الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد السعيد جمعة

عودة عاصم

لم أشعر بأي دهشة عندما رأيته، فلقد اعتدت في الأيام الأخيرة على حدوث أشياء لا يستوعبها العقل خصوصاً بعد أن انزاح الاحتلال عن بلادنا؛ إنه صديقي الحميم "عاصم " الذي استشُهِد أثناء معركة طوفان الأقصى..

لقد نشأنا معاً في حي الشجاعية، ودرجنا معاً منذ أيام الصبا بين رجالٍ نذروا أرواحهم فداءً لوطنهم الغالي
كنت عائداً إلى بيتي بعد منتصف الليل فرأيته واقفاً أمام مدخل حارتنا كعادته قبل أن يموت، كان مبتسماً عندما ألقيت بنفسي بين أحضانه وسألته:

طمني عن حالك وأخبارك بعد الموت" ضحك بسخرية كعادته وهو يقول:

حالي الآن أحسن من حال من قتلني..

صديقي الحميم "عاصم "استشُهِد أمام مجمع الشفاء الطبي قبل التحرير بثلاثة أعوام، سألته عن حادث استشهاده؛ فأجابني بأسلوبه الساخر الذي لم يغيره انتقاله إلى العالم الآخر:

كان يوم جميل يا صاحبي.. أقدر أقول أجمل يوم في حياتي، كنت واحداً من أفراد المقاومة المكلفين بالتصدي لجنود الاحتلال أمام مجمع الشفاء وفجأة سمعت دوي الطلقات، وسمعت صراخاً و صياحاً هنا وهناك، كل ما أذكره الآن ذلك الإحساس الجميل لحظة اختراق الطلقة لرأسي، لا أجد كلمات أصف بها ما شعرُتُ به لحظة موتي، سمعت أصواتاً عذبة تشبه تجويد القرآن الكريم و رأيت مناظر لا تصورها الكلمات..

قلت له:

لقد رأيناك يا صديقي بعد إصابتك، لقد اخترقت الطلقة رأسك، وغطى الدم وجهك، كان المشهد مؤسفاً وبشعاً، ورغم ذلك كنت مبتسماً..

_علامَ كنت تبتسم بالله عليك؟

قال:

_ألا أبتسم وأنا أرى مكاني في الجنة؟ وبسخريته المعتادة وضع كفه الأيمن على رأسه وهمس في أذني:

_ها هي رأسي سليمة؛ ثم ضحكْتْ قسماُتُ وجهه وهو يقول:

_لقد رأيتم المشهد المادي الظاهري مشهد الجسد الفاني بعد أن تلقى طلقة في الرأس، ولكنكم لم تشعروا مثلي بالسمو الروحاني لحظة ارتقاء الروح؛ سألته:

_هل رأيت من قتلك..؟.. قال:

لم أره، ولكن يوم الحساب سأقف أنا وهو أمام الله لا محالة؛ كلانا كان حريص اً على قتل الآخر.. أنا دفاعاً عن أهلي ووطني وهو ترسيخاً لاحتلال وحشي؛ كل ما أستطيع أن أقوله الآن أن الله جعله سبباً في ذلك النعيم الذي أعيشه.. ولو قابلته صدفة قبل أن يقُذَفَ به في جهنم سأشكره على ذلك؛ قلت له _ هنيئاً لك بالجنة يا صاحبي .. لمحت نوراً ربانياً يأتلق على وجهه وهو يهمس بصوته الندي:

_"الحمد لله"..

قلت له:

 فتحي السرجاني "يحمّلك سبب الموت والدمار الذي لحق بأهلينا في غزة؛ يقول للناس إن الله لن يمنحك أجر شهيد؛ لأنك بادرت بالاعتداء "يوم السابع من أكتوبر" ولولا ذلك ما حدث علينا اعتداء..!

وبسخريته التلقائية التي اعتدتها منه قبل وفاته قال:

 اعتداء؟؟!!.. هل الدفاع عن الحق والأرض والعرض في نظره اعتداء؟، ثم ما دخل السرجاني وأمثاله بأسياده رجال المقاومة ؟؟..

يعلم الله أننا قمنا بواجبنا لتطهير أرضنا ممن أغتصبها.. وها أنتم اليوم تتنفسون هواءً نقياً وتنعمون بحياتكم في ربوع الوطن؛ فهل يسأل السرجاني نفسه من الذي قهر الاحتلال وحرر الديار؟ ؛ والله ما أدّعي فضلاً، ولكن الله جعلنا سبباً في زوال الاحتلال البغيض..

يا لها من لحظات عظيمة استعدُتُ فيها ذكريات غالية جمعتني بعاصم أيام الكفاح، وأثناء حديثي المتصل معه مرّ علينا واحد من اليهود الذين آثروا البقاء في فلسطين بعد زوال الاحتلال، وسمحنا له بالبقاء بعد توسلٍ إشفاقاً على حاله؛ فهو رجل مُسن يمشي على "عكازين" ندعوه "ابن شمعون" اسمه في بطاقة الهوية الفلسطينية: "أنيس مراد شمعون"، وصفته _ لاجئ من يهود ٢٤ _ عندما مرّ علينا؛ وقف ينظر في دهشة ثم قال لي:

 ماذا دهاك؟ ..أتكُلّمُ نفسك"؟ تظاهرت بالابتسام و أشرت له بذراعي حتى يتركنا ويمضي، ثم قلت في سري على طريقة صديقي "عاصم": و ما دخلك يا "ابن شمعون" إن كنت أكلّم نفسي أو أكلّم صديقي الشهيد"!

وقبل أن يتركني "عاصم "ويعود إلى حياته في الآخرة سألته:

 كيف تسير الحياة هناك في الآخرة؛ فأشرق وجهه بابتسامة الرضا وهو يقول: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت"، سألته:

 "ما رأيك يا صديقي بصفتك جرّبت الموت: هل تنصحني بأن أموت، أم أظل بين الأحياء أفضل ؟"..

وبصوته الهامس الذي يمس شغاف القلب قال لي:

ابق على حالك بين الأحياء، دافع عن وطنك، انعم بحريتك، استمتع بصلاتك في المسجد الأقصى، ولكن، كن حذر اً ولا تثق "بالسرجاني" ولا "ابن شمعون"؛ فهما وجهان لعملة واحدة؛ اقتربت منه لأضمه إلى صدري فلم أجده؛ يبدو أنني انشغلت عنه لحظة بسبب فضول "ابن شمعون "الذي يشير إليَّ من بعيد وهو يقهقه قائلاً:

مجنون، إنه يكلم نفسه..

تركني عاصم وعاد إلى الآخرة قبل أن أودعه؛ تألمت كثيراً وسهرت حتى الصباح أسترجع ذكرياٍتٍ غالية جمعتنا؛ كنت أتمنى أن أحُدّثه عن طموحاتي المستقبلية بعد الموت؛ ولكنه تركني ورحل !..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى