الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم صفاء دومة

فتاة الرُمَّان

على مصطبة الدار، حيث الظلال الوفيرة التي تمتزج مع شذى الزهور، تجلس رِهام ذات العشر سنوات مع أمها أمام المنزل، تدندن أغنياتها المفضلة بصوت عذب كقطعة السكر، بينما تضفر أمها شعرها وهي ترقيها بصمت لجماله ونعومته، ثم تضع فيونكة بيضاء تُزين ضفيرتها وتربت على ظهرها مرتين بلطف كعلامة على الانتهاء، تنهض وهي فرحة تلعب بضفيرتها الطويلة وتدور في مكانها فيتطاير فستانها الوردي القصير مع حركاتها ويداعب الهواء من حولها، تتطاير كفراشة بين أغصان الزيتون التي تترنح في الريح، وتنطلق ضحكاتها الرنانة فتملأ المكان بهجةً وسعادة.

تُغمض عينيها، تُبطيء من دورانها تدريجيًا حتى تكاد تتوقف، فتسمع زقزقة العصافير كأنها تناجيها بألحانها، وتستشعر الهواء العليل، بينما تنشر الشمس أشعتها الذهبية على الشجر، فتتخلله وصولًا لليابسة، ناشرًةً ظلالًا دفيئة وأجواءً رائعة.

تجلس أمها بعباءتها المُزينة بشرائط ذات نقوش تراثية رائعة تمتزج ألوانها بين الأسود كالليل والأبيض كالثلج والأخضر كالزيتون مع القليل من اللون الأحمر كأنهم ينسجون هُويتهم حتى في ملابسهم، يتمايل حجابها كشراع ناعم مع نسمات الهواء، تعلو وجهها ابتسامة هادئة تمررها بلطف لابنتها، بينما تلتفت لابنها الصغير ذي الخمس سنوات وهو يخرج من باب المنزل حاملًا رُمَّانة في يديه متوجهها لمصطبة الدار ليجلس بجوار أمه.

وفجأة..

ترتجف الأرض تحت أقدامهم فتجري رِهام وأخوها حسن لحضن والدتهم، ويتعكر صفاء السماء فوقهم بعدما غادرتها الطيور، ويرتفع ضجيج اغصان الشجر وهي تهتز بقوة، تتبدل ابتسامة الأم لملامح أكثر توترًا وخوفًا على أبنائها، فتحيطهما بذراعيها وهما يتشبثان بها، وهي تنظر لمصدر الضجيج، بينما يخرج الجميع من منازلهم في قلق وتوتر واضح.

في الأفق تظهر مدافع العدو تسير على أرضهم، يتبعها عدد من الجرافات الآلية، وأمامهم جنود كثيرون يحملون أسلحتهم في تكبر وغرور.

تتشقق الأرض الترابية تحت جنازير المدافع والجرافات وتهتز من قوتها تحت أقدام أصحابها في مشهد مشحون بالتوتر.
يُحيط كل رجل بأفراد عائلته، بينما يتقدم شباب القرية كالسد المنيع أمام نسائهم وأخواتهم وأطفالهم لحمايتهم، يقفون في صمود وثبات، لا يخشون العدو ولا يرتعدون أمام أسلحته، حتى تقدم منهم أحد الجنود وهو يشهر سلاحه في وجههم ويأمرهم بالتحرك للمرور، فيرفض شبان القرية ويسألوهم عن سبب مجيئهم، ولا يجدون إجابة إلا العنف حيث انهال عليهم الجنود بالضرب وصولًا لمنزل أبي عمار.

بدأ الجنود في اقتحام المنزل دون وجه حق لكي يُدخلوا الرعب في نفوس الجميع حولهم، ثم بإشارة إصبع من الضابط الذي يترأسهم، بدأت الجرافات في هدم المنزل وفي تلك الأثناء ارتفع صوت أحد أفراد العدو وهو يتحدث بالعربية الفصحى قارئًا بيانًا جاء فيه تهديدٌ ووعودٌ كاذبة لأهل القرية:

 لن نؤذيكم، فقط اتركوا منازلكم وارحلوا من هنا إلى القرى المجاورة.

بينما تهدم الجرافات جدران منزل أبي عمار خلفه، وتبكي زوجته على منزلها، فيرتفع صوت رجلٍ عجوزٍ بالسُباب واللعنات، وسط بكاء الأطفال، وغضب الرجال.

فتترك رِهام أحضان أمها، وتتقدم ناحية الجنود بثبات، وهي عاقدة ذراعيها، تعلو وجهها علامات الغضب، وتقول بصوت مرتفع في تحدٍ:

 لن نترك منازلنا ولا أراضينا، حتى وإن مزقتم أجسادنا، فهذه الأرض لا تحتمل إلا أقدام أصحابها، وما أنتم إلا دخلاء بغضاء تستبيحون ما ليس لكم، فإما نحن أو نحن حتى وإن تجرعت الأرض دمائنا.

تشهق الأم وهي ترى الضابط يتقدم من ابنتها، شاهرًا بندقيته أمامها، وهو يبتسم نصف ابتسامة ساخرًا من ضآلة حجمها أمام كلماتها، حتى وقف قبالتها مباشرةً، فرفعت رأسها لأعلى دون أن تهتز قيد أنملة، تنظر في عينيه في تحدٍ واضح، أُعجب بنظراتها الشجاعة، ثم مدَّ يده يعبث بضفيرتها وهو يسألها بسخرية رافعًا حاجبه الأيمن ليبث فيها الخوف:

 أراكِ صغيرة على تلك الكلمات! أخبريني، كم عمرك أنتِ؟ سبعة سنوات؟ ثمانية؟
نفضت يديه عنها بقوة، وهي تقول بشجاعتها المعهودة:

 يا لغباء سؤالك! تسأل عن عمري ولا تسأل عن عمر أرضي؟ دعني أخبرك أن شجرة الزيتون الشامخة خلفك ببضعة أمتار عمرها أكثر من ألف عام، وأن تلك الرُمانة في يدِ أخي أتت من شجرة تمتد جذورها لمئات الأعوام، حتى أن جدتي التي ذابت قدماها تهجيرًا عمرها فوق الثمانين عام، كل ما حولك عمره أقدم من دولتك المزعومة، فإن أردت أن تعرف عمري فاسأل عن عمر أرضي التي تقف عليها، فنحن منها وإليها.. لا نموت، حتى لو دُفنت أجسادنا بين طياتها، بل نعود مرارًا وتكرارًا حتى نسترد ما لنا.

استفزه حديثها، صفعها فسقطت أرضًا، وارتفع صوته تهديدًا للناس حوله بصوتٍ خشن:

 عليكم بالمغادرة، وإلا دهستكم جنازير جرافاتنا وأسقطتكم مدافعنا، فاليوم الذي تنامون فيه في هذه القرية، ستستيقظون بعده على هدم منزل آخر من منازلكم، وهذا تحذيرنا الأخير.

ثم أدار ظهره للرحيل، وانسحب معه جنوده وآلاتهم التي أتت معهم بعدما تركوا منزل أبي عمار ركامٍ وحطام، فنهضت رِهام عن الأرض وجرت تجاه أخيها الصغير، وأخذت منه رُمَّانته في حركة خاطفة، ثم التقطت حجارة من حطام منزل جارها أبي عمار، شقت بها الرُمَّانة حتى تناثرت بذورها بين يديها الصغيرتين، فرفعت يدها لأعلى بتلك البذور نحو ظهور الجنود المنسحبين، صارخةً:

 اسمع يا هذا، وتلك الحبات شاهدة، كل منزل تهدمونه سأزرع تحت أنقاضه حبة من حبات الرُمَّان، ويومًا ما ستنبت هذه الحبات لتصبح أشجارًا قوية حاملة أسماء أصحاب الأرض التي نبتت فيها، لتذكركم بأننا خالدون مهما حاولتم إبادتنا، حتى لو بقيتم.. فلن نفنى ولن تفنى آثارنا.

ثم انحنت وأخذت تحفر بيديها الصغيرة أرض أبي عمار، ثم وضعت حبات الرُمَّان بها وغطتها بالتراب.

جَرَت تجاهها أمها تحيطها بحضنها بعدما تملكها الخوف على ابنتها من أن يقتلها العدو، وتحيط نساء القرية بزوجة أبي عمار تواسينها، بينما يساعد الرجال والشباب أبا عمار في انتشال ما يخص عائلته من تحت الحطام، في صمت مؤلم، ونظرات صارخة للسماء طلبًا للعون.

تلك الليلة باتت القرية حزينة، يشاركون طعامهم وأشيائهم مع جيرانهم المنكوبين، يفكرون في يومهم التالي وما سيحدث فيه، تنقسم آرائهم حول البقاء في القرية والخروج منها للحفاظ على أرواحهم، تتشتت أفكارهم فيما هو أغلى في التضحية، هل هي أرواحهم أم بيوتهم؟

أشرقت شمس صباح اليوم التالي، خرج الجميع من منازلهم مترقبين خائفين من التهجير، لكن كان اليوم هادئًا، فبعد ساعات من الانتظار اطمأنت قلوبهم، وعادوا لأعمالهم ومتابعة يومهم، على أن حل الليل وحلت معه الصرخات غير المنقطعة من منزل الجار ياسر، هرع الجميع للخارج ليجدوا النيران مشتعلة في العديد من المنازل جوارهم، بينما تندفع الجرافات لهدم البعض الآخر وسط ضحكات العدو المستمرة، قضوا ليلهم في إخماد النيران، مساكين لا تنقطع دموعهم، وقد قرروا النزوح عن قريتهم واللجوء للقرى الأخرى طلبًا للنجاة، فأمس كان منزل أبي عمار، واليوم منزل ياسر، وغدًا ستكون منازلنا جميعًا.

حزموا أمتعتهم، وساروا في الطريق مثقلين بالهموم والأحزان، توقفت رِهام عن سيرها ونظرت خلفها لما تبقى من قريتها، ثم فتحت حقيبتها وألقت ببذور الرُمَّان التي احتفظت بها في الأنحاء، على الأرض، وبين فراغات الحطام، وفي كل رقعة ماء تقابلها أملًا أن تنبت إحدى تلك البذور يومًا، ثم غادرت مع عائلتها بصمت.

سنوات مرَّت، كبرت فيها رِهام وأخوها حسن حتى تجاوز كلاهما عمر الثلاثين، لم تنس رِهام ما حدث في طفولتها وكيف انقلبت بعدها حياتها رأسًا على عقب، حيث توالت الأحزان واستمر العدو في تجبره وقسوته، يُريق دماءهم بقلبٍ بارد، ويحطم بيوتهم ويجبرهم على الرحيل، العديد من الأطفال تيتَمت، والكثير من العائلات انتهت، حتى بيوتهم تهدمت، وكأنهم لم يكونوا يومًا.

لكن مع كل منزل يُهدم كانت رِهام تدفن تحت أنقاضه حبة رُمَّان، وتتذكر وجه قائد الجنود الذي تحدته في صغرها، فيزداد إصرارها على إكمال وعدها بأن تزرع الرُمَّان في كل مكان.

كانت تقف بشجاعة في وجه العدو، لا تخافه ولا تهابه، بل تزيد مقاومةً وصمودًا، فذاع صيتُها وقصة الرُمَّانة التي تحدت بها الأعداء، وأصبحت مثالًا يحتذى به لقوتها، صلابتها وشجاعتها، حتى أنها تزعمت إحدى فرق المقاومة في بلدتها، وقد نجحت في قتل العديد من الجنود أثناء مهمات فريقها، وكانت تضع على رُفاتهم حبة رُمَّان، فأطلق الناس عليها "فتاة الرُمَّان".
وصل أمرها لقادة الأعداء، وأنها سبب خسارة العديد من جنودهم، ومستوطناتهم بعملياتها المتكررة، فقرروا وضع حد لها لتكون عبرة لمن يقاومهم، وقد عقدوا اجتماعًا طارئًا، ظهرت فيه صورتها على شاشاتهم العريضة، مع مقدمة أحد ضباطهم يشرح فيها كل ما يتعلق بها من معلومات، وعند انتهائه وقف أحد القادة العسكريين ورتبته عميد، يحتل الشيب رأسه، وتملأ التجاعيد وجهه، وقال بصوتٍ رخيم:

 أعرف تلك الفتاة، تجمعني بها قصة من طفولتها، تظن أنها شجاعة وتستطيع الوقوف أمامنا، وقد تحدتني في ذلك، أرجو أن تتركوني أقود حملة القضاء عليها، لها عندي رصاصة مؤجلة، وقد حان وقتها.

أسابيع مضت، يجلس الجميع في الليل يتمتعون بنسائم الربيع، يتسامرون على أنغام موسيقاهم التراثية، يصطف الشباب يرقصوا رقصة "الدلعونا" احتفالًا بزفاف حسن، وتزغرد النساء فرحين مهللين، يطبخون مأكولاتهم الشهية وحلوياتهم اللذيذة، بينما يلعب الأطفال بسعادة، أما الفتيات فيجتمعن حول العروس لتزيينها.

يقف فوق تلة بعيدة عن الحفل، رجل ببذته العسكرية يتابع رِهام بمنظار مكبر وسط الحفل، كأنه ذئب ماكر يراقب ضحيته لافتراسها بمهارة، وما إن انتهى الاحتفال، وعاد الجميع إلى منازلهم، حتى ذهب إلى منزلها بخفة يتوارى بأستار الليل، فلا يعرف العدو الشجاعة والمواجهة، لأنه يعلم أنه أضعف من الورق أمام أبطال حقيقيين يستميتون في الدفاع عن وطنهم لآخر أنفاسهم في الدنيا.

وجدها تصلي، فلم يتراجع ولم يخش الله فيها، بل انقض عليها ينزع ملابسها، كاتمًا لفمها كي لا تصرخ، حاولت التملص منه ومقاومته، فضربها على رأسها، وقعت مغشيًا عليها فوق سجادة صلاتها، وكعادة كل مغتصب يستبيح ما ليس له استباح جسدها، فاغتصبها، ثم أطلق الرصاص عليها حتى ماتت.

يمشي حسن ناحيتهم بخطوات واسعة، حاملًا سلاحه غير خائفٍ، يُطلق على جنودهم الرصاصات، فيتساقطون أرضًا كتساقط أوراق الشجر في الخريف، انتقامًا لأخته ولبلده، وهو يصرخ بعزمٍ:

 قتلتم رِهامٍ واحدة، ونسيتم أن في أرضنا ألف رِهام، فهذه الأرض لن تموت حتى وإن ماتت الأجساد في سبيلها.

عقود مرت، أشجارٌ شامخةٌ تنبت وسط الحُطام، أسماء منحوتة على جذورها "أبو عمار، ياسر، رِهام وغيرهم" تحمل قصتهم في كل حبة رُمَّان لآخر الزمان.

تمـت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى