

غصن زيتون
يقف على ناصية واقعه الأليم، يكفكف دموعه بكمه المثقوب المتسخ، ويربت على قلبه الموجوع الذي يعتصر ألمًا، متسمرًا في مكانه وعيناه تتحركان بحركة عشوائية قلقة، لم يبلغ أشده بعد، يشاهد فيلمًا مرعبًا على المباشر، يشهد على ملحمة ثورية تُسطر بالدماء، وما زاد نبضات قلبه حدةً، واتساع بؤبؤي عينيه اتساعًا حين رأى بطل الفيلم، فإذا به والده هو البطل، فأخذ يتابع حركاته من بعيد، وقلبه على قلب أبيه الذي كان يرقص رقصة الموت لا الباليه بزيّه العسكري على أنغام الرشاش المُدوية، خفيفًا كالريشة في تنقله من مكان لآخر بين الأنقاض المتراكمة، دقيقًا في تصويبه، ترتسم على ملامحه آثار معركة دامية يخوض غمارها رفقة أصدقائه الأبطال، وفي غفلة يوسف وهو مُتسمر في مكانه يشاهد بصمت مذهولًا، قطعت صرخة أبيه غفلته، وهزت كيانه بعنف، حين سمعه يُكبِّر بصوت عال: «الله أكبر، الله أكبر»، يراه يسقط، هوى جسده كعمود شامخ على الأرض، محدثًا بذلك هزة عنيفة في قلبه الفتيّ، نالت منه رصاصة غادرة استقرت في صدره، حرر هذا المشهد يوسف من سجنه الفكري وفك قيود أطرافه المشلولة، لينطلق دون وعي منه وسط أحداث الفيلم الذي لا يزال قائمًا، اندفع بكل جوارحه، بكل خوف وتصميم نحو أبيه، وبين سقوط ونهوض، وبين أملٍ وخيبةٍ قاتلة، بعد مسافة قصيرة المدى، طويلة الأنفاس المتقطعة، متصادمة الأفكار والمشاعر في رأسه الصغير، تسبق دموعه خطواته المتعثرة، وصل أخيرًا إليه، لم تحمله رِجلاه كثيرًا، وجثا على ركبتيه المرتجفتين، ورفع رأس أبيه ووضعه في حضنه الدافئ للمرة الأخيرة، وصرخ صرخة تَصُّم آذان الإنس والجان: أبي... أبي...
تتحرك شفاه والده مرتلة ترانيم الشهادة بصوت خافت، ثم يتبعها بتمتمة تحمل بين طياتها توصيات أخيرة مُقتضبة، يكلمه كطفل صغير لا يعرف لنطق الكلمات حروفًا واضحة، يوصيه وصية لقمان لابنه الحبيب، فأورثه غزة وفلسطين، كما أضاف في وصيته غصن الزيتون رمز السلام والصمود، ينظر إلى يوسف بكل أمل، بكل فخر يفيض من عينيه الذابلتين، وعيناه تنغلقان ببطء شديد لا يقوى على فتحهما مرة أخرى إلى الأبد. ثقل رأسه في حضن يوسف بعدما تسربت الروح من جسده معلنة عن انتهاء أجله في هذه الحياة الدنيا الفانية.
ليعيد يوسف صرخته التي صمت آذان الإنس والجان حزنًا ولوعةً، واحتضن جسد والده للمرة الأخيرة وهو يبكي غير مبالٍ لما يحدث حوله من تصادم بين العدو والمقاومة الشرسة، فقطع خلوته الروحية جندي إسرائيلي غليظ القلب، وفصل جسده عن جسد أبيه بعنف وهمجية، ودفع به بعيدًا، لكن يوسف لم يرضَ بالبعد عن دفء أبيه فنهض وأسرع للجثة يحتضنها مرة أخرى، فركله الجندي بكل قوة وسأله عن هويته وعن علاقته بالشخص الميت أمامه وعن المقاومة بتهديد ووعيد، كثرت أسئلته، ولكن يوسف صام عن الأجوبة إباءً وشموخًا، فأعاد الجندي سؤاله بنبرة أشد حدة ومستهزءا بهوية الفتى، نهض يوسف من مكانه وهو مُكشِّر عن أنيابه الصغيرة وعيناه تفيض عزما وتحدي، وأجابه بصوت يملؤه العزة: أنا غصن زيتون، غصن زيتون لا ينثني، عصيّ لا يُكسر، وطريّ لا يُعصر، أنا ابن أبي، ابن فلسطين الأبية، أنا زهر ينبت من رماد شهداء ذرته الذاريات، أنا مقدسي الهوى والأقصى قضيتي الأزلية.
ركله الجندي حتى كاد يُغمى عليه وأخبره أنه مجرد مجنون لا غير، وسارق كالبقية، وأن الأرض إسرائيلية منذ أن خلقها الله في زعمه الباطل، وأنها أرض الميعاد أرض الآباء والأجداد، وستعود لهم قريبًا في أحلامهم المريضة، كما وصفه بأنه وأبوه وشعبه ما هم إلا عبيد من عبيدهم الضعفاء في نظرهم الدنيء.
هنا استشاط يوسف غضبًا كالبركان الثائر، وكان قد أخذ سكينًا من حزام أبيه حين ركله الجندي في المرة الأخيرة، وفي غفلة النشوة التي سرت في دمِ الجندي المنتصر ظاهريًا، طعنه الفتى في بطنه بكل ما أوتي من القوة الغاضبة، وقبل أن يسقط الجندي أرضًا ضرب يوسف برشاشه على رأسه فأُغمي عليه وسقط صريعًا، وبعد ساعات من انتهاء المعركة الضارية أفاق يوسف من غيبوبته البطيئة، نهض فنفض الغبار عن جسده الصغير، نظر يمينًا وشمالًا، لم يجد سوى شيخ طاعن في السن يجلس بمقربة منه وحيدًا، فسأله عن جثة أبيه التي لم يجدها في مكانها، فرد الشيخ بأن لا أحد سواهم بقي على قيد الحياة، فحمل يوسف سلاح أبيه الذي وجده بين الأنقاض ولم ينتبهوا له في غمرة الفوضى، كما لمح غصن زيتون على الأرض حيث كانت جثة أبيه، وكأن الجثة تحولت لغصن زيتون مُبارك، فحمله بيده اليمنى، وبدأ يمشي وسط الركام متثاقل الخطى والحزن يخيم على كتفيه، والشيخ يتبعه بصمت ووجوم، فجأة رُفع صوت الأذان من مسجد ليس ببعيد عن مكان المعركة المدمرة، توقف يوسف ورفع رأسه للسماء ينصت جيدًا، وعندما انتهى قال بقلب دامع: لمن يُرفع الأذان؟ والأجساد والآذان تحت الركام، لمن يُرفع الأذان؟
فرد الشيخ عليه قائلًا بصوت هادئ: يُرفع الأذان على الإنس والجان، يُرفع ليَرفع كلمة الحق عاليًا، ليذكرنا بقضيتنا العادلة، ليغسل قلوبنا من الآثام والأحقاد، ليذكرنا بحلم من الأحلام البعيدة، بفلسطين الأبية الحرة.
إن فلسطين كيوسف، خانها إخوتها وتركوها للذئاب البشرية، لبني صهيون يتقاسمون خيراتها ونهبوا أرضها، لكننا لن نتخلى عنها، سنفديها بالنفس والنفيس وبكل غالٍ ورخيص.
وبعد مسيرة بين الخراب الذي سببه العدوان الغاشم، توقف يوسف وهو يتأمل المنظر المفجع ويتحسر على ما آلت إليه الأوضاع المأساوية.
تفقد غصن الزيتون الذي يحمله بيده اليمنى، ثم سلاحه الذي بيده اليسرى وحملهما عاليًا، وأردف يقول بعزم وإصرار: أحمل السلام والحرب في يديّ هاتين، فإن أرادوا السلام أسقطنا السلاح وغرسنا الزيتون، وإن أرادوا الحرب حملنا السلاح وغرسنا الزيتون أيضًا، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي فإنه رمز وجودنا.
ثم تنهد بصوت عال وقال بمرارة: يبدو أنهم أسقطوا الغصن الأخضر من يدي لكنهم لن يقتلعوا جذوره من قلبي.
نزل على ركبتيه، وحفر حفرة صغيرة بيديه المُرتعشتين، وغرس غصن الزيتون في التراب المُلطخ بالدماء، ثم نهض وحمل رشاشه عاليًا وهتف يردد بصوت يجلجل: ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، فداكِ يا فلسطين الأبية.