الأحد ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم محمد الحوراني

طوفانُ الأقصى..

تعزيزٌ للتّضامنِ وتقويضٌ لزيفِ السّرديّة الصّهيونيّة

تمثّلُ المقاومةُ الفلسطينيّةُ مبدأَ الثّبات على الموقف، والإصرار على التّصدّي لهمجية المحتلّ وإجرامه، وهو الموقفُ الثابتُ لأبناءِ فلسطين المتشبّثين بأرضهم وإيمانهم بالنصر الأكيد على الرغم من الترسانةِ العسكريّةِ والأمنية المعقّدة التي اشتغل الكيانُ الصهيونيُّ على إقامتها وتدعيمها قبل أكثرَ من مئةِ عامٍ، وهي التّرسانة التي هزّنها صلابةُ المقاوم الفلسطينيِّ وإرادتُهُ الفولاذيّةُ، وأكّدَتْ هشاشةَ تلك الترسانةِ في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣ فيما عرف بعملية طوفان الأقصى، هذه العملية التي التهبت تعبيرًا عن الرّفض للاحتلال والحصار ومحاولات كسر إرادة الأحرار من أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم، والتي كشفَتْ زيفَ الديمقراطيةِ الغربيّة وهمجيّة الصّهاينة بعد محاولاتٍ محمومةٍ من قبل البعضِ لإزالة قُبحِ الوجه الدّموي للمحتلّ، وما لحقه من خطوات تتّجهُ نحوَ تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، لا بل إنّ إجرامَهُ الذي أعقب عملية طوفان الأقصى أدّى إلى اختلال الموازين وقلب المفاهيم عند عددٍ كبيرٍ من المدافعين عن ذلك الكيان البغيض، وأثبتَ السّرديّةَ الفلسطينيّةَ بأحقيّةِ أهل الأرض بأرضهم وضرورة مساعدتهم وتمكينهم لاستعادة حقوقهم المغتصبة، وهو ما رأيناه جليّاً في كثير من المجتمعات الغربية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، الدّاعية إلى وقف الإجرام بحق أبناء الشعب الفلسطيني وتحديدًا في غزة، بعد قيام الصهاينة بتدمير بنيانها وتشريد أهلها، في محاولة لتهجيرهم خارج أرضهم، بعد حرب التطهير العرقية التي دخلت شهرَها الرابعَ مخلِّفةً عشراتِ الآلاف من الشّهداء والمصابين الفلسطينيين، وهي الحربُ التي استفزّتْ كثيرًا من السياسيين والمثقّفين والكُتّاب الغربيين واليهود، إلى درجة أن "يانيس فاروفاكيس" الخبير الاقتصادي ووزير المالية اليوناني الأسبق، أكّد في فيديو مصوّر أرسلَهُ إلى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة أن هذا ليس وقتَ دراسةِ القضيّة الفلسطينيّة، وإنما وقتُ الدّفاعِ عن وجود الشعب الفلسطيني، مؤكّدًا أنّ الغربَ المهيمنَ ثقافيّاً قد ميّزَ بين الضّحايا العصريين والضحايا غير العصريين، ووفقًا لهذا المعيار الظّالم فإنّ المدنيين الأوكرانيين يصبحون أكثرَ أهميّةً من المدنيين الفلسطينيين، ويؤكّد "فاروفاكيس" أنّهم في الغرب وفي العالم أجمع ضحايا "بروباغندا" تضليلية هدفُها تبريرُ نظامِ الفصلِ العنصريّ والتطهير العرقي وإبادة شعب فلسطين".

إنّ الحربَ الإرهابيّةَ التي يشنّها كيانُ الاحتلالِ على الشعبِ الفلسطينيّ خيّبتْ آمالَ النخبِ اليهوديّة بكل ما يقال عن إمكانية إقامة "السلام" مع المحيط والعالم، وقد أدّت إلى زيادة الخوف والقلق بشأن المستقبل، وهو ما ذهب إليه الكاتب "الإسرائيلي" ديفيد غروسمان الفائز بجائزة "مان بوكر" الدولية عام 2017، عندما شبّه في صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية، مسرحياتِ نتنياهو الهزليّةَ بتصرّفات "تشاوشيسكو"، ورأى أنّ السّلامَ الذي سعى إليه "نتنياهو" محاولًا القفزَ فوقَ أسّ الصراع الحقيقيّ هو سلام الأثرياء. واستشرفَ "غروسمان" المستقبلَ ليؤكّدَ أنّ "إسرائيل" سوف تغدو أكثرَ يمينيّةً وعنصريّةً، وسوفَ يزدادُ الاستقطابُ والانقسامُ الداخليّ، وتتعزّزُ الأحكامُ المسبقةُ والصّورُ النّمطيّةُ الأكثرُ تطرّفًا والأكثرُ دفعًا في اتجاه الكراهية".

كما إنَّ ما قامت به المقاومةُ الفلسطينيّةُ في السّابع من تشرين الأول ٢٠٢٣ جعلت الكُتّابَ والسّاسةَ الغربيين واليهودَ المنصفين، يعكفون على دراسة هذه الحالة، المختلفةِ من الثّبات على الموقفِ واليقين بالنصر، بكثيرٍ من التعقّل والرّويّة، فضلاً عن إعجاب البعض بهذه البطولة المتفرّدةِ والمتميّزةِ، كما هو حالُ المؤرّخ اليهوديّ "إيلان بابيه" الذي عبّرَ عن إعجابه بـ"شجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولَوا على عشرات القواعد العسكرية الإسرائيلية، وتغلُّبِهم على أقوى جيشٍ في الشرق الأوسط"، مؤكّدًا أنّ "عمليّةَ طوفانِ الأقصى يجبُ أن تشاهدَ في إطار صورةٍ أكبرَ؛ صورةِ شعبٍ مستعمرٍ يناضلُ من أجلِ البقاء، في وقتٍ انتخبَ مضطهديهِ حكومةً عازمةً على التعجيل بتدمير الشعبِ الفلسطينيّ والقضاء عليه". مؤكّدًا الدرسَ من الأحداثِ الأخيرةِ التي يعيشُها قطاعُ غزّة، أنّ القوّةَ وحدَها غيرُ قادرةٍ على إيجادِ التّوازن بين النظام العادل من ناحية، والمشروع السياسي غير الأخلاقي من ناحية أخرى.

لقد أثبتَتِ الحربُ الإرهابيّةُ التدميريّةُ التي يشنّها الكيانُ الصهيونيُّ على الشعبِ الفلسطينيّ في غزّةَ أنّ الواقعَ مختلفٌ كثيرًا عن الحالِ الّتي سادَتْ لفترةٍ طويلةٍ في الماضي، ولم يعدْ بالإمكانِ خداعُ قطاعاتٍ كبيرةٍ من المجتمعاتِ الغربيّةِ، والكذبُ عليها من خلال سرديّاتٍ مزيّفةٍ وإعلامٍ مُضلِّلٍ، وإذا كانَ أحدُ القادةِ السّكّانِ الأصليّين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ممّن أطلقَ عليهِمُ المحتلُّ الأمريكيُّ اسمَ "الهنود الحمر"، قد اعترفَ بأنّ أحدَ أسبابِ الدّمارِ الذي لحِقَ بهم هو رحيلُ قصصهم برحيلِ عجائزِهم، فإنّ الواجبَ على جميعِ الكُتّابِ والمثقّفين والمبدعين توثيقُ حكاياتِ وبطولاتِ الشّعبِ الفلسطينيّ المقاومِ والتأكيدِ عليها في حقولِهِمُ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ كافّةً، مع الإصرارِ على أحقيّة أصحابِ الأرضِ باستعادةِ أرضِهم وحقوقِهم المغتصبةِ، ومعاقبةِ قادةِ الاحتلالِ على المجازرِ الرهيبةِ التي ارتُكِبَتْ بحقِّ الشّعبِ الفلسطينيّ وغيرِهِ من شعوبِ المنطقةِ والعالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى