فلسفةٌ ساخرة وغزالات تائهة
" الكلمات غزالاتٌ تـائهةٌتبحثُ عن ماء أو عشبْالشـاعر ذئـب آواهـاأطعمـها عُشـب المعنىوسقاهـا دمـه العذب!! ".
بهذه القصيدة - ذئب - ينتصف ديوانُ " عُرف الديك" الذي صدر عن " جمعية شعراء بلا حدود الفلسطينية" للشّاعر راشد عيسى حيث جاءت القصيدة من ضمن قصائد مختارة من مجموعاته الشعرية حُمّلت على "عُرف الديك"، وجاء الديوان بمائتي وثلاثين صفحة من القطع المتوسط ليضم بين دفتيه ثلاثة وثلاثين قصيدة تبدأ بـ " وعليه أوقّع" إلى أن يختتم الديوان بـ "وثيقة جرح"، حيث كانت التقنية الفنية بِرَصْفِ إسفلت المجموعة المختارة لتكرُج عين الرائي على بسيطة لا عثرات فيها ولا منحنيات تعيق وعيَ المُسْتمرِ باتجاه شاخصةٍ تأخذ البصرَ وتمده بقزحية تجمّل مرآه، ولا شك بخبرة " المُختار" للمختارات بأن تكون البداية بمنطق قلب الذئب المجروح والجارح، والروح القبّرة، والنفس الطير الجني، والقلم أول زميل يعلّم الشاعر النقشَ على جدران الوهم، والمحبرة الثدي التي أرضعته، والقصيدة عُرس النمل الهمجي، والحبيبة الغيمة العطر البرّية في مراح العمر اليابس، والوطن نشوة اللامكان، وإن كان لا بد من أهل فأهل الشاعر أناه كما يرى شاعرُنا ويرينا باقتدار الصورة الحقيقة.
وما كان كل هذا الاّ لتكون لوثيقة الجرح، فالشاعرُ المكلومُ الملذوع بالوطن وبالمطر وبالقصيدة يعيش الأملَ على أن لا أملَ وإن كان اللاأمل هو مفاتنُ تغري عطشاً يليق بالدمع الذي لا سواه ولا غيره يُطفئ توقّد الظمأ والأمل- بالمجاز- بوصلته مبتورة لا تشير إلى طريق يرجوها، وما يراه الشاعر غير التي يسير إليها وعليها وان اختلط السياق في دلالته على الطريق المبعثرة المجروحة؛ كخيط الشاعر تماما المربوط برمش امرأة كُنه العفاف والطهارة ونَخلة الوجدان التي يسعى لتتلاقى الروح بالروح، إلى أنه يفقد حتى هذا ليكون حرمان التلاقي في الحياة، وإن لم يتحقق ليته يكون – لنا- في جهنم، أية صورة تلك التي تنهش صدرَ الشاعر وكأن الشعراء لا يجدون غير الفجيعة مغناةً لهم حتى لو رسموا على صدر المروج سنابلها وأعادوا خضرتها إلى باحة ربيع الوقت. وما يحمله الديوان من قصائد، أظن أن الشاعر ومن جمعها واختارها لم يُريدا غير احترام القارئ في منحه عذب الكلام الذي يشرح له صدره بفاكهة القصيدة الفذة التي لم يكن لأي منها إلا مناسبة تليق بان تواكب الزمن وتمر على سنوات لتعبُرها بجدارة وبمقدرة عالية من البلاغة ومن الصور التي حاكها وربط جذورها لتنطلق بالريح وليكون الريح معها دون أن يخلخل ميزان الكلام ولا القوافي المتماهية بفن الشاعر راشد عيسى؛
-1-
" كانَ لِجَدي ديكٌ بلديٌ / سمّاه بذئبِ القريةْ / حين يصيحُ يُصَحّي الليلْ / ديكٌ تخشاهُ ثعالبُ قريَتِنا / مزهُواً يمشي مرفوعَ الرأسِ / ومنفوشَ الذيلْ / وبِهِ يتآنس رعيانُ القرية / والقمرُ الشتويُّ / وسيفُ المختارِ / ونجمُ سُهيلْ / كان يطوفُ على عشرِ دجاجاتٍ في البيتْ/ وكثيراً ما زار دجاج الجيرانْ / لكن الجدَّ الغالي / ذبح الديكَ الغالي للضيفِ /وعلَّق عُرفَ الديكِ على باب الديوانْ.
-2-
في العام الماضي / ابْتَعْنا ديكاً أبيضَ من أحدثِ / مزرعة في العصر / نصحونا أن نطعمه / علفا / أميركياً / ففعلنا / وبمدةِ شهرْ/ صار الديك سميناً كخروفْ / ويصيح مع الظهرْ / كوكو كولا / كوكو كولا / وإذا جاء الليلُ يلوذُ / إلى الركن الآمنِ وينام / فصبرنا / وشرينا عشَر دجاجاتْ / أَطْلَقْنا الديك لخدمتهنَّ / ولَما حاول أن يتزوج إحداهُنَّ / خابَ على الفَوْرْ / فانتفضت أكبرهُنْ / قفزتْ فوق الديكِ ولعبتْ عنه الدَّوْرْ ".
و بقراءة قصائد الشاعر، يدرك القارئ الإبداع وروعة التصوير، فهو يملك المقدرة على رسم الصورة الجميلة والرائعة والمدهشة بكلمات قليلة في قصائد تجعل البيت بحد ذاته قصيدة ترفع المعنى وتشد من أزر القارئ العائد إلى الشعر والى الشاعر الذي يُسْمِن ويُغني جماليات القصيدة التي بات البعض يشكّها بخيط من دخان سرعان ما يلوذ خلف سديم لا يُرى، فهو كعادته وكعادة الشعراء الكبار بحرفة الكلام يمنحنا كل هذا الجمال لنراه على غير معنى، وعلى عرف الديك القصيدة الأم، وان كانت كل القصائد أمهاتٍ في مختارات ديوانه "عُرف الديك"، وما كانت تلك القصيدة الساخرة الناخرة لواقعٍ مرّ يعيشه الوطن والمواطن إلاّ رسالة تُعيدنا إلى فنون الشعر المُرّ الذي يمسح كلاحة اللغة وتخاتل المواقف ليذكرّنا أن (مظفّر) ما زال هناك من يعيده، وان القصيدة الاجتماعية المناضلة ما زالت أيضاً تدق نوافذ الكرامة بعد أن صدئت أبوابُها وتهرأت مفاتيحها، وهنا نشرّع نافذة القول والمقولة الناجزة الباقية التي لن يقدر على ثنيها أحد، ولا على متنها وعجزها وصدرها وتفعيلتها الجذّابة وموسيقاها العالية وصورها الباذخة.
[1]