الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم حلا أحمد الزيناتي

غيمةٌ خاوية

اصطدمتُ بجسمٍ ما، سقطتُ أرضًا! وجدتُ نفسي أنظر لذلك الغول الضخم المرعب، الذي يحدّق بي بعينين حمراوين، وفم كبير يتسع لأكل عشرات من أطباق البطاطا المقلية مرة واحدة! كان يحمل بيده دبّابة، ينبعث منها لونٌ أحمر قانٍ، كانت كبيرة هي أيضًا، ففتح بابها بأصابعه وأشار إليّ بالاقتراب… فهربت، وبدأ هو اللحاق بي!

فتحتُ عينيّ، كنتُ خائفًا، والأصوات المزعجة الحادة تحيط بي، لكني في الخيمة، أنا أعرف أين أكون! أزحتُ اللحاف الأزرق الذي أحضرته ماما لأجلي من البيت، استغنت عن حمل حقيبة مستحضرات التجميل الخاصة بها حين نزحنا من بيتنا، لكي تحمل هذا اللحاف الثقيل والمفضل لي. أمي تعرف بأني أحب اللون الأزرق، ولا أرتاح لبقية الألوان، أكره الأسود، وأخاف الأحمر، ودائمًا ما كانت تصحبني إلى البحر، وتتغيب كثيرًا عن عملها بعد أن تعتذر من المديرة صاحبة الوجه المخيف، كانت تفعل ذلك طوال الأسبوع، وحين يكون الجو باردًا تأخذني إلى المتنزه، لألعب لوقت طويل وهي تراقبني كأنها ظلّي، ونشاهد الغيوم معًا.

أمسكتُ بدمية بطلي الخارق، “Captain America”، الذي استقرّ طوال الليل بجانب رأسي، يلبس بِزّته الزرقاء وقناعه الأزرق، ويمسك بدرعه الكبير! لم أفهم لمَ لم يحمِني البطل الأزرق من الكابوس المخيف، والدبابة والغول ذا العينين الحمراوين، لقد خانَ البطل وعده في حماية الأبرياء!

نظرتُ إلى اسمي المكتوب على ظهر البطل، كتبته أمي منذ تلك الليلة التي اشترته لي فيها، لم تكن ليلة ميلادي، فنحن لم نضِئ الشمعات وقتها، أذكر أننا كنا عائدين من موعد عند عيادة الطبيب، كان الطبيب طويل القامة ولديه شامة في جانب وجهه الأيمن، كانت أمي تبكي وهي تتكلم معه، وكان لا يتفاعل معها، بل تنِدّ عنه ابتسامة غريبة، وثرثرة لا معنى لها. حينها لم أرغب في معاودة زيارته، لأن والدتي صارت تعيسًة بعدها! وفي طريق عودتنا من العيادة، أخذتني أمي إلى متجر ألعابٍ كبير، يكاد يكون أكبر متجر رأيته في حياتي!

ومن رفّ الأبطال الخارقين، رأيتُ الكابتن، فأخذته سريعًا. وقتها شعرتُ بأني أسعد طفلٍ على وجه الأرض، لأني وجدتُ بطلًا قويًا سيحميني! كان العشاء في تلك الليلة طبقًا كبيرًا من البطاطا المقلية، وصلصة الكاتشب، كما واشترينا كيسًا من أقراص الفلافل، من محلٍ صغير يحتشد الناس أمامه، وكانت رائحته دافئة وزكية!

دخلتُ خيمة السيدة مريم، هي تبدو في عمر جدتي، لكنها تملك شعرًا أشقرًا وعينين زرقاوين جميلتين، كانت تعيش في الخيمة المجاورة، مع ابنها إبراهيم وزوجته، ولطالما زارت والدتي في خيمتنا، فتعرّفنَ على بعضهن، وسرعان ما صارت السيدة مريم تزورنا من يوم لآخر لتطمئن عليّ، وتشتري لي أي شيء تقابله في طريقها في السوق، كالكنزات، والألعاب، والحلويات.

حالما رأتني، ابتسمت لي واقتربت مني، أخذت بيدي وقادتني إلى مكان ظليل لا تسطو عليه أشعة الشّمس، فهي لا تستطيع أن تفتح عينيها حيثما تكون الشمس، وسرعان ما تصطبغ بشرتها باللون الأحمر فتبدو مرعبة! سألتني عمّا أريد، فأجبتها:

“أريد أن أذهب لمكانٍ، ليس بعيدًا. الأولاد ذهبوا ليأخذوا حصة من الطعام، أنفي يشُمّ الرائحة! أعطِني إناء، أريد أن أذهب وآخذ حِصتي!”

كان سيل الأطفال ما زال مستمرًا حيث ازدحم بهم الزقاق بين الخيام. قالت السيدة مريم:

“اختر الطّبق الذي تريد.”

وقد أشارت إلى مطبخها الصغير. تناولتُ إناء ألمنيوم، كان مُهمَلًا على الأرض جانبًا، وأريتها ما اخترتُ. فوجئت زوجة ابنها، وقالت:

“لكن هذا الإناء غير صالح للاستعمال، انظر إليه، لم يعد مدوّرًا، لقد استخرجناه من تحت ركام بيتنا! دعني أعطيك واحدًا آخر!”

لكني تمسّكتُ بالصحن الذي نال منه الدمار! جاءت السيدة مريم، فسألتني بهدوء:

“ماذا يعجبك به؟”

“لأنه غيمة، أحب الغيوم!” أجبتها، فتناولته مني وشرعت بغسله جيدًا، وأعطتني إياه بعدما طلبت مني أن أنتظرها لكي ترافقني، فأمي المنهمكة بالغسيل تطمئن لوجودي معها.

حملت إنائي، وتبعتُ الأولاد والفتيات إلى مكان توزيع الطعام، أستنشقُ رائحة الطعام الشهيّ الذي سيوضَع في إناء الغيمة. كان الأولاد يحملون أوانٍ من كلّ الأحجام والأنواع، يهرولون كأن وراءنا غولٌ بعينين حمراوين، يحمل دبّابة، يلاحقنا!
تمكّن مني اللهاث والسعال، حين لاح لي حشد الأطفال. توقفتُ وما زال سيل الأولاد يندفع ورائي، ولم يتوقفوا قط.

وجدتني أغرقُ أنا وإنائي وسط الازدحام، وقتها حاولتُ بما يسعني من قوة أن أتدافع مع هذا الحشد الضخم، حتى أوشكتُ على وصول وعاء الطعام الكبير، الذي يقف وراءه بعض الشباب يسكبون الشوربة في الأوعية والأواني. رفعتُ إنائي إلى الأعلى، وصرختُ دون أن أفكر:

“أنا ابن الحلاق في مخيم الشاطئ… الكل يعرفه ويحبّه!”

كنت واثقًا أن والدي رجل معروف، ربما سيعرفه الطباخ، ولن يجعلني أعود خاويًا. لكن صوتي ضاع في الزحام، ولم يلتفت إليّ أحد!

حاولتُ أن أسحب ذراعي من الأعلى، لكي أرى الغيمة ممتلئة بالشوربة زكية الرائحة، لكني لم أفلح. علِقت يدي، وبدتْ محاولاتي مستميتة. سأعود بلا ذراع، ولا حتى إناء! لكني لا أذكر الطريق، أين بطلي الخارق؟ لمَ لا يجيء وينقذني، أو يسحبني من هذا الازدحام ويحميني بدرعه الأزرق الكبير؟

بدأت أنفاسي تضيق، رأسي عالق بين حشد الأبدان التي تحيط بي، ويكاد ينفجر من حدة الضجيج! وفجأة، وجدتُ نفسي خارج ذلك الاحتشاد. لا أعرف كيف حدث ذلك، لكني نظرتُ حولي، فرأيتُ مجموعة من الفتيان يكبرونني بثلاث سنوات، لقد انتشلوني من الموت.

هتف أحدهم: “يا ولد! ألن تقول شكرًا؟ لقد أنقذناك من الموت!”

قال ذلك وهو يمدّ إليّ الغيمة… لكنها كانت خاوية! لم يبقَ فيها شيء، لا شوربة، ولا حتى بقايا. شعرتُ أن قلبي تفتّت في ذلك الزحام، وأني شمعة ذائبة وسط النار.

وضع الفتى الغيمة أمامي على الأرض، وذهب دون أن يعير صمتي انتباهًا. كانت الغيمة وحيدة وخاوية في مكانٍ غريب، كان كلانا خائفين، فضممتها إلى صدري وأجهشت بالبكاء.

حينها فقط، عرفتُ بأني صبيٌ مصابٌ بالطيف، لا يبقى بحوزته أي شيء يحميه. مصاب بالطيف، فأنا ضعيف وعاجز دائمًا، ولا يراني أو يسمعني أحد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى