علاقتنا بأميركا سامة... لكن هذا وضع يمكن تغييره
– الولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية ما بعد الحداثة.
– على صعيد "دولة الأمن القومي" الأميركي، هناك تشريعات أصولية مصوبة ضد العرب والمسلمين الأمريكيين
– 11 أيلول / سبتمبر لم يكن بداية ولا نهاية لشيء. إنما محطة رئيسية للتركيز على عولمة السلطة الأمريكية
– في الغرب هناك ديموقراطية وتفرقة عنصرية في آن معاً!
– العلاقات كلها وبطبيعتها متغيرات، وبعضنا يعتبر أن أمريكامرتبطة بإسرائيل الى الأبد، ولا شيء من هذا القبيل.
– حركة التحرير الفلسطينية فشلت في تحقيق التحرير .. وفرصة التحرير أفلتت من أيدينا.. والعدو قادر على تحدي كل ما التزمت به الدول بما فيها الولايات المتحدة.
– عرفات هو المسؤول عن ما يجري اليوم في فلسطين.. هو المسؤول عن فشل التحرير وعن فشل إقامة ديموقراطية داخل المقاومة الفلسطينية وعن تحويل المجلس الوطني الفلسطيني الى لعبة في يده.
– قيمة عرفات بأن غيابه سيحدث خللاً وفوضى ولذلك لا نستطيع ويجب ألا نتعرض له مباشرة.
– المثقفون العرب لم يعودوا قلة، بل أصبحوا جمهوراً.
– قضية التوفيق بين القضية الدينية والعقل ليست مشكلتنا الآن.. موضوعنا الأساسي هو سياسي، أي الأزمة الوطنية القومية.
للمفكر العربي هشام شرابي موقعه البارز على ساحات متعددة: ثقافية وسياسية واجتماعية.. صاحب نظرة فلسفية عامة، وهو في الوقت نفسه صاحب اتجاه سياسي كفلسطيني واكب بأفكاره وطروحاته السياسية المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، وهو – بالإضافة الى هذا – يحمل كثافة خبرة بالثقافة السياسية الأمريكية تراكمت طوال نحو نصف قرن من الحياة السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة، أستاذ للتاريخ والثقافة، وموجهاً للفكر العربي – الأمريكي في اتجاه قومي ونضالي لا لبس فيه.
المقابلة معه تعكس هذا التعدد الثقافي – السياسي في شخصه وحياة ومواقع د. شرابي المهنية والقومية، وقد استفادت كثيراً من عمق واتساع خبرته بالولايات المتحدة في ظرف من أدق ظروف العلاقات الأمريكية – العربية.
– أيقظت أحداث 11 أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية ذكريات المفكر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، حول ما حدث لليابانيين إثر الهجوم على بيرل هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية، بما فيها من نظرات شاحبة من قبل الأمريكيين، والتي أيقظت الحس العنصري لديهم ضد ما هو ياباني وآسيوي وغريب بشكل عام .. يقال هذا الكلام الآن إشارة الى ما يمكن أن ينتظره العرب والمسلمون من يقظة الحس نفسه ومن النظرة ذاتها بعد الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن، فما هي انطباعاتك حول هذه الفترة وخصوصاً أنك تقيم في واشنطن منذ خمسينيات القرن الماضي؟
هشام شرابي: على صعيد الأفراد ليس هناك تمييز عنصري إلا أن ما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية كان شيئاً استثنائياً جداً، وهذا لم يكن له أثر واضح، إنما على صعيد دولة الأمن القومي (National Security State )، التي تحولت اليها أمريكا هناك ترتيبات وتشريعات أصولية، بنظري، ضد فئات تحددها من خلال مفهوم الإرهاب، إنما هذه الترتيبات والتشريعات مصوبة نحو العرب والمسلمين الأمريكيين، الذين هم في أغلبيتهم الواسعة مواطنون أمريكيون. وهذا عمل غير ديموقراطي من ناحية، ودوافعه وأسسه ومنطلقاته لا يمكن تحديدها إلا بالتفرقة العنصرية.
– انطلاقاً من هذا السؤال، ألم تلاحظ أن هناك نظرة "شعبية" اليوم مختلفة عن النظرة التي كانت قبل هذه الأحداث الأخيرة، وتحديداً ضد الذين يعتبرون من أصل عربي أو مسلم؟
هشام شرابي: على صعيد الشارع طبعاً، فالشخص الذي يحمل ملامح شرق أوسطية يعرض لنظرات تشككية وأحياناً الى إهانات لفظية، إنما هذا شيء نادر، لأن هناك قانوناً ضد التفرقة العنصرية في القانون الأمريكي، فرّع منذ سنوات، لذلك على هذا الصعيد لا توجد إلا هذه التفرقة السطحية، والمهم أنه على صعيد الملاحقات من قبل رجال الأمن المحليين، منقبلرجالالأمن الاتحاديين ومكتب التحقيقات الفدرالي (المباحث الجنائية) ومن قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA ، ومنظمات أمنية أخرى، هناك منظمات عدة، وهناك ملاحقات واعتقالات بلا أدنى سبب، واستجوابات ويوجد الآن في السجون نحو 5000 آلاف شخص.
