الأربعاء ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
بقلم رندة زريق صباغ

عذراً جورج قنازع وعذرا فضل زريق

"أهديك رسمي هذا رمزاً لصداقتنا والوداد، ولتبقى ذكرى حية لعهد الحياة المدرسية، تلك الحياة اليانعة العذبة التي كانت ترفل بأثواب العز والهناء". (صديقك فضل زريق 22/6/59).

هذا ما دوّنه والدي بخطّه الجميل على ظهر صورته الشمسيّة الصّغيرة حين قدّمها لصديقه الغالي جورج قنازع ذات يوم صيقيّ نصراوي أعلن نهاية المرحلة، وقف طلاب الفوج السابع في المدرسة البلديّة في الناصرة على أبواب الوداع بعد سنوات أربع قضوها معاً فكوّنت بينهم صداقات صادقة متينة تجاوزت مرحلة الدراسة لتظلّ علاقات طيّبة قريبة أحياناً أو بعيدة بقدر ما تسمح الظروف تنسج أواصر الأخوة التي لم تنفصم أبداً.

قيل "انتهزوا فرص الخير فإنّها تمرّ مرّ السّحاب"... فكم بالحري إن كانت فرصة نيل الرضا والسماح من قبل الغوالي بعد رحيلهم إلى حيث لا وجع ولا تنهّد.

احترت كثيراً كيف ومن أين أبدأ؟ ... من البداية أم من النهاية؟

هل أبدأ من العام المفصلي في حياة والدي فضل زريق وفقيدنا بروفيسور جورج قنازع؟ أي من عام 1955 حين التقيا في ساحة المدرسة كغرباء ليصبحا أكثر من أقرباء؟

أترى وجب أن أبدأ من نهاية ملأها الوفاء قبل عامين تماماً في ذكرى الأربعين لوالدي رحمه الله؟ حيث وقف صديقه جورج يرثيه مستذكراً سنوات لا تُنسى وفترة صقلت الشخوص والشخصيات؟!

أن تكتب رثاءً لشخص عزيز رحل، إنما هي مسئولية كبيرة، فكم بالحري إن كنت تكتب لروح صديق والدك وعوضاً عنه؟ فهل أتحدّث بلساني الشخصي أم بلسان الوالد؟ لست أدري... كل ما أدركه أن علي ديناً مستحقاً وجَبَت إعادته.. فلنقل إنه وعد، لا بل وعدان لم أف بهما. الأول حين وعدت والدي في سنواته الأخيرة أن أصحبه في زيارة لصديقه العزيز في الناصرة، لكنني لم أفعل للأسف، قد أخذتني الحياة والمسئوليات، مرّت السنون والعقود غادرنا أبي للعالم الاّخر قبل عامين وحضر صديقه العزيز جورج ليعبّر عن محبّة وزمالة تجاوز عمرها الستين عاماً.

كنت قد وعدت بروفيسور قنازع بزيارة في بيته العامر في ناصرة البشارة بهدف استمرار توثيق تاريخ نكبتنا التي اختار الصّديقان فضل وجورج أن يغادرانا في ذكراها في رسالة واضحة لنا جميعاً، لم أف بالوعد إذ قوقعني غياب أبي ووجع الحياة والبشر، ثم منعتنا الكورونا من الزيارات واللقاءات للأسف.

بيتنا ليس في الناصرة إنّما هو في عيلبون، تلك القرية الجليليّة الوادعة التي شرب أهلها مُرَّ المجزرة والتهجير... قسوة البرد والجوع ... ذلّ اللجوء وفرح العودة لمكان ليس كالمكان بعد مقتل واستشهاد الشّباب

30 تشرين أول 1948. لطالما تردّد اسم جورج قنازع في بيتنا الذي حفظ الصدى كما تردّدت أسماء زملاء أبي في الثانوية دوماً، تلك المرحلة العظيمة التي حظي بها الأذكياء المميزون أو من كانوا أبناء عائلات ميسورة، أذكر من الأسماء رامز جرجورة، علي قدح، فتحي فوراني، علي وهبة، أحمد حسين، يوسف فرح، الياس، فوّاز حسين، وغيرهم. كانت الاسماء غريبة على مسمعي، ليست من أسماء عائلات قريتنا وأبي يقول إنّهم زملاء الثانويّة، فكيف ذلك؟
لطالما تحدّث أبي عن تلك السنين كحلم جميل لم يقو الزّمن على دفنه، وفترة يعتزّ ويعتدّ بها وبما تركته في نفسه من ثقة ومحبّة، من صمود وتحدٍّ، لطالما تحدّث والدي عن صداقة بدأت على مقاعد الدراسة واستمرت لسنوات طويلة ولم تنقطع أبداً رغم عودة كل من الخريجين لمسقط رأسه لتتشعّب بهم الطرق من جديد. ولطالما ذكر اسم جورج قنازع مرفقاً بأحلى صفات الأخلاق والطيبة كما حب العلم وطموح نحو العُلى.

كان عام 1955 مفصليّاً في حياة والدي الذي انتقل للمدينة من القرية التي ما زالت تلملم أشلاءها وتلعق جراحها مستوعبة ما حلّ بها جرّاء ما أطلقنا عليه قصداً أو سهواً (النّكبة) كما لو أنها كارثة طبيعيّة لا دخل لها ببشر قلوبهم أقسى من الحجر، التقى فضل وجورج ذات صباح خريفي بداية أيلول 1955 مع بداية رحلة الفوج السابع في ثانوية الناصرة البلدية لقاء الغرباء، جمعتهما غرف المدرسة ومعلموها، رحلات، زيارات بيتيّة ولقاءات أخوية متكررة واتصالات، اضافة لوجع تاريخي قومي أثقل أكتافهما كلٌّ بحجم وشكل مختلف، ليفترقا ذات يوم صيفيّ نهاية حزيران 1959 بودّ ومحبّة الأقرباء فالانطلاق نحو عالم مليء بالتّحدّيات لم يدرك الخريجون اليافعون حجمها الحقيقي بعد، فالحديث عن العقد الأول بعد النّكبة وقيام الدولة، كانت المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة هي الوحيدة في المنطقة، توجّه خريجو المدارس الابتدائية إليها، من الجش في أقصى الشمال إلى الفريديس ومصمص وعارة وأم الفحم وصندلة ومقيبلة في الجنوب، من كفر مندا، ومن عيلبون قد جاءها فضل ابن نعيم غنطوس زريق الذي قضى شهيداً في مجزرة عيلبون 1948.

كنّا صغاراًّ لم ندرك أبعاد الأمور وتداعياتها، كنّا صغاراً لم نعي عظمة أن يسجّل ويُقبل ابن عيلبون في ثانويّة الناصرة، يلتحق فيها للتعليم ويتخرّج متفوقا في الدراسة كما في الأخلاق والسّلوك حائزاً على احترام ومحبّة أترابه لا سيّما أبناء المدينة منهم، شاب قروي لوزيّ العينين يبشّر اخضرارهما بدماثة وذكاء في اّن معاً، مثالاً للفضل والطّلّة البهيّة.

كبرنا ونما وعينا رويداً رويداً، وبتنا نفهم - أو هكذا اعتقدنا- معاناة شعبنا الفلسطيني في الخمسينات حين كان المجتمع العربي في هذه البلاد يحاول استعادة قواه بعد النكبة التي كان لها أعمق الأثر على نسيجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد كان لقريتنا، عيلبون، نصيب عميق الأثر من هذه النكبة التي لن تمحى ذكراها من قلوب من عايشها وسمع بها من الأجيال القادمة. كان المجتمع العربي ما زال يرزح تحت نير الحكم العسكري، وكانت معظم قرى الجليل تحاول استعادة نظام تعليمي تهدَّم أو لم يكن موجوداً أصلاً.

أقف هنا كما لم أقف من قبل، ليست رهبة الموقف بتأبين شخصية نعتز مفتخرين بها على مر الزمان فحسب، بل لأنني أقف نيابة عن والدي فضل زريق الذي غادرنا في 15 أيار قبل سنتين مؤكداً عمق التصاقه بنكبتنا. أقف هنا كما لم أقف من قبل، أنا التي ولدت بعد عشرين عاماً من الصبر والانتظار في 15 أيار 1968، يدهشني أو لا يدهشني أن البروفيسور جورج قنازع اختار أن يغادرنا ضحية هذا التاريخ في 14 أيار عام 2021 مثبّتاً فينا الانتماء كي لا ننسى.

أثلج صدورنا حفل التأبين الذي ارتقى لمرتبة المرحوم المحتفى بذكراه من جهة، ومن جهة ثانية أحزنني وتمنيت لو أنه كان تكريماً في حياته وليس تأبيناً بعد مماته، فكم كان سيفرح جورج الانسان والبروفيسور قنازع إن رأى وشعر بكل هذه المحبّة والاحترام.

من هنا أناشد كل الأبناء والأحفاد، كل المؤسسات والهيئات بضرورة التكريم وإعطاء كل ذي حقّ حقّه ليسمع، يرى ويشعر بالغبطة وهي أقلّ ما يمكن أن نقدمه لمبدعينا.
ألف رحمة ونور لروح فقيد مجتمعنا وأحر التعازي لعائلته، أصدقائه ومحبّيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى