الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عادل إسماعيل مصطفى إبراهيم

صُمُودٌ

صَافراتُ الإنذارِ المدوِّيةِ المضيئةِ أعلَى سياراتِ الإسعافِ، تنطلقُ من حَناجِرها أصواتٌ لصرخاتٍ مستغيثةٍ تنتشرُ في الأرجاءِ، متوسلة لعقباتِ الطريقِ أن تُفسحَ لها المجالَ، لتسابقَ الزمنَ كي تصلَ إلى أرواحٍ، على وَشْكِ أن تُغادرَ أجسَادَهَا.

سنواتٌ رَحَلت، منذ أن فَتَحَت جحورُ الجحيمِ أفواهُهَا، لتَندلعَ من أحشَائِها تلك الضِّباع المُوحِلة، التي تحتلُ أرضَنَا بوقاحةِ شيطان متبجح!

في لحظاتٍ يقررون الهجومَ، القصفَ، القتلَ، التدميرَ، الخرابَ، الموت!

يحاربون عُزَّلا، و يقتلون أطفالا و نساء و شيوخا، يعتقلون المدنيين، يجدون في ذلك شجاعتهم، و قوتهم، و فخرهم!
قدَّرَ اللهُ، مَا شَاءَ فَعَل، هكذا كانت تهمسُ شفاهي، بينما كنتُ أنظرُ متلهفًا من نافذةِ إحدى سياراتِ الإسعافِ، متعجلًا لحظة الوصول.

آثارٌ لجنازير دباباتٍ فوق الثرى، كوشمٍ قذرٍ لأفعى يُلطِّخُ جسدًا طاهرًا، زَماجِرُ نشازٍ لهديرِ طائراتٍ تعكِّرُ صفوَ السماءِ، كصوتِ إبليسَ يجادلُ في خَلقِ آدم، أزيزُ طلقات، بحيراتُ دماء، جرحى، شهداء، أشلاء مبعثرة، بعض من أطفالٍ، و بضع من شيوخٍ، و نساء.

ذلك ما اعتَادت حَواسي أن تتعاملَ معه في كل يوم.

فهل ضعفت المقاومة برغم كل ذلك؟! أو تراجع الأبطال عن طريقٍ آخره الشهادة أو النصر؟!

في مطلع كل صباح تشرقُ في عيونِنا شمسُ أملٍ متجددٍ، من بين أيادي أشجار الزيتون الخضراء، لتثمرَ عناقيدُ المقاومةِ طَرحًا من الصُّمودِ لا ينتَهي له مَوسِمٌ، و لا يوقفه حصاد!

 استعد يا"نِضَال"ها نحن اقتربنا.

بالكاد وصلت كلماتُ"وسام"إلى مَسَامِعي، متسربةً من بين أصواتِ الانفجاراتِ المتتابعة، بينما كان يبحثُ عن مكانٍ مناسبٍ، يصلحُ للوقوفِ بجانبِه لدقائقٍ، ريثما أستطيعُ مع بقيةِ المسعفين الانتهاءَ من تأديةِ واجبنا المقدَّس بحملِ الجرحى و المصابين إلى سيارةِ الإسعافِ، التي ليست هي الأخرى بمأمنٍ من غدرِ وحوشٍ لا تعرف للإنسانية قيمة، و لا للرحمة معنى.

عامٌ مضى منذ تطوَّع"نضالُ"للعملِ كمسعفٍ مع صديقِه"وسام"، جمعتهما الأفكارُ المتقاربةُ، و المشاعرُ المتشابهةُ، قبل أن تجمعهما سيارةُ الإسعافِ، فذلك الجريح أو الشهيد الذي سوف يتشرفان بحمله، ليس مجردُ رقم يضافُ إلى أعدادٍ و أسماءٍ في قائمةٍ خرساء، بل هو إنسانٌ له حياته و أسرته و أحلامه و طموحاته و أفراحه، له كل الحقوق التي منحها اللهُ لكل إنسانٍ شريف.

كان"نضالُ"أبا لطفلين صغيرين"فداء"و"أمل"، تم قصفُ بيت عائلته و هو صغير، مات أبواه و أخوته، أمام عينيه،كبر و كبرت معه آمالُ المقاومة و روح الصمود، شجاعٌ لا يعرفُ للخوفِ معنى، يعرفُ أن العمرَ لحظة، و الإنسان موقف، و الموت حياة، هكذا أثبتت الأحداث التي خاضها!

قبل أن تتوقفَ عجلاتُ سيارةِ الإسعافِ تمامًا، كانت أقدامُ"نضال"تلامسُ الأرض، فاللحظة الواحدة قد تساوي حياة، كالعادةِ كان المنظرُ بشعًا مريعًا، حقا ما أقبحَ الشيطانُ عندما ينكرُ حقيقته!

الدماءُ مُهرَقةٌ في كل مكان، كأنها ترسمُ خارطةً لمدينةٍ مقدسةٍ فوق وجهِ الأرضِ حدودها الألم، تأوُّهات الأطفال تتجاوز بلاغة الحزن، الأسوار المُهدَّمة تعلنُ الحداد على حُرمةِ المكانِ، السبورات المحترقة تنعي بقايا الحروف و جثث الكلمات، أنينُ الإنسانيةِ أوركسترا، لا آلة موسيقية لديه سوى النَّاي، لافتةٌ كانت من لحظاتٍ خضراء اللون، الآن تطمسها ستارةُ الغبارُ، و تخترقُها بعضُ الطلقاتِ، مازالت مرتفعة شامخة بالرغم من همجية القصف، و وحشيَّة رشق الطلقات، لمحها"نضالُ"في نظرةٍ خاطفةٍ ( مدرسةُ الشهداءِ الابتدَائِية ).

لوهلة تذكَّر"فداء"ابنه الصغير، استُشهِد منذ عامٍ في مجزرةٍ للأطفالِ كتلك، كان دائمًا مبتسمًا، حينما كنت أقبِّل جبينه، بينما يحتضر، كنتُ أبكي كأب و إنسان، بينما هو يبتسم ببراءة ملاك!
عندما ارتفعت كَفُّه المُعَطَّرة بالدماءِ، لتمسحَ دموعًا تحجَّرت فوق وجنتيّ، سَقَطَت قبل أن تكملَ طريقها، و سَقَطَت رُوحي فَوقَها!

تَقَدَّمتُ بضع خطواتٍ بين أكداسِ الركامِ، كان الغبارُ يغطي الرؤيةَ، و الدخان كثيف و ألسنة النيرانِ تتناثرُ حولي في كلِ مكان، كانت حرقةٌ مؤلمةٌ تلوِّن عيني بالأحمر، و سعالٌ يزلزل رئتي، و يعتصرُ أضلعي، لكنني واصلت التقدم، التراجعُ ليس أحد اختياراتي، كلُ طفلٍ هنا هو"فداء"، فهل أترك فرصة جديدة كي أنقذ فيها ابني دون الفوز بها؟!

انقشعَ الغبارُ قَليلًا، تَباعَدت خيوطُ الدخان الأسود، تشكَّلت أمامي مَلامحُ"أمل"، ابنتي، شَمسُ حَياتي المُشرِقة، قَبل خروجي من المنزل، منحتني قبلة فوق جبيني، مدت نحوي كفها الصغير، لتضعَ في يدي بعض النقود المعدنية، وهي تهمس في أذني بصوتٍ مبتسمٍ:

 احضر لي بعض الحلوى حين تَعود.

ارتسَمت ابتسامةٌ على شفتيّ رغمًا عَني، يبقى الإنسانُ الحقيقيُ إنسانًا في كل المواقفِ.

قَطعَ شرودي صوتٌ خافتٌ يصدرُ من أسفل الركام القريب، أسرعت نحوه، أتعثرُ في كتلٍ من بقَايَا الدمارِ، أسقطُ و أقومُ مسرعًا، أتحسسُ طريقي بيدي، أظنني وصلت، كان صوتُ طفلٍ يتوجعُ، كالمجنون مددتُ يداي بين كومةِ الركامِ، كانت بقايا الطوب و الأحجار و قطع من الزجاج المحطم تنهش لحم أصابعي، ليس هذا وقت الشعور بالألم!

واصلت إزاحة الركام بكل إصرارٍ، ظَهرَ أمامي وجهُ طفل صغير، بالكاد أتبين ملامحه، نفضت التراب عن وجهه، كان يتنفس ببطء، أخرجته بحذر من بين بقايا الركام، أرحته بجانبي، ريثما يلتقط أنفاسه، كنت أربت على كتفه حتى يطمئن، تحدثت إليه ليشعر بالأمان:

 لا تخف يا بَطل، أنت بخيرٍ، سأحمِلك معي إلى سيارةِ الإسعافِ، كن مطمئنا.

تَحسستُ جسدَه الضعيفَ بيدي، لأتحققَ من عدمِ وجودِ إصاباتٍ ظاهريةٍ بليغةٍ به، كان لطفُ القدر أن وقعَ الركامُ عَليه، فحماه من شظَايا الانفجاراتِ، و رشقات الرصاصِ، حمدت الله، و قررتُ حمله سريعا قبل معاودة الطائرات لقصفٍ جديد.

مددتُ يدي لحمله، لاحظتُ أن كفَّ يده اليمنى منقبضًا بقوةٍ على شيءٍ بداخلها، لم أتبينه، حملته فوق صدري، شعرتُ بنبضات قلبه تدقُ بين ضلوعي، و كأن لروحه الغضَّة جذورا، تتشعبُ في عمقِ شَراييني، شعرتُ كأنني أعرفه، كأنه مني، كأنه أنا!

كنتُ أعدو بقدرِ طَاقتي، نَحو سيارةِ الإسعافِ، ربَّما تَمكَّنَا أن نَصلَ به إلى المُستَشفى، في الوقتِ المناسبِ لإنقاذِه، أصواتُ انفجاراتٍ جديدةٍ تَهز الأرضَ أسفل قَدميّ، سيولٌ من رشقاتِ الرصاصِ تتناثرُ هنا و هناك.

فجأة شعرتُ كأن سيفًا من نارٍ اخترقَ لحمَ ظهرِي، كنتُ قد أوشكتُ على الوصولِ، كدتُ أن أقعَ، ضممتُ الطفلَ إلى صدرِي، احتضنته بكل حنانٍ، تحاملتُ على ألمي و ضعفي، واصلتُ المسيرَ، ها هو"وسام"بالقرب من السيارةِ، أعطيته الطفلَ، حمله مسرعًا ليضعه فوق السرير، شاهدتُ ورقةً وَقَعَت من كفِّ الطفلِ، التقطتها، و قرأتُ ببصرٍ زائغٍ مشوشٍ:

درسُ اليوم:

اكتب ما يأتي بخط النسخ مرة، و بخط الرقعة مرة أخرى:

لا استِسلَام!
صُمودُ الأسدِ الضِّرغَام
تَضحِيةٌ حتى الحُرِّية..
فالقَلبُ درُوع
و الرُّوح حُسَام..
و مُقَاومةٌ أعيُنها
قَبل شروقِ النصرِ..
لا تَعرِفُ طَعمًا لمَنَام!!

ابتسمت شفتاي، شعرت بارتياحٍ لم أشعر به من قبل، ظهر وجه"فداء"و إشراقة"أمل".

ثقلت جفوني، انغَلقت عيناي، سقطتُ مَكاني، و قبل أن أغيبَ عَن الوعي، تمنيتُ لو أن زوجتي تُسمِّي طفلَنا الذي قاربت على ولادته، ولدا كان أم بنتا

"صُمُود".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى