سقوطُهم المُريع عن طريق تسليم راية انتصارهم لك طواعية.

أولئك الذين رضعوا الهزيمة مع لبن أمهاتهم، قد تلقّنوا أيضاً منهنّ تاريخاً عنوانه الذلّ الموروث.

اجعل صدرَك شامخاً ولو عصَفَت الريح بأضلاعك، ورأسك مرفوعاً ولو أثقلته الكروب، لأنّ إشعار الآخرين بأنك منتصرٌ أبداً هو النصر بحدّ ذاته، هو النصر على الخوف من الفشل، والثقة بأنّ الكبوات ستليها حتماً، الصحوات.

هيا يها الأرنب الوثّاب، فلم تنتصرْ السلحفاة عليه إلا بالقصص الخرافية، التي يعِدون فيها السلحفاة الخجولة بالنصر، ليجعلونها ترضى بالتسابق مع الأقوياء، فالقوي بحاجة للضعيف الجبان، فقط لينتصر عليه انتصاره الساحق المُبين.

هيا فلننهض من سقوطنا أيها المتعثّر بأوحالك، ولتسرج حصانك أيها الفارس، ولتشعره بأنك ما زلتَ تمتطيه بكامل ثقلك، وسترى كيف سيخترق بك الصفوف اللاطئة المنكسرة سلَفاً قبل أن تنكسر، وستخترَقَها غير هيّاب، لأنها تخشى ابتسامة الظفر التي تنشرها من حولك.

لا تستسلم لليأس يخلخل بنيانك، ولا لنظرات الشفقة يغدقونها عليك فتؤكّد انهزامك.

 ويلي، وقد أخسر مجدّداً فوق خساراتي، وما عاد بي من حيلٍ لأقوم مستجمِعاً قواي إن سقطْتُ هذه المرّة، عندها سأكون انتهيت لا محالة!

 اعتبرْها مقامرة من يضع ورقته الأخيرة على الطاولة، وشرف الوثبة أن ترضي العلا، غلب الواثب أم لم يغلب.

وأغلق جمجمته على عقله المتحفّز، وأحكَمَ من عظيماتها الدروز، وطلب من روحه أن ترافقه إلى ميدان الشرف حيث حلبة الصراع، وكانت روحه تجرّ من خلفه أذيال الخيبة.

ورثا البعض من المقاتلين للعائد الذي قرّر الانتحار، مشفقين ألا تكون نهايته بأيديهم.

وأعرضَ البعض الآخر، عن الاشتراك في الجولة الأخيرة، جولة المذبحة، فمالوا لإغماد سيوفهم ممسكين بمقابضها، إلا إذا قاربَتْهم أسنّة الإزعاج، عندها سيدافعون، ويدفعون عنهم طيش المقاتل الجريح المتخبّط، ليموت بغير سيوفهم.

وغضّ البصر من اعتبر نفسه جمهوراً، عن معركة غير متكافئة، وكم تمنّوا في قرارة أنفسهم أن يتدخّل أحد الحكّام لإنهاء تلك المهزلة، مهزلة الإجهاز على المُثخَن بالجراح.

وقالت الروح الهيّابة:

 لا أيها الثور المُستنزَف، اخرج من الحلبة، فماذا ستفعل قرونك المعوجّة أمام نصل السيف بيد الفارس ذي الحصان الطيّار، وطعنة إثر طعنة، ودفقة دم إثر دفقة، ثم ستأتيك طعنة الرحمة أمام عينيك تغوص بعنقك المرتعد إلى الأعماق، فتخور قواك، وتظلم الدنيا في عينيك، وتشعر بهم يجرّونك إلى آلة التقطيع، قِطعاً، يشربون عليها نخب نهايتك.

لكنّه هو، وعقله المتحفّز، ونفسُه الهيّابة، كانوا ثلاثة أقانيم لجسدٍ واحد وقد توسّط الحلبة الفارغة، وسُلّطت عليه الأضواء، ولم يبقَ إلا قرع الجرس لبدء القِراع.

واستلّ نفسَه من قلبه ليُصبحَ بلا روح، ونشَرَها على منكبيه كجذمور أجنحةٍ قد تطير عنه إذا ما أُعْمِلَتْ فيه الطعنات، وكم وجد جسده حرّاً بدونها، إنها نفسُه إذن، تلك التي كانت تكبّل قلبَه وجنانه، دعْها إذن على كتفيك ولو أثقلَتْ كاهلك!

واستدار على الوجوه الناظرة يطلب مناجِزاً أومبارزاً، وهزّ سيفه بيده، وكم وجده خفيفاً!

وابتسم من نفسه إذ رأى عينَه تهزأ بالناظرين المشفِقين.

وكاد لسانه أن يطلب واحداً منهم بالإسم، وتردّد

وقال عقله:

 فلماذا تتردّد وأنت تعرف أنه الخصم الأشدّ وطأة ؟ والمزاحم الذي نما كطفيّليّ على أعتابك؟ الذي كان ينحني ليربط سيور حذائك، واكتشفت لاحقاً أنه كان ينوي أن يقلبك عن مهرك؟

ومتى اكتشفتَ ذلك؟

يا من كنت متربّعاً على عرش التراخي والتغاضي عن القوارض التي تقرض أثاثاتك ودعائمك حتى هويت من عليائك إلى هاويتك.

اطلبْه بالإسم الآن، قاتلاً له أو مقتولاً

وقالت نفسُه، وقد استعدّت أجنحتها للرفرفة والرحيل عن جسدها:

 دعك منه، فلست أهلاً له في جبروته

 فليكن أيتها النفس، دعيه يختارني هو، ها أنا في قلب ساحة الوغى، وإن انتصرْت فويلكِ أنتِ أولاً يا نفسي المطأطئة، سأتحرّر من قيدكِ أولاً، وها ذراعي الممسكة بالسيف تعود لفنون عزفها بين النحور والصدور، انظري!

 كفاكَ رقصاً على مسرح مقتلك، وانسحب، وقل لهم إنها مجرّد رقصة وداع لأعدائك، الأصدقاء الجدد، فإن انسحبْت الآن ستكون بلا أعداء، صديقاً للكل، كجوادٍ هزيلٍ هرم، خرج من مضمار السباق، ووقف على الهامش متّقياً غبار سنابك الخيل، لكنه يكون قد نجا بجلده.

 نعم، نعم، صدقتِ يا نفسي، سأنسحب، فلستُ ندّاً لهم على ما يبدو، قد يكون زماني الماضي غير زمانهم، قد تكون فنون القتال تغيّرت، وسيفي الذي أراه خفيفاً بيدي الآن قد يكون خفّ لتآكل معدنه الصدئ.

 نعم، هيا أسرع، قبل أن يجبرك أحدهم على نزالك الأخير الذي ستلقى فيه حتفك، ألا إني قد أنذرت، وأجنحتي آيلة للطيران عنك، قبل أن تلوّث أرياشي بوحل سقوطك، وتدمّيها بفوران نجيعك، هيا، تراجع، فإني أرى بعضهم يهمّ بالإجهاز عليك، هيّا أيها الخاسر جولته والرابح بما بقي من شتات عمره، هيا...

وجاءه الصوت الذي كان يخشى سماعه، ومن أين؟ من خلفه المكشوف ! وصفّقت نفسه بجناحيها وانفصلت جزِعة عن عاتقه، وحلّقت، لكنها بقيت تحوم فوق حلبة الصراع من عل، تريد أن ترى مقتل صاحبها ولا تراه، تنفصل عنه نهائياً، أو تشهد انسحابه، أو تشهد إشفاق الخصم عليه فيبعده عن الساحة كعاجز يضربونه ببطن السيف لا بحدّه، أو كضيف سيتمّ تكريمه بوسام العزل النهائي من المعركة، فيصبح إيقونةً لمحارب قديم ما عاد من هذا الزمان، عسى ولعلّ!

وعاد الصوت الذي يخشى سماعه، قوياً إذ صار قريباً منه، ساخراً يفتّ من عضد ما بقي فيه من رجولة:

 إلى أين؟ ابقَ هنا، وأنا سأريحك نهائياً من عذاب تردّدك، وأقطع شأفة حنينك لمُعاركتنا، وأكرّس قناعتك بأنك لست من هذا الزمان، إنه زماننا نحن، يا من كنت تسمّينا أولاد الجارية، سأجعل أمَّك الحرّة تنوح عليك إن كانت ما تزال على قيد الحياة.

نعم، وأصبح ابن الحرّة شتيمةً في زمانهم، زمن العُهر!

نعم، إنه هو، ابن الجارية، التي التجأَتْ لمضاربنا وأجرْناها، وأنجبَت في حياضنا وليداً مجهول النسب، ونسبناه وتبنّيناه، ها هو من حبا على مفارشنا وتدرّب بسيوفنا وترعرع على صحوننا وارتدى حللاً من فضلاتنا. ها هو من قلب موائدنا ونكّس راياتنا وتنكّر لتاريخنا، لم يبق إلا أن يفتتح منازلته لنا بشعرٍ من أشعارنا ينسبه لنفسه.

وقالت نفسه:

 إلا الكبرياء الفارغ يا ذو النسب، ولا تنسَ قصة عنترة وكيف تنمّر العبد ابن زبيبة على أسياده، وقهرهم.
 إليكِ عني يا نفس، ودعي تلك الملاحم الخرافية للشعوب يدغدغون بها وجدانهم في ليالي الحكواتي، إني ما أزال أراه قميئاً ولو كان قاتلي بهذه الحلبة!

والتفت إليه، والتقت عيونهما، وصالا وجالا، وتقارعا حتى كلّت منهما الأذرع، وتثلمت منهما النصال
وانجذب الجمهور للمعركة التي بدت متكافئة، وتماسكا بالأيدي وتصارعا، وسقط، وكان سقوطه مريعاً، وركب الخصم على كتفيه، وجعل رأسه بين فخذيه، وحاول خنقه، ولكنه كان عاجزاً عن النظر في عينيه.

وظلت المعركة طويلاً
وظلت النفس تحوم بجناحيها
والعقل يذكي العزيمة
واليد التي تقاتل، وتقاتل، لم تقتل أحداً
لأنّ الحلبة كانت فارغة، إلا منه، لوحده، بلا مقاتلين وبلا جمهور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى