الأحد ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

عائد إلى حيفا

سنحت لي الفرصة لأعيش مسرحية «عائد إلى حيفا» على منصة مسرح الكرمة الحيفاوي يوم الجمعة 27.01.2017، وكان لها في حيفا مذاق آخر.

احتشدت القاعة وكان الجمهور منفعلا مع المسرحية وأبطالها، واغرورقت عيون أغلبية الحضور بالدموع.

«عائد إلى حيفا» هي عمل أدبي روائي للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، تتناول تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطيني الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه.

قام الفنان الحيفاوي مكرم خوري بتحويل رواية عائد إلى حيفا إلى مسرحية من إعداده وإخراجه على خشبة مسرح الكرمة الحيفاوي المتجدّد بإدارة مديره الفني الممثّل سليم ضو الذي يحاول بخطى حثيثة ودؤوبة تعريبه ليأخذ موقعه الريادي الوطني على الساحة الثقافية الأدبية في البلاد.
تدور أحداث المسرحية صبيحة الحادي والعشرين من شهر نيسان عام 1948، عام النكبة، وتبدأ بوابل من القنابل والرصاص وقذائف المدفعيّة (هندسة صوت ممتازة ومميّزة لإلياس رشيد، وكذلك تصميم الإضاءة الذي أشرف عليه عنان ابو حاطوم كان رائعًا) تجاه أحياء حيفا العربية ، وساعتئذ كانت صفيّة قد تركت رضيعها خلدون ابن الخمسة شهور في البيت وخرجت تبحث عن زوجها سعيد وسط حشود الناس المذعورين ساعة اضطرارهم للنزوح. تمر الأيام والسنون ويعودا صفية وسعيد بعد نكسة حزيران 1967 إلى بيتهم في حيفا ليتفاجأ بأن ابنهم خلدون أصبح شاباً يحمل اسم دوف، وهو مجند في جيش الاحتلال وقد تبنته أسرة يهودية من القادمين الجدد، استحوذت على البيت واستوطنته بعد نزوح 1948 وتبنّت خلدون ، وتبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف دوڤ/خلدون الحقيقة وأصر على الانحياز إلى جانب "الأم" اليهوديّة التي تبنته ولم يرغب بأية علاقة مع والديه الطبيعيين ، وفي نفس الوقت كان سعيد/الأب يعارض التحاق ابنه الثاني/خالد بالعمل الفدائي وبعد أن رأى حالة ابنه البكر/خلدون أعاد النظر بالأمر ووافق فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي وهكذا نرى في المسرحية أن الإنسان موقف ، فعلى الرغم من أن خلدون وخالد أخوة في الدم إلا انهما نقيضان.

بعد زيارتهما لحيفا لخّص سعيد قائلًا :"كنت عَمبفتتش عن الوطن. وبالنسية إلنا انا وانت، هذا مجرّد تفتيش عن شي تحت غبرة الذاكرة... وشو لاقينا تحت هالغبرة ....؟! كمان غبرة جديدة...!! غلطنا لمّا اعتبرنا إنه الوطن هو الماضي وبس. بالنسبة لخالد، الوطن هو المستقبل. عشرات الآلاف مثل خالد بنظروا للمستقبل، وراح يصحّحوا اخطاءنا واخطاء العالم كلّه."
جاءني عندها محمود درويش حين تعرض لقضية اللجوء والوطن حين قال:

وتسأل : ما معنى كلمة "لاجئ"؟

سيقولون: هو من اقُتِلَع مِن أرضِ الوطن

وتسأل: ما معنى كلمة "وطن"؟

سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات....وتضيق بنا؟

تثير المسرحية تساؤلات كثيرة حول التهجير والتشريد والغربة والحنين والوطن والانسان والانسانية حين يصير الانسان قضية، وحول العودة وحق العودة، وما هو السبب والداعي لزيارة صفية وسعيد لحيفا وعلاقته بالعودة ؟ هل فلسطين استعادة للذكريات أم هي صناعة المستقبل؟

سعيد يعبّر عن مشاعر السخط والمهانة التي يشعر بها في طريق "العودة" وحين يرى حيفا التي "يرونها" له وليس حيفاه ، حيث أصبحت مُحتَلّة ، وأصبحت كما يريدها الاحتلال، وليس كما يجب أن تكون، فيبدو السخط والغضب واضحًا في كلام سعيد وتعابيره لرفضه الاحتلال المُذل والمُهين ويعبّر عن معاناته المُرّة لما آلت إليه الحال وحسرته، ويزيد شعوره بأنه أخطأ في تركه لبيته أيًا كان السبب الذي دعا إلى ذلك .

بعد "زيارته" لحيفا يعيد سعيد النظر فيرجو أن يكون خالد قد التحق أثناء غياب والداه بركب المقاومة وهذه رؤية غسان كنفاني الواضحة ولا غبار عليها بأن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة لتكون العودة شريفة، بعزّ وكرامة وبدون مذلّة ومهانة.

هناك بعض "الإخفاقات" في المسرحية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، محاولة أنسنة العدو الذي سلب خلدون والبيت والوطن، وخلدون يخدم في جيش الاحتلال خدمة إلزامية وليس خدمة احتياطية لأنه ابن عشرين عام ، ومحاولة تحميل صفيّة فوق طاقتها وجعلها المسؤولة عن فقدان الابن والبيت وكأنها ارتكبت "جريمة" ترك ابنها خلدون ليصبح دوڤ بينما هي الضحيّة وغيرها.
المسرحية من تمثيل خالد عواد (الذي قام بدور سعيد وأتقنه بنقله للحسرة والألم والمأساة)، لبنى بقاعي (التي قامت بدور صفية وأبدعت بنقلها لتخبّطاتها كأم فقدت طعم الحياة)، ميساء خميس عموري(التي قامت بدور مريام "الأم البديلة" والقادمة الجديدة ناجية من براثن النازية لتغتصب البيت و"تحظى" بولد وأدت الدور بامتياز)، ميلاد مطر(الذي قام على أتم وجه بدور إفرات – القادم الجديد المحتلّ والمغتصِب) ، صبحي حصري (الذي أدى دور دوڤ/خلدون / جندي الاحتلال وله حضور طاغ في المسرحية) وسليم ضو المتألّق كعادته وأدوا الأدوار بمهنيّة متكاملة، وأشرف حنا أجاد في الديكور والملابس فأبدعوا في عمل مسرحي متكامل رغم الألم والحنين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى