الاثنين ١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم فاروق مواسي

عروس الجليل توثيق لدرب طويل

الفيلم الوثائقي الذي أخرجه المبدع باسل طنوس هو جزئية من حكاية وطن، هو تصوير لحالة – تصوير لفاطمة الهواري التي فقدت رجليها في النكبة، وفي أثناء قصف ترشيحا في 28 أكتوبر 1948. فاطمة التي عانت طوال هذه السنين، وهي تزحف من غير جريرة جنتها، يزورها الطيار الذي ضرب ترشيحا بالقذائف، ومن هو؟ إنه إيبي نتان، قبل أن يكون من أنصار حركات السلام، وقبل أن يعترف في مذكراته أنه كان يقذف القذائف في البحر.

إيبي نتان حضر إلى ترشيحا ليعتذر للمرأة عما سببه لها من معاناة، ولكنها رفضت اعتذاره، فقالت:

أسامحك إذا أعدت لي رجليّ.

قال لها: لا أستطيع، فقد جرى ما جرى.

  إذن لينتقم منك الله، وآمل أن أراك مشلولاً، كما أنا الآن.

وتمضي المياه في الأنهار، وإذا بفاطمة تحتاج إلى إثبات أنها ضحية حرب، وفي سبيل أن تحصل على التأمين الذي تستحقه، تقرر فاطمة السفر إلى تل أبيب حيث مسكن نتان، وذلك لكي تحصل على تصديق منه، وخاصة بعد اعترافه....

وهنا تحدث المفاجأة:

إيبي نتان مشلول، وها هي تراه في هذه الحالة، فتصدر منها أقوال وملامح التشفي، وخاصة بعد أن رأت صورته وهو طيار في صدر بيته. ضحكت / سخرت / لهجت بحدة، وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، وظلت على قدرة التشفي وطاقته وسخريته النابعة من تاريخ معاناة، لكنها وفي لحظة إنسانية سألت عن حال يده، وأخذت تدلكها لكي يحركها نتان، بل تضع يدها على يده في موقف إنساني قد يرفضه بعضنا، لكنه بالتالي يصب في معنى إنساني، وكأنه يقول: هناك حل آخر، يا بشر!

هذه هي حكاية النص بإيجاز، ولكن الملامح، والشخصيات المرافقة، ومناظر ترشيحا نهارًا وليلاً، ومشاهد الركام والخراب الذي تركه القصف، ولقطات الإيحاء المصاحبة أرتنا كم كان هذا الفيلم جادًا ومسؤولآ، ومميزًا، وكم بذل المخرج فيه من جهد ورؤيا.

وأضيف: ما أروعك يا باسل وأنت تضيف هذا المنظر المؤثر المثير – منظر الموكب الذي يحمل المشاعل، وكان ذلك سنة 2005، فكيف يمكن أن يُوثَّق هذا المشهد لو لم يكن هذا الشريط...رأيت صديقي صفوت عودة، ورأيت أشخاصًا في المسيرة ممن أعرفهم، فقلت: يا إلهي، هؤلاء الأهل، فماذا جرى لنا، ولماذا، ومتى؟

استمعت إلى الشاعر مروان مخول كما استمعت فاطمة إليه وهي في بيتها، وجماهير الشبيبة تستمع وتشارك، وتنفعل، وتنطلق الكنيسة وتلاوة القرآن من المسجد في إضفاء جو عاطفي حزين.

وأقف الآن على أمور مؤثرة أخرى:

إهداء التصوير والفيلم إلى روح أحمد الهواري الذي كان يقدم الملاحظات والوصف لحكاية ما جرى من اعتداء غاشم.

لقطة تُبكي الذي لا يبكي وهو يري منظر الطفلة التي حضرت في جولة مدرسية، واستمعت إلى رواية فاطمة، وكيف انتشلوها من تحت الركام.

لقطة الطفلات الثلاث، وهن يتحركن بعفوية، جميلات معبّرات، ومتابعات لمسيرة، وخاتمات لحكاية مفتوحة.

ولعل ما أثار إعجابي إلى درجة تحفيزي أن أزور ترشيحا وأحيي أمي فاطمة هو استعدادها لأن تكون بطلة الفيلم، واستعدادها لأن يصور باسل خصوصيتها، واستعدادها لأن تظل مثابرة على العهد وحفظ الوطن بأصالة.

ولا بد لأن ألاحظ أنه لم تكن هناك ضرورة لبكاء القريب الذي حظي بميراث فاطمة الذي قد يوحي بأن لها ممتلكات بأيدي الآخرين.

قلت لباسل وللحاضرين بعد أن شاهدت الشريط:

لقد أبدعت فأمتعت، وقد أبدعت فلوّعت!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى