الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أسماء يمانى

على جدار صبرا

لبنان 2006، الهجوم الإسرائيلي"

كأن الشيب قد غذى شعره الغزير الذي يحمل ألف قصة وحكاية، وتجاعيد وجهه التي عاصرها الحزن كانت تحمل في طياتها تاريخًا طويلًا من الألم. رغم أنه في الأربعين من عمره، إلا أن ملامح وجهه كانت توحي بأنه رجل في الستين، فذكرياته المؤلمة لم تكن يومًا هينة. كان شاهدًا حيًا على الحرب المدمرة التي عصفت بلبنان، وقلبه كان يصرخ بالحزن، بينما يداه تحملان عبء معاناة لا تنتهي.

لكن رغم كل هذا، لم ينكسر، ولم تسقط روحه. وحزبه الذي أسسه بدماء الرفاق، لم يضعف، بل ازداد قوة، وكان عازمًا على غزو إسرائيل يومًا ما، انتقامًا لكل ما فقده، كما كان يقول تلميذه "رامي"، ذلك الشاب الذي امتلك قلبًا شجاعًا وروح محارب لا تعرف الهزيمة. الذي لم ييأس في الحروب التي خاضها، بل كانت تجاربه القاسية تقوي عزيمته، حتى وإن آثرت الحروب على حياته الشخصية، وكان يرسم طريقه في الجهاد رغم الخراب الذي خلفته هذه الحروب في حياته.
وحبيبته (سارة ) التي لم تتركه، ولم تيأس من طيلة انتظار زواجهم الموعود الذي كان سيُكلََّل بالنجاح. لكن المجزرة التي ضربت لبنان كانت عائقًا، فقد راح بها عائلتها بأكملها، ولم يبقَ لها سوى رامي.

كان جاد يراقبه، ويرى في ملامحه ما كان يشعر به في شبابه. في تلك اللحظات، وكأن الزمن يعيد نفسه. ذلك الفتى الذي كان يملأه الحماس والظلام في آن واحد، هو نفسه الذي كان يرغب في الانتقام لوطنه، نفس الأمل المكسور والمتناثر بين كُتل الحروب. وكان واثقًا أنه سيكمل الطريق الذي بدأه هو في زمنٍ بعيد.

فكان يوم اجتماعهم لكي تحدد المقاومة خطة جديدة لرد الهجوم العنيف الذي راح ضحيته نصف الشعب في تدمير البنية التحتية للبنان وهز كيانها.

وكانوا في أنسب مكان ليعيد الذكريات من جديد، وهو أحد الأماكن المدمرة في صبرا، حيث الرماد لا يزال يعلو الأرض. نظر جاد إلى رامي وقال بصوتٍ هادئ، لكن ملؤه الحزن العميق:

"هل تعتقد أن أحدًا يستطيع أن ينسى صبرا؟

هذا المكان، بكل الخراب الذي تركته الحرب، يحمل أكثر من مجرد ذكريات. يحمل جزءًا من أرواحنا نحن الذين فقدنا أكثر من وطن. صبرا وشاتيلا هي الحكاية التي لا تنتهي، والحب الذي قتلته الرصاصات."

رمقه بصمت وألم وحسرة في حلقه، واستكمل قائلاً: "أربعة وعشرون عامًا مرّت، وكأنها أمس، لم أنسَ ذكرياتي هنا على جدار صبرا التي حفرت بالدم."

كان رامي يستمع بدهشة وحزن، وهو يرى كيف أن ملامح جاد التي كانت تذرفها دماء الذكريات تغيرت في تلك اللحظة، وكأن جروح الماضي تعود لتضغط على صدره.

فقطع ذلك قائلاً:

"متى ستنفذ الهجوم القادم؟ وما الخطة التالية؟"

فأجابه جاد بحزم:

"اليوم، لا داعي للانتظار. يجب أن يعلموا أننا لم نصمت على قتل ضحايانا، لم نترك ثأرنا، وسنقف لهم بالمرصاد. لقد حضرت الذخائر، واتفقت مع أعضاء الحزب على موعد التحرك والخطة المتبعة."

ارتسمت الحيرة والتعجب على وجه رامي، وقال:

"كيف ذلك؟ وما دوري؟ ولِمَ أتيت إلى هنا لتبلغني؟ لا دور لي في هذه المهمة. كيف أسترد ثأري؟ وماذا عن عائلة خطيبتي التي لم تجف دموعها حتى الآن؟"

قاطعه جاد بشده "لا دور لك سوى حمايتهم، وحماية أرض لبنان. أنت كابني يا رامي. ستصبح رئيس الحزب مستقبلاً، ولا أريد أن أضحي بك. لا أريد أن أذوق الحسرة مرتين. أرجوك، افهم المهمة التي ستُنفذ. سأكون أنا على رأسها، وأنت ستكمل ما بدأته، وتحمل الراية من بعدي في محاربة وتحرير أرضنا."

قال رامي، وقد امتلأ قلبه بالثورة:

"ليس لدي حياة من دون الانتقام. كيف تقول لي ذلك؟ هل ستجد الراحة إن تركت ثأر شعبنا؟ لن أتزوج، ولن أعيش حياة رفاهية على دم ضحايا بلدنا."

كان جاد حاسمًا في قراره، لم يتغير شيء.

رد رامي بعزم، وقال:

"سأكون مكانك. لن أبقى ساكنًا، وسأذهب مع المقاومة لتنفيذ العملية المتفق عليها."

الساعة الثامنة مساءً، كان صوت المدافع يعصف في الأفق، وأصوات القتال تملأ المكان. صوت الرصاص يعلو، ويدوي في كل مكان. أثناء الاشتباك، أصيب جاد في ساقه، وكاد أن يُقتل لولا تدخل رامي وقتله لأحد الجنود. نظر إليه بحزن، لكنه لم يسمح له أن يستكمل حديثه، فحمله وسلكوا طريقًا بعيدًا عنهم. لكنهم لم يتركوا المقاومة، حتى يقضوا عليها، فهي نقطة ضعفهم، ولاحقوهم بوحشية لينتقموا.

كاد أن يصيب رامي، لكن جاد كان سباقًا. قذفه بعيدًا ليفديه بحياته. ما كانت إلا ثوانٍ معدودة، وشريط ذكريات يمر أمامه، وأخرج أجندته السوداء الملطخة بدمائه، وأعطاها في يد رامي قائلاً له آخر كلماته:

"اهرب من هنا، هذه وصيتي وحكايتي التي كنت تريد أن تعرفها من زمن. اهرب، احمى سارة وأسس حياتك، حارب، قاوم. لا تترك حربك، لكن فكر بحزم، أسرع."

تحرك رامي وعينيه مليئة بالدموع، لم يكن يريد أن يترك معلمه. لكن أعضاء المقاومة انتشلوه ليهربوا بعيدًا. أما جاد، فقد كانت الطلقات النارية تتساقط عليه كحقل تدريب. لم يعلموا أن روحه غمضت في الطلقة الأولى.

وصية جاد"

انتشرت أحزان الماضي كالدخان في زوايا من ذكرياته، تحمل في طياتها هزائم لا تُنسى. كانت الأجندة السوداء التي أمسك بها رامي تبكي لصاحبها، وكأنها تهمس له أنفاسه الأخيرة. التقطها وغصة تخنقه، تحمل في صفحاتها شظايا الذكريات المدمرة فتحها ليفتش بها عن حقيقة معلمه وأباه الروحي، فوجد سطورًا من الألم مكتوبة بحروف من دماء.

بدأت الحكاية من طفولته في منطقة الفاكهاني، غرب بيروت عام 1970. ويحكي عن شقاوته وزياراته المتكررة لمخيمات الفلسطينيين في صبرا، حيث تعرّف على الطفلة ذات الضفائر الذهبية، "إلين"، التي أحبها من النظرة الأولى. كانت لقاءاته بها تتجدد كل يوم جمعة مع أسرته، حين يزورون المخيمات للدعم والمؤازرة، فصارت عائلتها بمثابة عائلته الثانية.
كان رامي يقلب صفحاتها وفضوله يسبقه عنهم...

كبرت إلين، وازداد جمالها، لكن عينها لم ترَ سوى جاد، الشاب العفوي الذي لا يرمش حين ينظر إليها. حبها كان شرارته الأولى، وكانت شجرة في صبرا التي دُمّرت شاهدة عليهما، محفور على جذعها: "جاد وإلين للأبد". قطعا وعدًا ألا يفرقهما شيء، وأن يعودا لبعض مهما طالت الغيبة.

تقدم جاد لخطبتها، وأقاموا حفلًا فلسطينيًا-لبنانيًا يعبق بنكهة الفرح والدبكة والأنوار المتلألئة. على أضواء القمر الظالمة، لكن بعد شهور، بدأت تهديدات العدو الصهيوني تتصاعد، فقرر جاد أن يُعجّل بالزواج، لكي يحميها وتبقى معه للأبد، واختار يوم 16 سبتمبر 1982 موعدًا لبدء حياة جديدة.

وفي يوم التحضير للبيت الصغير، اقتحمت ميليشيات مجهولة الحي الغربي. قتلوا من اعترضهم، وانتشرت الفوضى. والرصاص أصبح يحيطهم. رغم ذلك، تجاهل جاد تحذيرات أسرته، وخرج مسرعًا للاطمئنان على إلين. كان قلبه يسبقه، وهاجسه يُطارده، يقود سيارة صديقه كالمجنون وسط الرصاص والصراخ.

لكنه تأخر... تأخر كثيرًا.

ترك السيارة وركض وسط الجثث وأصوات الرصاص تحاوطه. أطفال، نساء، شيوخ، بلا ملامح، بلا ثياب... القتل كان مهينًا، والاغتصاب أشدّ قسوة. دماء المخيم تجرعتها الأرض، وحولته إلى جحيم صامت. دُمّرت مخيمات صبرا وشاتيلا، وهُتكت أرواح أطفال فلسطين الطاهرة.

ظل يبحث عنها، يصيح كالمجنون:

"إلين! إلين! أين انتِ ؟!"

حتى وجدها... عند طرف المخيم، ملقاة، ممزقة، غارقة في الدماء.

كانت الضفائر التي أحبها طفلاً مُقطعة، وثوبها الفلسطيني دنّسته بالخيانة. حبيبة قلبه، ورفيقة عمره، اغتُصبت ثم ذُبحت، وكأنها أضحية في عيد الشيطان.

صرخ صرخة مزقت صمت السماء.

جثا أرضًا، احتضنها، وغطاها بثيابه، والدماء تمتزج بينهما. قُتلت حبيبته على يد أنجاس عصابات مافيا يدعي كيان صهيوني.
خرجت منه صرخة قهر كادت أن تُسمع لبنان بأكملها كيف ماتت حب طفولته.

بكى كما لم يبكِ رجل من قبل.

انهارت روحه، وانهار معها العالم.

أُصيب بطلقة في كتفه، لكنه لم يشعر. أُغمي عليه، ولم يستفق إلا على صوت صديقه يبكي جواره.
وجد نفسه في غيبوبة طويلة يعي ما يحدث بها، أُصيب بصدمة أسكتت الكلام، وشلت حركته. أصبح مغيّبًا في عالم النسيان.

لكنه حين تذكّر ثأره، اشتعل داخله الغضب. نهض من مضجعه كوحش جريح، وأقسم:

"سأنتقم. سأقتل من دمروا الحلم، وخانوا المخيم، وقتلوا الأبرياء."

أسّس حزبًا، وقاد مقاومة، ونفّذ عمليات ضد الاحتلال، لكن قلبه لم يهدأ، ولم يشعر يومًا أن انتقامه اكتمل.

أنهى رامي قراءة المذكرة، ودموعه تختلط بالوجع.

عرف الآن سرّ حزن جاد، ولماذا ظل وحيدًا، ولم يتزوج، ولم ينسَ. وتذكّر وصيته الأخيرة:

"احمِ ارضنا."

تزوج.

ابنِ جيلًا يسعى للثأر. لا تترك حبك... ولا تترك حربك."

المقاومة لا تموت والدم لا يجف. والوعد لا يُنسى.

دفن جثة جاد ومذكراته معه، وحبه الذي وعد بمقابلته حتى بعد موته، مع وعد رامي بتكملة مسيرته وثأره وزواجه أيضًا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى