غزة تحت البروق

في هذا الصباح الشتوي حينما أجلس لأتناول وجبة فطوري وقبل أن أضع تلك اللقمة التي تسند عضدي من أجل بداية يوم حافل بالعمل وضغوطاته، أستشعر أهل غزة بأطفالها ونسائها ورجالها بكُلِّها دون تجزيء، كيف يلتقمون الجوع والبرد والعطش كيف يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، كيف لصحن يمتلأ بدموع صاحبه وهو في طابور الانتظار من أجل لقمة لا تسد رمق جوع عائلته قبل جوعه أن يصمد أمام معدة فارغة كل هذا الوقت. يمر هذا الشريط الدائم أمامي يوميا وأنا في غزة حاضرة روحا لا جسدا.

أطوف في زوايا بيتي، وعقلي شارد هناك، حينما أستعد للخروج لعملي ألبس ثيابي التي تقيني برد الشتاء ثم أشعر بقشعريرة تهز أوصالي الدافئة حين أتذكر أهل غزة في هذا الشتاء القارس الذي ينهش عظامهم ولا يحتمون سوى برحمة الله، يذهب عقلي إلى أبعد من ذلك تحت تلك البيوت المهدمة فأرى الجثث مبعثرة هنا وهناك بعدما كانت ماسكة بأحلامها في الحياة تبدأ يومها بلمة العائلة على وجبة الفطور وضحكات أطفالها تتسربل عبر نوافذ البيوت تنشر عبق البراءة في كل الحي، كل يستعد لما هو منوط به من مهمة في دورة الحياة، كل هذا ذهب أدراج الرياح.

وأنا أمام مرآتي أتعطر، أتذكر نساء غزة وقد هُشمت كل قوارير عطرهن تحت ركام الحرب، ثيابهن عالقة في الهياكل الخرسانية، لُعَب الأطفال متطايرة الأطراف هنا وهناك مثلها مثل أطراف الأطفال لا فرق، بل أرى أبشع من ذلك، عيون بكاملها تدحرجت من على درج البيت وأصابعُ يد نصفها عالق تحت باب البيت والنصف الآخر ينز بالدم تحت الأحجار، الصراخ يشق غبار الصمت ورائحة الدم والموت يملأن المكان.

أبشع صور الموت ما رأيت في غزة: الحرق حيا كما تحرق الحرارة المفرطة الحطب، أكفان من ثياب ولحم، أطراف جزت من أصحابها هاربة من الموت على الأرصفة والجدران، معلقة كآخر تميمة تكتب الموت بالدم.

عجزة وشيوخ عُراة في الهواء الطلق بعد أن جردهم المحتل من كل ما يسترهم، يلتحفون الصقيع تارة والشمس أخرى، وحذاء أقدام العابرين من النزوح بقايا قوارير خيطا وغطاء علبة، وأرجل تآكلت على صفيح ساخن من التراب الملتهب.
مشاهد غزة ورفح ودير والبلح وجباليا وغيرها ليست مشاهد من فيلم رعب بل هي الرعب الذي سطره المحتل وتفنن في إخراجه لهذا العالم الأصم الأخرس إلا من الفرجة.

تتثاقل قدماي في المضي قدما نحو عملي وأنا أحمل على كاهلي غزة وجباليا وجنين ورفح وغيرها من مدن فلسطين، لا أستطيع استنشاق الهواء الرطب بعدما امتلأت رئتي برائحة جثثهم وكياني كله يحمل صورهم وآمالهم وأحلامهم، مكبلة اليدين أنا كغيري كثير إلا من الدعاء والدعاء والبحث المستمر عن حلول هي واهية في عالمي الصغير، أنفث غيظي مما يحدث هناك نارا تحرق من حولي، لكن هذا النفث لا يريحني، بل يتبعه صراخ عقيم، لكن، دون جدوى.

كل لحظة، أعيش غزة أتقمص أهلها الذين يأملون في ليلهم ونهارهم وأنا معهم أن ينتهي هذا الكابوس ويزول، أن يندحر هذا المحتل عن أراضيهم. يعتريني أمل في غد دون قصف تحت البروق دون صواريخ تخترق الأرض بأزيزها الذي يصم الآذان ويسطر تهديدا بنهاية حياة.

خنقتني العبرات وشهقات صراخي المتسائل كيف ننعم بحياتنا وإخوة لنا هناك تُشوى أجسادهم على أسياخ الخذلان؟؟، وأنَّى لهذه "الغزة" هذا الصمود والشموخ والكبرياء الممشوق، أنّى لها تحارب وحيدة بإيمان وثبات شامخة عصية عن الانكسار؟، من أين لهذا الشعب الذي قدم نفسه قُربانا عن أمة نائمة متخاذلة كل هذا العزم؟.