إن هذه الأشياء ليست سهلة، خصوصاً علينا نحن الذين نسمي أنفسنا عرب أمريكا، فجمعياتنا كلها ومحامونا والفئات التي تعمل في المجتمع الأمريكي وتساند الحريات أمامنا مهمات لصراع قانوني ضد هذه الخروقات للدستور الأمريكي لحقوقنا الوطنية.
– يشير مسلك الولايات المتحدة الى حاجتها الدائمة لعدو خارجي من أجل تأمين الحد الأدنى من التماسك الداخلي، الى أي مدى ساهم هذا المسلك في تحديد العدو بهذه السرعة وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر؟
هشام شرابي: هذا سؤال مهم فعلاً، فبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، غاب العدو الأساسي الذي كانت تعبئ ضده الولايات المتحدة طيلة خمسين سنة، بكل قواها، لمحاربته. فكأن هناك حالات طوارئ بعد الحرب الباردة.
السؤال هنا ما معنى أن تكون هناك دولة عظمى في العالم بعد نهاية الخطر الأساسي، وأين ضرورة التسلح؟ فالولايات المتحدة لا تزال تتسلح بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً، وكأن الاتحاد السوفياتي لا يزال موجوداً، وكأن دوره يتنامى وقوته تتعاظم. وهذا ما يجعلنا نعتقد بوجود دوافع، غير دافع الاستقطاب الذي كان موجوداً.
ما يجري هو أن الولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية ما بعد الحداثة، وهذا الكلام يجرنا الى الحديث عن العولمة، فالعولمة أصبحت مفهوماً متشابكاً، إنما هو بالفعل يشير الى عملية تاريخية بدأت في القرن العشرين، بشكل بسيط جداً على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وتعود جذورها الى القرن التاسع عشر، بدأت على صعيد السوق العالمية، الموجودة حالياً، وقد تحدث عن هذه السوق ماركس نفسه وطبعاً لينين. فقد أكد أن رأس المال سيصبح عالمياً مع انتشار واستقرار المد الإمبريالي، الذي كان قد بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر، واليوم وصل الى درجة النضوج على الصعيد الاقتصادي عالمياً. كذلك ثقافياً، وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبح هناك الشيء نفسه، عولمة الثقافة الأمريكية أو الغربية.
إن هذه الأمور أصبحت الإطار الذي مهد، بنظري، لمعظم ما جرى بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، أي أن هذا التاريخ لم يكن بداية ولا نهاية لشيء، إنما كان محطة رئيسية للولايات المتحدة لتدخل وتركز على عولمة السلطة الأمريكية، ولكن السلطة التي كانت سابقاً في إمبراطوريات ودول استعمارية، أصبحت الآن كشيء مفكك تماماً، بمعنى ما بعد الحداثة، أي ليس لها، كما لبريطانيا سابقاً، عاصمة عالمية وجيوش ومناطق احتلال وعلاقات ثابتة تحميها القوة المباشرة، الآن أصبحت شيئاً "هلامياً" يقوم على قواعد وأسس متغيرة وغير ثابتة من تحالفات معظمها مع الدول الغربية الكبرى.
الولايات المتحدة الآن هي القوة العظمى بهذا المعنى، انتهزت فرصة ما حدث في 11 أيلول/سبتمبر والانتكاسة التي حصلت على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي والنفسي لتعبئة قواها وفرض اعتراف بشرعية اندفاع الولايات المتحدة للقيام بحملات عسكرية على الصعيد العالمي من خلال حرب تشنها على ما يسمى الإرهاب، إرهاب تحدده بنفسها وسرياً.
– هل نفهم من هذا الكلام أنه ليست هناك استراتيجية واضحة تحكم علاقة الولايات المتحدة مع الخارج؟ أم أن هذه الاستراتيجية مبنية على أساس مصالحها الأساسية في العالم ووجود العدو الذي يمكنه أن يستنهض الحركة الداخلية في الولايات المتحدة ضد الخارج بشكل عام؟
هشام شرابي: كسلطة عالمية، وكمبرر للاستعدادات العسكرية وما يترتب على ذلك من تكاليف هائلة تحتاجها الولايات المتحدة للعدو، أي الى ما يبرر تصرفاتها العسكرية،فرؤيةالرئيسبوش للصواريخ فيها الشيء الكثير من السطحية والخيال وسيكلف الشعب الأمريكي الكثير من استمرار حالة الفقر عند 30 مليون أمريكي، وسيكلف العالم موجة تسلح جديدة، أي أن مثل هذا التصرف لو كان مجرد غباء لكان يمكن التصرف معه، ولكنه تصرف فيه تفكير الإمبراطورية الشريرة.
– يدعي الغرب أن أساس حضارته تقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، هل ترى من خلال ممارستك للحياة العملية اليومية على امتداد الخمسين سنة الأخيرة أن الحضارة الغربية تتجلى في ممارسات الأمريكيين اليومية وفي علاقاتهم الاجتماعية بالطريقة نفسها مع أقرانهم الغربيين ومع غيرهم الآتين من مختلف شعوب العالم والذين اكتسبوا الجنسية الأمريكية؟
هشام شرابي: في الغرب هناك ديموقراطية وشعور بالتفرقة العنصرية في الوقت نفسه، أي أن هناك تعايشاً بين الاثنين، وهذا شيء علينا أخذه بالاعتبار، وبهذه الديموقراطيات فإن هذه التفرقة العنصرية يمكن محاربتها.
أما بالنسبة الى الولايات المتحدة، بصفتها مجتمعاً حديثاً، وبما أنها قائمة على الدستور وحكم القانون، وعلى الرغم من أنه في الغرب يمكن أن تجد التفرقة العنصرية في أقوى تجلياتها، وفي الولايات المتحدة أبشع هذه التجليات، لذلك يمكن للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة البدء بصراع طويل، وسيجدون المساندة الكبيرة والواسعة لأن القانون معهم، وهناك للقانون قيمة، وهذا شيء مهم للغاية. صحيح أن هناك عنصرية في الشارع ولكن في الوقت نفسه هناك جمعيات كثيرة تحاربها وتساند محاربتها، وهذه تناقضات الديموقراطية الأمريكية التي تجعلها غير ديموقراطية في حين لديها دستور وقانون، تاريخياً، يفوق كل التطور السياسي في الدول الغربية.
– كثيرون يعتبرون أن الولايات المتحدة قبل 11 أيلول/سبتمبر هي غيرها بعده، ليس على صعيد العلاقات مع العالم فحسب، بل أيضاً علاقة الأمريكي مع ذاته ومع دولته، ونظرة الأمريكي الى كيفية تعاطي دولته مع قضايا العالم والى إدارتها لمشكلتها، فكيف تنظر الى هذه المسألة؟ وكيف تحدد احتمالات مسار علاقة الولايات المتحدة مع العرب في المستقبل؟
هشام شرابي: لقد أصبحت الولايات المتحدة هي الإمبراطورية الجديدة، والإمبراطورية هنا ليست بالمعنى البريطاني، أو بالمعنى الروماني، بل بالمعنى ما بعد الحداثي. والمفاهيم كلها، حتى المتعلقة منها بتغيير سياسة خارجية نضعها ضمن إطار التحليل المعرفي الابستمولوجي، الشائع منذ أربعين عاماً في الغرب. وأتصور أنها تقوم بحرب تجاه عدو غير مسمى وغير واضح لا مكان له من خلال مفهوم قوة اللغة على الواقع، فالقوة الدافعة اليوم بالكلمات، وهذه قضية لم تتبلور بعد، ولكننا نحن حاضرون في هذا السياق، وطبعاً ستتغير الأمور، ولكننا لا نعرف كيف ستتغير، وبأي اتجاه، وإنما يمكن أن تتغير، وفي أسوأ تقدير، داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وطالما نحن في سياق الكلمات والمفاهيم، هناك داخل وهناك خارج في إطار ما بعد الحداثة على الأرض فإن الحدود ما بين الداخل والخارج آخذة بالزوال، فها هي ذابت على الصعيد الاقتصادي، من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، والآن تغيب على واقع ما يعتبر الأمن القومي، وليس هناك فرق بتصرف أمريكا بمعاملتها للخطر على أمنها القومي بين عمل داخلي وعمل خارجي فالعالم كله أصبح موقع أمن أمريكياً، فمن قندهار الى كوبا وأمريكا اللاتينية وكأنها داخل أمريكا، فإذا ما تضعضعت الشرعية الدولية تضعضعت الاتفاقات كلها.
إن التغيرات قادمة، والى الآن الجميع يرى السلبيات فقط، التشريعات والمضايقات لكل الناس، وستزيد من ناحية ثانية من خلال النقد الحديث، أي التقليدي، يعني القديم، عليك أن تتصور هذه المفارقة، عليك أن تميز، فهناك مصالح، مصالح شركات، مصالح مادية، مصالح مركز سياسي،اجتماعي،اقتصادي،في السير مع العملية.
فنحن عملياً دخلنا الحداثة وما بعد الحداثة بشيئين: المخابرات والإعلام، وهذان الشيئان لا يحتاجان سوى الى تقنيات محددة، ونحن قادرون على استيعابها مباشرة وتحقيقها.
وعلى صعيد قوى الأمن المحلية هم سعداء جداً لأنهم يمتلكون هذه القوة، حيث سمح لهم بالتشريعات التي نتكلم عنها، لهذا سيتزايد هذا التمييز ويمتد ويقوى، لأن هناك مصالح، فمن مصلحة الأمن من موقعه أن يتصرف كما يريد، ويتقدم في هذا العمل.
– هذا على الصعيد الخارجي، ولكن كيف ينظر الأمريكي الى نفسه، والى حكومته، هل لا يزال يثق بقوته وبعلاقاته مع الآخرين؟
هشام شرابي: نحن ننظر الى الأمريكيين كأنهم الفرنسيين أو الألمان أو العرب. الأمريكيون بتركيبتهم الاجتماعية مهيأون للقرن الواحد والعشرين، هم مجتمع القرن الواحد والعشرين مجسداً. فنيويورك ليست بلداً أمريكياً، بل هي بلد عالمي، حيث لا يحق لأحد تسمية نفسه أمريكياً. وهذا المجتمع هو المجتمع المركب من أكثر من صنف لإنتاج صنف آخر، أي لا أسود ولا أبيض بل خليط، وأمريكا اليوم "مخلوطة" وليس هناك ردة فعل أمريكية كردة الفعل الألمانية مثلاً هناك فئات مهيمنة ومسيطرة أكثر من الفئات الأخرى، ولكن الأمريكيين على صعيد المجتمع ككل لا يمكن التكلم عنهم على سبيل التعميم.
– ما هي برأيك وبحسب خبرتك ثوابت العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، والعلاقات الأمريكية – العربية؟ وما هي متغيراتها؟ وهل يمكن تحويل بعض الثوابت الى متغيرات وضمن أي شروط في ما يهم بالعلاقات الأمريكية – العربية؟
هشام شرابي: باختصار أقول إن العلاقات كلها بطبيعتها هي متغيرات، هذه حقيقة علينا تذكرها دائماً، وبعضنا يعتبر أن أمريكا مرتبطة بإسرائيل الى الأبد، لا شيء من هذا القبيل.
من ناحية ثانية، فإن علاقة الولايات المتحدة بالدول العربية، التي هي علاقة دونية، أي علاقة تبعية، هي مصدر ضعفنا، ومصدر أساسي بضعفنا. فأمريكا لا تنظر الى منطقتنا كشعوب، ولا كدول ذات سيادة، بل الى مجموعة من النخب السياسية الممسكة بالسلطة والمال، وتتعامل معها من ضمن علاقة ثنائية. وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة لا تتعامل معنا كما تتعامل مثلاً مع الهند أو أوروبا أو الصين من حيث أن المصالح هي المحك الأخير، ونحن دائماً نتعاون برأس المال، ونبقى ندفع وندفع من مصالحنا ومما نملك على حسابنا، من هنا الهدر بكل شيء نملكه، مواردنا المادية وإمكانياتنا البشرية وما يترتب على ذلك من إنهاك لأي عملية تطور.
علاقتنا مع أمريكا علاقة سامة لجسد الوطن العربي، إنما هذا وضع يمكن أن يتغير إذا بدلناها من علاقة ثنائية الى علاقة جماعية، إذاً مشكلتنا مع أمريكا هي مشكلة عربية داخلية، مشكلتنا تحل بتغيير المجتمع العربي، وعلى أساس المجتمع، الحداثة، المرأة، وعلى أساس الدولة، وأرى أيضاً أن هذا ممكن الآن، ولم يكن كذلك أيام الثورة وأيام عبد الناصر. الآن يجب أن نعيد النظر ونكون خطاباً قادراً على تفسير أوضاعنا، وعلى تكوين رؤية نقدية يمكن ترجمتها الى ممارسة على أرض الواقع الاجتماعي من خلال الحركات الاجتماعية التي أصبحت موجود الآن، وهذا مشروع عملي وممكن.
إذاً إن العلاقة العربية – الأمريكية والأمريكية – الإسرائيلية بالضرورة يمكن أن تتغير، ولكن المركز الأساسي للتغيير هو داخل المجتمع العربي. هذا على المدى المنظور، إنما على المدى اليومي الآن، فنحن كمن يرى منزله يحترق، يتسرع باحثاً عن ماء ليطفئها، لذلك نقول إن هذه العملية يجب أن يتم الإسراع بها بحيث نجد صيغاً عملية آنية لترميم وضعنا العربي. فنحن اليوم في حالة عدمية المثقفون منا والشعب، لا فائدة ترجى منا، فالإحباط وصل الى درجة عدم الثقة بالذات وبالحكام وبالغريب، وأصبحنا في حالة عدم توازن، لذلك يتوجب تغيير ليس بالوعي فقط، بلبالتوجه ليصبحهناك تغييرفي نمط الممارسة. من هنا علينا السير من الرؤية للنزول الى الواقع، لتغيير الوعي لتجاوز هذه العدمية.
عملياً العدمية يمكن تجاوزها بالعمل، أي علينا إظهار صورة للناس وللجيل الصاعد تعكس العمل في سبيل المجتمع وتغييره وخلاصه ولإنشاء حياة جديدة، ولكن ليس على نمط تفكيرنا القديم بأن هذا التغيير يتم بالثورة أو بالتفكير اليوتوبي الأيديولوجي.
في مرحة ما بعد الحداثة التغيير الفكري يجب أن يكون كاملاً بكل مفاهيمه، فمثلاً عندما نقول حركات اجتماعية جديدة – بحسب ما فكر بها ألان توران – يوجد مثلها عندنا نحن هناك، ولكن علينا الدخول في خط الإبداع الفكري العملي، فمجرد أن تجد للشخص إطاراً بسياق معين، ولن يكون أصلاً إلا بسياق محدد، السياق القطري وليس السياق القومي، السياق المحلي وليس بالضرورة السياق القومي، لا ينفي ذلك وجود سياق قومي ووطني. فعلى صعيد الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني مثلاً، إن مهمة المثقفين هي الدخول بمشروع تفعيل هذه الحركات، ومن خلال التراكم سيتغير المجتمع بإمكاناته خلال سنوات. وعلينا التفكير بهذه الخطوط وهذه الأنماط ومن هذه الأطر، ويكفينا فلسفة وتنظيراً. فهذان يجب أن يكونا مرتبطين في هذه الفترة مباشرة بواقعنا وبالمنزل الذي يحترق. وإلا كيف ستربط الوعي والممارسة والأصالة من غير العقبات والمصاعب التي تواجهها، في وضع مثل وضعنا؟ هناك نمطان من هذه الفلسفة والتنظير: نمط هايدغر وننمط لوكاتش، وتماماً واحد يتحدث عن الحيز الخاص الذي نعيشه ولا يمكن الخروج منه، والآخر يتحدث عن الحيز العام، وهذان ممكن أن يلتقيا.
– برأيك كيف تنظر اليوم الولايات المتحدة الى العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية؟ وهل تعتقد أن ثمة مشروعاً لتسوية ما برعاية أمريكية في الوقت الحاضر أو في المدى المنظور؟
هشام شرابي: واقعياً، لا بد من نهاية لدائرة العنف والتدمير التي نعيشها اليوم. سنتوقف طبعاً، ولكن لا أحد يدري كيف، فالفلسطينيون لا يقبلون بالعودة الى الوراء، والإسرائيليون سيستمرون طالما الأمريكيون معهم، والمخرج المنظور هو بيد الولايات المتحدة أكثر منه بيد الفلسطينيين أو الإسرائيليين، مع العلم بأنه يمكن أن يحدث شيء ويوقف هذه الدائرة من تلقاء نفسها، فالإسرائيليون قد يهجمون ويحتلون، ولكن عملياً من ضمن المعطيات الحاضرة، كما قال جيمي كارتر وبيرجنسكي منذ فترة قريبة، فالطرفان لا يمكنهما الوصول الى حل دون تدخل خارجي، والوحيد القادر على التدخل ويكون له الوقع الضروري هو الولايات المتحدة. وثانياً، فإن التدخل كما هو في السابق لا يكفي، أي الاقتصار على إرسال مبعوث ليعمل كذا وكذا. يقول بيرجنسكي إن على الإدارة (الأمريكية) الحالية أن تطرح تصوراً لحل يقوم على الوثائق الدولية، وعلى نتائج الاتفاقات الإسرائيلية – الفلسطينية السابقة، وعلى الثوابت التي نالت إجماعاً دولياً. وثالثاً، أن يوضع هذا التصور المتكامل لحل يقوم على معالجة مخاوف ومصالح الطرفين، أي ألا يكون هذا التصور الى جانب إسرائيل أو الى جانب الفلسطينيين ورابعاً، أن يطرح هذا التصور بشكل تدعمه الدول الأوروبية والرأي العام العالمي. وهذا يعني خلق الجو الذي يفرض على الطرفين التجاوب، عندئذ على إدارة الرئيس بوش الدخول لإيجاد تكملة لمفاوضات مدريد. وهذا هو التصور الوحيد الموجود عملياً لإمكانية التسوية في المدى المنظور.
– ثمة مأزق مثلث الجوانب تعيشه العلاقات المتوترة الفلسطينية – الإسرائيلية: الجانب الأول مأزق السلطة الوطنية الفلسطينية التي تريد إنشاء الدولة وإعلانها ولا تستطيع السيطرة على الشارع الفلسطيني، أو تظهر وكأنها لا تريد السيطرة من أجل انتزاع المزيد من المطالب. والجانب الثاني مأزق الدولة الإسرائيلية التي لا تستطيع أن توافق على إنشاءهكذا دولة فلسطينية،أوتظهر كذلك من أجل التنازل عن أقل ما يمكن من المكاسب، والجانب الثالث مأزق الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي يتنازعها خيار القبول بالأمر الواقع وخيار النضال من أجل كل فلسطين. كيف يمكن برأيكم الخروج من هذه الحالة أو الدوامة؟
هشام شرابي: الشروط الثلاثة التي أرى أنها ستسمح بنوع من الخروج من هذا المأزق ويجب أن تكون متواجدة ومترابطة مع بعضها البعض هي التالية:
1- قيام جبهة فلسطينية موحدة قادرة على الصمود في وجه إسرائيل، بما فيه دعم عربي كاف لاستمرار الانتفاضة – المقاومة.
2- قيام حكومة إسرائيلية بديلة من حكومة آرييل شارون، حكومة تعلمت الدرس بأن الفلسطينيين لن يستسلموا، وأن لا مهرب من التجاوب مع مطالب الفلسطينيين بالنسبة الى حقوقهم، كما ترسمها المجموعة الدولية والرأي العام العالمي.
3- التغيير في موقف الإدارة الأمريكية الحالية من تطابق تام مع الموقف الإسرائيلي الى عودة الى موقفها كراع للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية.
– من الملاحظ في الفترة الأخيرة أن تغيراً قد طرأ على المصطلحات والمفردات المتعلقة بالاغتصاب الصهيوني لكامل التراب الفلسطيني، وأصبحت تعني مجرد احتلال لبعض أجزاء التراب الفلسطيني، يجب التخلي عنها لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة؟ هل ينحصر النضال الفلسطيني والعربي بتحقيق هذا المطلب؟
هشام شرابي: هذا سؤال فعلاً من الصعوبة الإجابة عنه باختصار، ولكن سأحاول جاهداً الاختصار. وأقول إن حركة التحرير الفلسطينية فشلت في تحقيق التحرير، ونحن الآن مثل قليل جداً من حركات التحرير التي عجزت عن التوصل الى التحرير الكامل، لأسباب تعود الى عجز القيادة، تفتت وتشرذم الفصائل، غياب استراتيجية تحررية..الخ. مع أن ثلاثة أجيال من الشباب الفلسطيني ضحوا بأرواحهم وبمستقبلهم ومصيرهم في سبيل التحرير.
إذن، نحن في واقع مربوط بما نسميه حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والإنسانية. الحقوق الوطنية اعترف فيها من قبل المجموعة الدولية في مواقف اتفاقات ووثائق محددة، قبلنا بها رسمياً عندما عقد مؤتمر مدريد، وقبل ذلك عام 1988 عندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر اعترافه بإسرائيل وبقيام دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتخلي عن العنف للتوصل الى هذا الهدف، وهذا ما صنعه عرفات بأساليب ملتوية، وأجبر جورج حبش على الاعتراف به.
الصراع القائم الآن كما يهدف الى ما يقوله مروان البرغوثي، وما يقوله حيدر عيد الشافي وما يقوله مصطفى البرغوثي وما تقوله حنان عشراوي، وما يقوله أبناء الشعب، وما يقوله اللاجئون، قبول قيام دولة على الضفة الغربية وغزة، دولة يكون لها سيادة كاملة، ممكن أن يكون هناك ضرورة لتنازلات واتفاقات على مشاكل تتناول الحدود، المياه، التسلح، ..الخ، إنما دولة ذات سيادة في القدس كعاصمة لها وحق اللاجئين بالعودة الى فلسطين، هذا هو الطرح الرسمي الذي نقول به الآن كفلسطينيين في الخارج وفي الداخل، وهو الموقف الدولي. فالصراع الفلسطيني هو صراع بالنسبة الى هذه الالتزامات الدولية، لذلك عملنا لا يتوجه ضد إسرائيل فقط بل على الصعيد الدولي، من هنا تقصيرنا الهائل في سياساتنا واستراتيجيتنا على صعيد الواقع، وكذلك على صعيد التوجه الإعلامي.
– هذا الموقف الرسمي الذي تتحدث عنه والذي هو نتيجة لمنطق التنازل ألا تعتقد أن الموقع التنازلي يؤدي بالضرورية الى مواقع تنازلية أخرى؟
هشام شرابي: التنازل حدث منذ سنوات وبخاصة في مدريد وأوسلو، وهذا التنازل نحن مسؤولون عنه، ليس فقط في لحظة التنازل، مسؤولون عنه في فشل حركة التحرير في التوصل الى التحرير. وزيادة على ذلك لا يمكن تغيير هذه التنازلات إلا عسكرياً، ولو بإمكاننا اليوم أن نعود الى عمل كفاحي مسلح وننجح في فرض إرادتنا باسترجاع حقوقنافأهلاً وسهلاً، ولكنمنيقول هذا الكلام؟ ففرصة التحرير أفلتت من أيدينا، ونحن الآن في موقع محدد وواضح، والخطر علينا هو أنه حتى هذا الموقع مهدد، والعدو هو الآن في وضع قادر على تحدي كل هذه الأمور الملتزمة فيها الدول بما فيها الولايات المتحدة نفسها، وإذا لم نقم بتغييرات أساسية قد نخسر هذا الموقف أيضاً.
ولا يعني هذا بالضرورة أننا لا نزال نعيش حالة من التنازلات المستمرة، فالتنازلات هي واقعنا، وما نحن عليه من وضع لا يمكن حله عن طريق التنازلات، ولا بد من ترميم الموقف الفلسطيني وإقامة جبهة فلسطينية. وعرفات هنا لم يعد مهماً، وهو المسؤول عن فشل التحرير، وفشل إقامة ديموقراطية داخل المقاومة الفلسطينية، هو المسؤول عن تحويل المجلس الوطني الفلسطيني الى لعبة بيده، وهو مسؤول عن ما يجري اليوم في فلسطين من خلال رفضه ما يطالب به الفصائل والقادة والشعب بإنشاء حركة أو جبهة فلسطينية تتكلم بصوت فلسطيني واضح، الأمر الذي يجعل هذه الأعمال الانتحارية الوسيلة الأخيرة المفتوحة أمام الشعب المحبط، ما يجعل هذا الإحباط والتناقض بين الفصائل الوطنية والدينية.. هذا الرجل هو المسؤول عن ذلك، إنما الضرر قد وقع ولا يمكن أن نرجوا منه شيئاً.
إن قيمة عرفات بأن غيابه سيحدث خللاً وفوضى ولذلك لا نستطيع ويجب أن لا نتعرض له مباشرة، إنما المطلب الأساسي هو إقامة جبهة فلسطينية موحدة. هذا شيء يعني الحياة والموت، لأنه إذا استمرت الأمور على هذا الشكل، فإن عرفات قد يوقع بالنهاية، وما زال الخطر منه لمزيد من التنازلات، وإذا وقع وهو الممثل المنتخب للشعب الفلسطيني فعندها ستصبح الدول الأجنبية في موقف تستطيع فيه إغلاق الملف الفلسطيني كلياً، وهذا ما يريده الإسرائيليون الآن. نحن لا نريد المطلب البطولي الرومانسي: استمرار المفاوضة، والناس يموتون..المطلوب هو استمرار المقاومة بمعنى عدم الاستسلام للمطلب الإسرائيلي الحاضر والتمسك بالمواقف الدولية التي تحمي حقوقنا، ولا يمكن للإسرائيليين أن يستطيعوا الاستمرار هكذا. فإذا كنا نحن صمدنا ولكن بوعي فإنهم لا ينتظرون لدائرة العنف حتى تهدأ، فهم يضربوننا لنضربهم، لماذا؟ حتى يستسلم عرفات وينتهي الأمر، فإن استطاعوا حجزه اليوم في رام الله، فإنهم غداً سيأخذونه الى تل أبيب ليوقع.
هناك كلمة أخيرة في هذا الموضوع وهي إذا تخلصنا من هذه المرحلة الصعبة، فإن في المرحلة القادمة، خلال عشرة أو خمسة عشر عاماً، سيصبح الفلسطينيون الأكثرية في فلسطين الجغرافية، واليهود هم الأقلية، وهذا ما يزعج الإسرائيليين وسيجعل شارون ينادي بإقامة دولة فلسطينية. فمفهوم الدولة الفلسطينية له مدلول أساسي في تركيز أمن إسرائيل، وليفعلوا كما حصل في جنوب أفريقيا. لذلك علينا التبصر بذكاء عند التخلص من هذه المرحلة الخطرة الدائرة اليوم. ونحن بحاجة أيضاً الى صراع جديد لنتعامل مع هذا الوضع القادم، وعلينا التفكير به قبل الوصول إليه. فالهجرة الإسرائيلية العكسية قد تزيد، وعلينا أن نثبت لهم أننا لن نستسلم، وأمنهم متوقف على حقوقنا. فإذا كنا قد اعترفنا بهم وبوجودهم، الآن عليهم هم الاعتراف بحقوقنا التي يعبر عنها بمواثيق واتفاقات واضحة ومعروفة عند الجميع. وإذا أرادوا تسميتنا بإرهابيين لحرماننا من هذه الحقوق وإخراجنا من اللعبة، فهذا عمل جهنمي. وللأسف فإن دولة كبرى كالولايات المتحدة تدعمه. الموقف خطير جداً والمطلوب المقاومة فلسطينياً وعربياً، والمقاومة لا تعني التصرف الذي نراه اليوم والذي يأخذنا الى التهلكة. فأصبح الشخص الواحد يقوم بعمل يهدد المصلحة الوطنية الفلسطينية، لماذا؟ بسبب عدم وجود قيادة واضحة ورؤية واضحة ومطالب واضحة واستراتيجية واضحة يدعمها الشعب الفلسطيني.
إن عمليتنا هي عملية المجتمع العربي ككل لأنه الى الآن فلسطين هي الحالةالمصغرة للوطنالعربي،فإذا لم يستطع تحدي أوضاعه الحالية من خلال الجيل القادم، أيضاً نصبح مهددين بكياناتنا كلها.
– يتنازع الفكر العربي اليوم تياران: التيار الديني الذي يقدم العقيدة الدينية على العقل، والتيار الدنيوي، أو العلماني إذا شئت، الذي يقدم العقل على النقل، وهما كما نعلم منهجان فكريان متعارضان في منطلقاتهما وتوجهاتهما، ومع ذلك نجد الكثير من المثقفين العرب يحاولون التوفيق بينهما من أجل تسويغ كل منهما للآخر أو التلاؤم معه..ما رأيك بهذه المسألة، وكيف يمكن الخروج من دهاليز الفكر التوفيقي والتسويفي الى رحاب الفكر النقدي العقلاني المنفتح؟
هشام شرابي: إن قضية التوفيق بين القضية الدينية والعقل ليست مشكلتنا، وفي هذا السياق ليست مشكلة، ويجب ألا تكون مشكلة، بمعنى أن الخروج لا يمكن أن يكون إلا بوضع القضايا الأيديولوجية، والمعرفية جانباً. لا نريد الدخول – وكلامي هنا كشخص علماني – بالأمور والأصول والمرجعيات. هذا ليس موضوعنا، موضوعنا الأساسي هو سياسي، أي الأزمة الوطنية والقومية، وهذه المواضيع نتركها للمتخصصين ومراكز البحوث. إن من الأهمية القصوى أن نجد صيغاً للتفاهم على أساليب وصيغ التعاون في مجابهة قضايانا الاجتماعية.
– تقول في كتاباتك إن على المثقف العربي حتى يدخل في قلب العصر وفي قلب الثقافة النقدية أن يكون مالكاً لأدوات النقد التفكيكي للخطاب الغربي المعاصر المحدد بما بعد الحداثة، ولا يكون كذلك إلا إذا إتقن اللغات الأجنبية، وفي الوقت نفسه عليه أن يكون في الموقع النقدي للفكر العربي المحدد في مرحلة ما قبل الحداثة ولخطابه الأبوي بلغة عربية حديثة وراقية، كيف يمكن تدبر هكذا نوع من المثقفين؟ وكيف يمكن حماية الفكر النقدي العربي من مغبة الإسقاط النقدي الفكري الغربي ما بعد الحداثي على فكر عربي أبوي يتموضع في مرحلة ما قبل الحداثي؟
هشام شرابي: بنظري كل عمل نقوم به اليوم يجب أن يكون ضمن الإطار التراثي النهضوي، أي أن يبدأ كل شيء عندنا من الصفر. القضايا الأساسية التي أثارها العلمانيون والإصلاحيون في أواخر القرن التاسع عشر لا تزال قضايا أساسية، وللمناسبة المثقفون العرب لم يعودوا قلة صغيرة، فهم جمهور، وصار عندنا ضمن هذا الجمهور من يتكلم بنضوج أكثر ، وبوعي ومعرفة، وعندنا مخزون كبير جداً خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة، ومسؤولية من يقول هذا الكلام هي توفير الأطر التي توضح هذه القضايا، والمفاهيم التي تخولنا بناء خطاب حول هذه القضايا، ومن ثم العمل كمد جذور مع واقعنا على مستوى الشارع، وعلى مستوى الرأي العام.
أضع هنا ثلاثة متطلبات:
1- أن نجد صيغة للخطاب العلماني والديني يقف الجميع في ظله. وأن يتعاون مع الخطاب الديني، أو الخطاب الذي تقوم به الفئات الإسلامية الاجتماعية، بحيث نستطيع التعاون والتفاهم العملي على صعيد الشارع ومتطلبات الوضع الراهن.
2- نحتاج الى إنشاء جسور بين الحركات الاجتماعية على اختلافها، ليس فقط بين العلمانيين والإسلاميين، بل أيضاً مع كل أصناف الحركات الاجتماعية، بحيث يصبح لهذه الحركات شأناً أساسياً في الشأن العام والحيز العام، أي حيز المجتمع المدني. وهذا هو معنى المجتمع المدني، أي الخروج من ظل الدولة والأشياء العسكرية والمالية التي تفرض علينا الآن، لنكون وجوداً اجتماعياً، لا عنفياً، ينادي بالقانون، ويتعامل سوية من خلال طبقاته كلها وجميع أفراده وكل حركاته الحزبية وغير الحزبية، وهذا ما جرى في أوروبا واستطاع الأوروبيون من خلاله إسقاط أنظمة من غير إطلاق رصاصة واحدة.
3- علينا إيجاد طريقة للوصول الى الرأي العام، اليوم هناك ثورة إعلامية في وسائل الإعلام يجب الدخول اليها بقوة ووضوح ليكون لنا فيها، نحن المثقفين العلمانيين خطاب عام، ولا يخرج علينا إحداهم بكلام وخطاب حسبما يحلو له.
– ما هوبرأيك أولوياتالفكر العربي اليوم؟
هشام شرابي: إن أولويات الفكر العربي أن يكون هذا الفكر واعياً لوضعه الاجتماعي – التاريخي في هذه اللحظة من الزمن. هذه أول أولوية. وأن لا يجنح هذا الفكر الى ما تعلمه أكاديمياً في الجامعات ومراكز البحوث وكأن الدنيا بألف خير، كلا الدنيا ليست بألف خير، هذا لا يعني التراجع عن الفكر والفلسفة والتنظير.. فهذه عناصر أساس كل وعي، إنما علينا بعملنا في الفلسفة وفي التنظير أن نكون متوجهين الى الوصول الى الممارسة على أرض الواقع.
إن هذا الكلام الذي أقوله اليوم هو نفسه الكلام الذي كان يقوله اليسار منذ أربعين عاماً، ولكن من دون رفاهية فكرية، حينما كان التظاهر من أجل الصين أو الجزائر، علينا التظاهر لإنقاذ أنفسنا أولاً..
عن مجلة المستقبل العربي، العدد 2/2002