الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم نصر سليمان محمد محمد

صرخة وطن

السماء مُلبدة بالسواد، الأرض مخضبة بالدماء، الرمال تُسخنها الجراح، صرخات، أنات ..طلقات رصاص، أزيز طائرات يصم الآذان، صواريخ تشق الهواء، انفجارات ولهيب ودخان في كل مكان، الغضب يجتاح الصدور، القلوب تعصرها الآلام، جنود تهرول، شهداء يتساقطون.. عشرات .. بل مئات، "صرخة" مدوية ملتاعة.. تنطلق.. تملأ المكان، أسمعها، لا أعلم مصدرها،لكنها هى الأعلى، صرخة تقطر حزناً وألماً، هى الأكثر وضوحاً في هذا المشهد الدموي الغامض. إنها هزيمة يونيو 1967م .

تمضي الأيام والأسابيع، نفيق جميعا على واقع غير الذي عاهدناه، حياة غير التي عشناها، الوجوم يسود الوجوه، شعب سكنته الأحزان، نكسة أصابت الوجدان.

مرة أخرى أسمع تلك "الصرخة" المدوية تنطلق تملأ الزمان والمكان، صرخة تملأها المرارة والخوف، تطغى على كل الأصوات ولا يبقى سوى صداها يملأ القلب رعباً ويكاد يصم الآذان. لا أدري من أين انطلقت ولمن تكون؟ تَلفت حولي، لم أجد شيئاً، لكن أعرفها جيداً، لقد سمعتها هناك ..في الميدان ..في سيناء، وها أنا أسمعها مرة أخرى بعدما أعلن الزعيم "عبد الناصر" تنَحيه وعودته إلى صفوف الجماهير؛ وقتها أنطلقت الحناجر، علت الهتافات، سالت الدموع، وانطلقت الصرخات. ولكن تلك الصرخة طغت على ماعداها.

تراجع "الزعيم" بإرادة الجماهير، عاد الجيش مكسوراً، مدحوراً، مبتوراً، كيف وهو الجيش الجسور، الجيش الهصور.. منذ عهد الفراعنة.. حتى انتصار صلاح الدين؟

غضب ينهش الصدور، لم نحارب! لم نحارب!

سمعت "الزعيم" يزأر: سنقاتل .. سنقاتل، لكننا لم نقاتل، بل غٌدرنا .. وبالأمر تراجعنا، كٌبلنا، قُيدنا، أردنا الانطلاق .. الاقتحام .. الالتحام ..الحرب .. القتال .. الانتصار، فُرض علينا الحصار .. الانكسار، ضاعت إرادتنا، سالت الدماء كالأنهار. الروح تئن، والنفوس حطام، شهداء يتساقطون، يتساءلون ..كيف؟ لماذا؟ أزيحوا الظلام.. أين النهار؟ أسئلة وأسئلة، وعلامات استفهام، ولا إجابة، فقط النتيجة هزيمة وانكسار.

عُدنا أدراجنا إلى الديار، نكاد نتوارى في الظلام من الأهل والأرض والصغار والكبار، الخزي يلاحقنا، والجبين مُلطخ بالعار.
أ
أسرعت إلى الدار أرتدي ملابسي، ذهبت إلى محطة القطار. منزلي بضواحي محافظة الإسماعيلية، تلك المدينة التي تطل على قناة السويس، تحتضن سيناء، وتحتضنها سيناء، تلك الرمال الطاهرة، أرض الأنبياء، بوابة مصر الشرقية، على أرضها دارت الحروب، شهدت انتصاراتنا على مر الأيام والعصور،ولكن أين هى الآن؟ أين سيناء؟ سؤال تنزف من وقعه الروح ويخر الجسد صريعاً؛ضاعت سيناء! وضعت يدي على وجهي وانخرطت في البكاء، ألقيت جسدي المنهار على مقعد في القطار، توجهت إلى القاهرة لتسليم رسالة الشهيد عثمان، صديق ربطتنا معاً أيام وذكريات وأحداث، أكلنا سوياً، شربنا معاً، تدربنا على القتال، ضحكنا .. بكينا، قضينا خدمات ليلية ونهارية، لفحتنا شمس الصيف الحارقة، وتجمدنا في صقيع ليالي الشتاء الباردة. كان عثمان أخاً وصديقاً وزميل كفاح، تعاهدنا سوياً، ومعنا زملائنا على وأحمد وياسين ومحمد وبنيامين، وغيرهم الكثير والكثير، تعاهدنا على الكفاح وحمل السلاح والذود عن الوطن والرمال، ولكن أين هم الآن؟ سقط منهم الكثير شهداءأمام عيني، لم استطع فعل شيء .. أي شيء، وعندما سقط عثمان، أسرعت إليه أحاول إيقاف الدماء المتدفقة من جميع خلايا جسده، غير أنه نظر لي نظرة لم أجد لها تفسيراً؛ لم تكن نظرة خوف، أوألم، لكنها نظرة تساؤل واستنكار، لم أستطع إجابته، ولم أملك تلك الإجابة التي كان يبغيها؛ فقد أدركت السؤال، لماذا نموت هكذا.. بلاقتال؟ أخذته في صدري، همس في أذني كلمات قليلة طلب توصيلها لأهله في القاهرة :قل لهم يا محمود "أنا لست جبان"، "أبنكم لم يمت جبان" ..فقط تلك الكلمات، كان حريصاً على قولها أكثر من حرصه على الحياة، وسرعان مالفظ أنفاسه الأخيرة. ها أنا ذاهب لإيصال الأمانة، تلك الكلمات إلى أهله وأسرته،ومعها بعض المتعلقات الشخصية الخاصة به.

توجهت إلى منزل الشهيد، أستقبلني والده ووالدته وإخوته، بقايا الدموع مازالت عالقة في عيونهم، أخدود حفرته سخونة الدمع في وجه والدته، أحمرارعين والده شاهد على الكم المنذرف والمسكوب من تلك الدموع. قوبلت بحفاوة كبيرة من الجميع وكأنهم يشمون في شخصي رائحة أبنهم عثمان، أسئلة كثيرة، وأجوبة كثيرة، لحظات فرح وسعادة، ولحظات شجن وحزن، رويت لهم لحظاته الأخيرة، قصصت الكثير من الذكريات، نقلت لهم وصيته وكلماته كما قالها. عندها أنفرجت أسارير والده ووالدته؛ وكأن حزنهما كان خشية وصم أبنهم بالجبن وأن يكون موته نتيجة هذه الصفة، هاهو عثمان يبرئ نفسه وزملاءه من تلك التهمة، أكاد أرى البسمة على وجوه الجميع بعدما نقلت لهم تلك الرسالة قليلة الحروف عظيمة المعنى. كان عثمان أحد الشباب الجادين، تعرفت عليه بعد تجنيدي مباشرة ترقى إلى رتبة "عريف" لما يتميز به من شجاعة وإقدام وتفاني في المهام المكلف بها، وبصفته الأقدم كنا نلجأ إليه في طلب المشورة وحل بعض المشاكل التي تحل بنا، كان لقبه بيننا في الجيش "جدعنه"؛كنا نطلق عليه عثمان جدعنه لما يتميز به من سمات تلك الصفة، كل منا له صفة ولقب يُنادى به ويميز خصاله، وكانت تلك عادة تعودناها وأعتدنا عليها في حياتنا العسكرية، حتى أن البعض غَلب عليه لقبه وكدنا ننسى أسمه، حرص عثمان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تكون أخر كلماته ووصيته بتوصيلها إلى أسرته.. موته بجدعنة،وليس موت الجبناء .

غادرت منزل أسرة عثمان، مررت في طريقي بالأهرامات، أطلت النظر إلى تلك المعجزة الخالدة، تذكرت حكايات عثمان عن الفراعنة وأمجادهم، ورواياته الطويلة التي كان يقصها علينا عندما تَجمعنا جلسة سمر بعد نهاية يوم شاق من أيام العسكرية، منزل أسرته في تلك الناحية أتاح له العيش في تلك الأجواء منذ نعومة أظافره، ومثله مثل أطفال هذه المنطقة الأثرية الغنية بالآثار والتي تحتضن أهم أثر فرعوني على وجه الأرض. تفاعل عثمان مع الأهرامات وأبو الهول، اختلط بالأجانب من كل بلاد العالم ممن جاءوا لمشاهدة تلك المعجزة الخالدة على مر العصور،عمل فترة من صباه في الإرشاد السياحي وانتقل بالسائحين من أثر إلى أثر ومن مكان إلى مكان حتى أصبح عليماً ببواطن الأمور في تلك المنطقة، لم يتعلم أو يدرس تلك المهنة ولكنه كغيره ممن يقطنون حول الأهرامات.. وَعِيها وتعلمها بحكم نشأته هنا وحبه وشغفه بتاريخ الأجداد وأثارهم.

ضحكنا كثيراً وتعالت ضحكاتنا على رواياته عن أحاديثه مع أبو الهول ومناجاته له والاستماع لنصائحه وأخذ الحكمة منه. سألته يوماً كيف تحدثك آثار وأهرامات بنيت لتكون مقابر يدفن فيها الملوك؟ ولن أنسى تلك النظرة التي بادرني بها؛ فقد أخذته الحمية والحماسة وتدافعت الكلمات من فمه سريعة متلاحقة: هذه المقابر التي تتحدث عنها تسكنها الحياة، العالم كله يأتي من كل أقطار الأرض لمشاهدتها والوقوف بجلال أمامها، نعم مقابر .. لكنها تبعث الحياة في النفوس، تنطق وتتحدث وتحكي قصة سبعة آلاف سنة من الحضارة،عندما تحادثها يامحمود فأنت تتحدث مع التاريخ .. مع الأجداد .. مع الحضارة .. لاتقل أبداً حجارة أو مقابر، بلا انها شاهد على عظمة هذا الشعب ونبله وشجاعته وكفاحه على مر الأعوام والسنين.

أفقت من الذكريات.أوصلتني قدمي إلى تمثال "أبو الهول". ألتفت إليه فجأة، صعقت، أرتعدت من نظرة عينيه، أمتلأت منها رعباً، تذكرت حكايات عثمان وحديثه معه. صاح أبو الهول بصوت جهوري: "حَميت مصر وأجدادك على مدار سبعة ألاف عام، لم أفرط في رملها أو أرضها، حافظت على سمائها ونيلها، لم أُكِل أوأمِل أوأشكو، سلمتها لكم عزيزة، مرفوعة الرايات، كيف تتركونها تضيع هكذا؟ تفرطون في أرضكم وعرضكم ! أذهب .. حرر مصر، فك قيودها وأغلالها ،تلك هى مهامك وواجباتك، فقط أرضك وسلاحك، وعندما تعود سوف تجدني في انتظارك فخوراً بك مع أجدادك.

أسرعت الخطى، أبتعدت عن المكان والرعب يتملكني، تذكرت أحمد وعلى وعثمان وإسماعيل وبنيامينن شهداء سالت دماءهم ذكية تحكي روايات وتُخلد بطولات على أرض سيناء، تذكرت النيل والأرض والعرض، تذكرت مصر،وأخذت عهداً أن لا أعود إلا شهيداً أو رافعاً راية النصر.

ذهبت إلى الجبهة تدفعني قوة وإرادة شعب لإسترداد الأرض والعرض، بركان في الصدر، وشعب صٌهر كله في بوتقة الجندية، توحدنا .. شعب وجيش، تجمعت آمالنا وأحلامنا في يوم الخلاص، لم يعد أمامنا أو يشغل بالنا سوى انتظار هذا اليوم.

تولى الرئيس "السادات "المهمة، أكمل ما بدأه الزعيم الراحل "عبد الناصر" عشنا أياماً صعبة وتدريبات شاقة، أحرزنا بطولات أعترف بها العدو قبل الصديق خلال حرب الاستنزاف التي استمرت فترة ليست بالقصيرة، استنزفنا فيها طاقات العدو الإسرائيلي، استعدنا ثقتنا التي حرص العدو على زعزعتها و إشاعة مقولة جيش إسرائيل الذي لايقهر، ولكن كل هذا لم يشف الغليل، ولم أفِ بعد بالوعد الذي قطعته على نفسي وينتظره الجميع .. الأهل.. الأرض.. النيل .. الأهرامات .. مصر كلها .

تمر الأيام بطيئة، تم تهجير أهلنا في مدن القناة، باتت الجبهة بيتنا وحياتنا،وذكرى عثمان وأرواح شهدائنا ترفرف حولنا تُنادينا أن نقتص لهم، والأهل من خلفنا يدعون لنا ويشحذون هممنا، وبركان الصدور تفور منه الحمم معلنة قرب الانفجار،نشعر أن الساعة باتت قريبة، وأن تحقيق الوعد وشيك. وكانت اللحظة الحاسمة.

أزيز الطائرات فوق رؤوسنا، طلقات المدافع تصم الآذان، الدخان الكثيف يملأ الأجواء، صيحات الله أكبر تنطلق في العنان، الجيش كله يزحف كالطوفان نحو سيناء. أسمعها مجدداً ..صرخة هادرة .. تزمجر عالياً ..تلف المكان.. تشحذ الهمم وتدفع الرجال. أحمل السلاح، أقفز إلى البر الثاني عابراً القناة، أتشبث برمال سيناء.. أُقبل أرضها، خط بارليف كتلة من النيران، الصهاينة مذعورين كالفئران، الجيش المصري يعبر بالعتاد والأسلحة والوعد والأمل والعزيمة. تحقق الوعد، وقفت حيث استشهد عثمان ورفقاء السلاح، رفعت علم مصر عالياً يرفرف فوق المكان، تناثرت حولي جثث وأشلاء جنود العدو الجبناء تُغطي الرمال، وعلى مدى النظر العشرات منهم أسرى كالحة وجوههم عليها غبرة يعلوها الخزي والعار، الجبن والخوف يملأ قلوبهم، ترتعد أجسادهم بعدما جرفتهم ثورة البركان، تحقق الوعد وكان الانتصار ... السادس من أكتوبر1973 م . يوم خالد ومحفور في سجل الزما.

أسمعها مرة أخرى، صرخة تهز الوجدان، صرخة تملأ المكان،هى نفس الصرخة ولكنها تختلف عن باقي الصرخات، كانت صرخة فرح، صرخة أحتضان الأرض والعرض والولد، وعندها فقط أدركت أن تلك الصرخة .. صرخة وطن.

"النهاية"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى