الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عيسى فرنسيس عبدالله

طيف الطيّب

تسارعت الأنفاس لتسابق ضربات قلب فاطمة المرتعش في طرقات مدينة سوبا بالخرطوم، والتي داهمتها قوات الدعم السريع لتقتل الرجال والنساء وحتى الأطفال، لحظات مرعبة تفصل بين الحياة والموت، مشهد يهرب منه الجميع عدا القليلون.

كان فهد زوجها يحمل ابنه وليد ناظراً للباقين بعد أن قاموا بالعدو نحو الأتوبيس تحت طلقات الرصاص غير المعلوم مصدرها وهم يبكون خافضين رؤوسهم خوفاً من أي رصاصة طائشة، ناظرين إليه بكل لهفة وشوق، آملين أن يصل الاثنان إلى داخل الأتوبيس كما فعلوا.

كان المشهد أشبه بأفلام الحرب الأمريكية، الطائرات تحلق في السماء كموجات البحر التي لا تنتهي وصوت طلقات المدافع المضادة للطائرات يزلزل الأرض، وفهد يقف ملتصقاً بحائط بيت أبيض اللون في انتظار أي فرصة لتوقف الرصاص حتى يعبر بوليد بأمان، وفجأة بدأ الجدار الأبيض يتلطخ بوابل سريع من الطلقات التي كانت تنحته بثقوب دائرية عميقة متتالية، والتي أصبحت تقترب من رأس فهد ليأخذ القرار بالعدو نحو الأتوبيس فتحمله دعوات كل من بداخله ليصل هو ووليد سالمين.
تحتضنه فاطمة هو ووليد بشدة وهي تبكي، أمسك هو وليد متفحصاً كل جسده حتى يتأكد أن الرصاص لم يصبه، وعندما تأكد تنفس الصعداء وكأنه يتنفس لأول مرة بعد أن كان تحت الماء لمدة طويلة حتى كاد أن يغرق. تنبه الاثنان إلى قائد الأتوبيس وهو يخبرهم بسرعة التحرك لاستحالة النجاة إن ظلوا في نفس المكان.

نظر فهد إلى فاطمة واتجه نحو باب الأتوبيس بعد أن اطمأن عليها هي ووليد، لم تطاوعه نفسه وعاد سريعاً ليحتضن وليد بقوة، فقد يكون آخر حضن لابنه آمراً عقله وكل حواسه عدم نسيان تلك اللحظة لتُحفر داخله، تصرخ فاطمة قائلة:

 لا ترجع يا فهد… أرجوك
 لا أستطيع يا فاطمة… هل تقبلين أن أترك أطفال الملجأ وأهرب معكِ؟؟؟
 وماذا عنا نحن؟؟؟…
 وكيف أعيش وضميري مثقل بترك أطفال وحدهم؟؟؟
 إذاً عدني أن تعود إلينا سالماً
 أعدك…

ينزل فهد بسرعة من الاتوبيس، ويختبئ خلف شجرة كبيرة وهو يرى الأتوبيس يبتعد في أمان آخذاً طريقاً جانبية ويختفى. خُطف قلب فهد مع الأتوبيس ولم ينتبه إلى ما يواجه إلا عندما ضربت شظية تائهة جذع الشجرة التي كان يحتمي خلفها، ليبدأ في التخطيط للوصول إلى الملجأ.

بعد مناورات عديدة والركد من مكان إلى آخر وكأنه يسير في حقل ألغام يصل فهد قرب الملجأ ولكنه يُفاجأ من وجود عدد من جنود الدعم السريع يقفون أمامه وهو يعلم تماماً أنه لن يدخل أبداً إلى ذلك الملجأ لو رأوه، فتأتيه فكرة رائعة للدخول.
يصعد فهد إلى سطح البيت المهجور الذي كان يقف تحته، ومنه إلى سطح البناية المجاورة إلى أن يصل بكل حذر إلى سطح الملجأ وجنود الدعم السريع يسيرون بأسلحتهم بالأسفل، يسير فهد بكل حذر إلى أسفل الملجأ من الداخل، وعندما يتأكد أن الأمر آمن يظهر للأطفال.

يقابلونه بالأحضان وكأنهم يشربون الماء البارد بعد التيه في صحراء قاحلة لأيام، منهم من أجهش في البكاء، ومنهم من ظل ملتصقاً به رافضاً تركه، حتى بعد أن أمرته عزيزة صاحبة الملجأ. رغم حزنه على فراق عائلته وقلقه على هؤلاء الأطفال، لم يتردد فهد من التحدث معهم والغناء لهم حتى تهدأ نفوسهم. أثناء ذلك يلاحظ أمراً فيقول:

 فدوى… أين الطفلة فدوى يا عزيزة؟؟
 إنها بالفراش… فهي لا تقوى على الحركة لأن حقن الأنسولين قد نفذت وهي لم تأخذ الجرعة منذ أيام
عندما يراها فهد يصيبه الحزن الشديد، لكنه يرتدي الوجه الضاحك بسرعة أمام الأطفال حتى يذهبون إلى النوم، ثم يعود للتحدث إلى عزيزة:
 تم توفير المال لقائد الأتوبيس وانتِ معهم لكن الأمر قد يستغرق أياماً وهي لا تملك هذا الوقت…
 لا أعرف ماذا أفعل
 سأتدبر الأمر…
 ماذا ستفعل؟؟؟
 سأذهب إلى بيت طبيب أعرفه قد يكون لديه الأنسولين
 الأمر في منتهى الخطورة… علاوة على أنك غير واثق من إيجاده
 لا يمكن أن نتركها تواجه الموت ونقف مكتوفي الأيدي…

لم ينتظر فهد، وصعد السلم بسرعة ليذهب للطبيب مستخدماً نفس الطريقة التي دخل بها، أصبح فجأة كالقردة يقفز من بناية إلى الأخرى مستخدماً ستائر الليل المظلم للتخفي متسلحاً بالخفة والحذر، لكن القصة لم تسير كالمرة السابقة فقد تعثر فهد أثناء الركض فالتوى كاحل قدمه ووقع على الأرض محدثاً صوتاً لفت انتباه أحد جنود الدعم السريع فأطلق عليه النار ولكن لحسن الحظ لم تصبه، واستطاع الهرب منه بأعجوبة. عندما زال الخطر بدأ يشعر بالألم، فكان كنار حارقة اشتعلت ولا تنطفىء في رجله فاضطر إلى الجلوس لوقت طويل حتى تمكن من السير مرة أخرى، إلى أن وصل إلى سطح منزل الطبيب.

عندما نزل إلى منزل الطبيب كان يبدو كالقبر من شدة الظلام والهدوء، كان الأمر مخيفاً فقد صعق حينما قام بفتح إحدى النوافذ بكل بطء وحذر حتى يستطيع أن يرى التفاصيل بداخل المنزل دون أن يلفت الأنظار، رأى كل شيء مبعثر على الأرض، كان من الواضح أن الطبيب قد هجر المنزل، دخل فهد إلى غرفة الأطفال وعندما دخل حمامها لم يجد شيئاً، أخذ يبحث عن غرفة النوم الخاصة بذلك الطبيب وبعد عدة محاولات في الظلام وجدها، وعندما دخل حمامها لم يعثر على شيئاً سليماً فيها، فكل المرايات محطمة على الأرض وحتى صندوق الإسعافات الأولية كان محطماً وليس به الكثير، تملك اليأس من فهد وقرر الخروج من المنزل، عندما خرج من الحمام إلى غرفة النوم وقعت عينه على ثلاجة صغيرة فذهب إليها وفتحها.
كانت فرحته مثل مستكشفي الكنوز عندما رأى حقن الأنسولين الصغيرة مستقرة في درج الثلاجة، لا يعلم إن كانت تالفة أم لا لكنه دعا الله واضعاً كل الأنابيب في جيبه وهم بالوقوف ليجري إلى الملجأ لإنقاذ فدوى.

كانت فرحته كطفل صغير ونسي كل أوجاعه تماماً، عند باب الغرفة رأى فجأة جندي الدعم السريع الذي هرب منه واقفاً أمامه شاهراً مسدسه كتمثالٍ متقن الصنع، أدخل فهد يده في جيبه وأخرج حقنة من حقن الأنسولين وقام بضربها في عين الجندي ليقع على الأرض من الألم وتخرج رصاصة من مسدسه فتصيب فهد في جنبه.

توقف الزمن لوهلة بفهد ثم انقض على الجندي وضربه ضربة قوية ليفقد على إثرها الوعي، ذهب بسرعة إلى الحمام فوجد بجانب صندوق الإسعافات قطعة من الشاش ودواء خاص بالجروح فوضعه بسرعة على الجرح وربطه بإحكام، وعندما خرج قام بأخذ مسدس الجندي ووجد أيضاً قنبلة يديوية فوضعها في جيبه وذهب بسرعة إلى فدوى.

كان الليل في هزيعه الرابع وفهد يسير وهو ينزف وقدمه يؤلمه، توقف عن السير فوق أسطح المنازل عدة مرات نظراً لأن الألم كان فوق الاحتمال لكنه كان يكمل المسير بعد أن يلتقط أنفاسه، كانت صورة فدوى في ذهنه طوال الوقت، فكان يتخيل أن وليد ابنه هو من يحتاج إلى هذا الحقن فتسري قوة في جسده قائلاً في نفسه: "لا وجود للألم" وهذا ما ساعده على الوصول إلى الملجأ فعلاً.

سمعت عزيزة صوت ارتطام وكأن نيزك سقط على سطح الملجأ، صعقت لهول المنظر، كان فهد ملقاً على الأرض وجهه للأرض، جرت عزيزة نحوه وقلبته على ظهره، أدخل يده في جيبه همس لها قائلاً:
 جلبت لها الأنسولين…
 ماذا حدث لك؟؟؟
 اذهبي واعطها الحقنة…
 وأنت؟؟؟
 سأكون بخير… اذهبي أرجوكِ الآن

نزلت عزيزة إلى غرفة فدوى وأعطتها الحقنة، ثم صعدت بسرعة إلى فهد، فتأثير الحقنة إن كانت سليمة لن يظهر في التو واللحظة… عندما صعدت إلى فهد وجدت أن الشمس بدأت تشرق وكان ممسكاً الموبايل في يده، قال لها:
 اتصل بي قائد الأتوبيس وهو ينتظر الأطفال والنقود في الجهة الخلفية للملجأ فالكل نيام وهذه الجهة منعزلة تماماً
 لابد من تضميد جرحك أولاً
 لا وقت لذلك الأتوبيس ينتظر بالخارج ساعديني على النزول معكِ الآن وفي الأتوبيس قومي بعلاجي
نزل الاثنان بصعوبة بالغة، وعندما دخلا غرفة فدوى وجدوا أن حالتها تتحسن مما أسعد فهد، وبدأوا في إخراج الأطفال بكل هدوء وبدا خطة هروبهم ستنجح.

تخيل فهد ماذا سيفعل عندما يرى وليد، سيقوم بحمله وإلقائه في الهواء والتقاطه مرة أخرى… كم يفرح وليد بذلك وسيقوم بطلبها مراراً وتكراراً، يستفيق فهد على صوت عزيزة تخبره أن هناك طفل ناقص فيذهب الاثنان للبحث عنه وعندما يدخلون يجد فهد الجندي المصاب في عينه أمامه حاملاً الطفل الصغير ومعه جنديان آخران.
تبدأ عزيزة في البكاء فيطلب منها فهد الصمود وبكل هدوء يُخرج القنبلة من جيبه بعد أن نزع فتيلها ويقول للجنود:
 لن يكون هناك مجال لهروبكم الآن… لكني لدي عرض لكم
 ما هو؟؟؟
 أخرجوا الطفل وعزيزة ودعونا نتفاهم رجل لرجل وعندها قد أعدل عن قراري
يرفض أحدهم العرض… فيتصنع فهد أن القنبلة ستقع منه ليرتعب ثلاثتهم ثم ويوافق على العرض، عندما تهم عزيزة بالخروج يهمس لها فهد سريعاً:

 لا تنتظريني واهربي أنتي والأطفال
 لا أستطيع…
 أرجوكِ… لا مجال للمجادلة… فقط افعلي ما أطلبه منكِ…

توافق عزيزة وتركب الأتوبيس وتضع الطفل، ثم تمنح النقود لقائد الأتوبيس وهي تنظر إلى الباب… ثم تخبره بالتحرك… عندما يتحرك الأتوبيس يسمعه فهد في الداخل ويخبر الجنود بالداخل:

 اسمعوا هذا الصوت…
 ماذا تقصد؟؟؟… صوت الأتوبيس…
 نعم… وكأني أسمع أجمل الأغاني الآن…

عندما وصل الأتوبيس إلى آخر الشارع وقبل أن يتجه يساراً ينفجر الملجأ محدثاً دوياً هائلاً وناراً وصلت إلى السماء يصاحبها دخاناً كثيفاً… يجتذب الانفجار الأنظار ليستطيع الأتوبيس الهرب بمنتهى الأمان… تنهمر الدموع من عزيزة وتُدخل يدها في جيبها لتخرج منديلاً فتجد ورقة مكتوبة بدماء فهد موجهة إلى وليد بها عبارة واحدة "آسف… وليد"
رأى طفلاً آخر الورقة في يد عزيزة فينظر لها قائلاً:
 ألن نرى فهد مرة أخرى؟
 سنراه… سنراه في كل من يقاوم الظلم…
 أريد أن أصبح مثله
 سيحدث يا حبيبي… فلولا فهد ومن مثله ما استطعنا استكمال مسيرتنا…

تحية إلى الشهيد فهد الطيب

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى