الثلاثاء ١ آذار (مارس) ٢٠٠٥
" إضاءات على روائع الأدب الفرنسي"
بقلم سعاد جبر

فنيات القص في أدب "رابلية"

يعد الأدب صورة انعكاسية عن الواقع في كل آلامه وآماله ، ولغة ناطقة تعبر عن متضاداته وجمالياته ، وتركيبة مشفرة في نكهة لها خصوصيتها في ايدلوجية التعبير وسمت متفرد في منظومة إيحاءاتها حول هالة المجتمع وما يعتريها من إضاءات عاكسة . وقد ارتقى الأدب في صوره التعبيرية مع رحلة الحضارات في ألوان متنوعة من المثالية والواقعية ومدرسة تيار الوعي الإسقاطية ، لذا يعد الأدب لوحة مشرقة في وجه الحضارات المسفرة عن ثقافة الشعوب وتراثها ومنظومة مشاعرها وتصوراتها عن الحياة والواقع المشاهد واللامرئ من الأشياء ، ويشكل الأدب الفرنسي صورة ناطقة لتلك التحولات ، وقد تأجج في رحلة العصور الوسطى بلوحات فسيفسائية من البعد الأيدلوجي المكثف ، وحالة الرفض الاجتماعي بكل أبعادها ، ورسالة داعية للتغيير والإصلاح ، وتتناول هذه الوقفة النقدية نموذجاً مختاراً في الأدب القصصي في تلك الحقبة التاريخية ، للأديب الفيلسوف " رابلية " لاعتبارات عدة منها خصوصية أدبه الذي يشكل صورة ناطقة عن مجتمعه ، فضلاً عما ترسمه نصوصه من الرنو الجاد نحو رحلة انطلاق فضفاضة بما تحمل من حماسة وتفاؤل ، ويثري أدبه إعجابه الشديد بالفلسفة وروادها القدماء وحبه للحياة والارتواء بنهم من معين العلم ، إذ يعتبر رجل كنيسة رفض واقع الكنيسة وما يعتريها من تضادات ، واشبع فضوله في خوض غمار علوم متنوعة ، واتسم ادبه بخصوصية متشكلة في الروح الضاحكة التي تشرق في وحي السخرية المتهكمة اللاذعة من جانب وانطلاقات عشق الحياة من جانب آخر ، حتى أن القارئ يستشعر معها تعالي ضحكاته في نصوصه ، ولكنها تحمل في مكامنها الساخرة رسالة فلسفية ولغة خاصة في التعبير ، وتعكس البعد التراثي للمجتمع الفرنسي آنذاك ، في نكهة تحمل شيفراتها لغة ثورية على الواقع سواء في بعد الكنيسة او تربية الأبناء على وجه الاستشهاد لاالحصر ، وتسطع منها لغة الولاء لوطنه فرنسا ، لذا يشكل أدبه القصصي بعداً فلسفياً في لغة الإيحاء المعبرة عن منظومة رؤاه ونظرته للحياة ، التي تتسم ببعد نقدي للمجتمع ولغة ذاتية فلسفية في الإصلاح .

ويرفض" رابلية" النمطية السلبية في سلوك رجال الكنيسة ويدعو إلى الإيجابية والعمل الجاد ويقدم تلك الأبعاد في شخصية " جان ديزا نتومور " الذي يعتبره مثالا للقسيس المتفتح والمتحرر إذ يترك صلاته لمواجهة شرذمة لصوص قد سطو على الحقل الذي يحيط بالكنيسة في حين بقي زملائه القساوسة في الدير منشغلين بالصلاة والدعاء للصوص بأن يهديهم الله ويثنيهم عن عمل الشر ، لذا تنطلق كلماته في طيور عاشقة للحرية المطلقة وإدانة القهر التجبر في النظام الكنسي ، وترسم لوحات مطالبة بسيادة الفضيلة والعفة والاحترام المتبادل وفرصة الزواج في أي وقت لساكني الأديرة ، ويعبر عن تصوره في تلك القضايا بإشارات رمزية منها أن الأبواب المغلقة والقوانين الصارمة لا تؤدي إلا إلى القسوة والمرارة والحقد ، ويستشف القارئ في نصوصه ايضاً روحه الوثابة إلى حياة هادئة ومنها دعوته إلى إلى التحرر من قيود الوقت ، لذا منع وجود آيه ساعة او أجراس تنبئ عن الوقت داخل الأسقفة ، وأشار إلى أن الحياة النقية ليست مقصورة على الأديرة ، وللمرء أن يحيا حياة كريمة فاضلة نقية خارج الأديرة ، فهي ليست محصورة في تلك الأديرة واسوارها كما تصور رسالة النظام الكنسي ولغة المجتمع الببغاوية لها .

وقد وسم " رابلية " بالإلحاد من قبل الكنيسة بناءا على ما اعتبرته الكنيسة خروجا عن الكنيسة في لغة فلسفته الإصلاحية المنبعثه من ادبه القصصي ، بالرغم من انه كان يعبر في نصوصه عن إيمانه بقوة الله وعظمته .

ويتسم نقد رابلية في لغته القصصية بأنه لاذعاً وقوي الجرس في اللسع ويثير في نصوصه تساؤلات تثير إشكاليات دينية اجتماعية في مجتمعه الكنسي آنذاك ، مثل
هل من الأفضل أن يتزوج المرء او أن يبقى عازباً ؟ وترفض نصوصه التقليد في لغة المجتمع بكافة أشكالها ويعبر عنها من خلال نص " أغنام بانيرج " ، إذ يعد هذا النص رمزاً لغباء الناس وحبهم للتقليد الأعمى وتدور أحداث هذا النص في انه اشترى بانيرج وهو على الباخرة التي تقله إلى البلاد البعيدة خروفاً واحداً من ضمن قطيع كبير من الأغنام كان على ظهر نفس الباخرة ، ثم هم فرماه في أعماق البحر ولم يستطع صاحب القطيع ولا أعوانه إيقاف سيل قطيع الأغنام الذين القوا بأنفسهم وراء زميلهم في البحر .

وتتسم الانعكاسات الفلسفية في أدب رابلية بالمرح والتفاؤل والانطلاق ومهاجمة النفاق وضيق الأفق وعدم التسامح ، والحديث في ذلك يطول ، وانطلاقاٌ مما سبق؛ فأنه يمكن تحديد أبعاد فنيات القص عند رابلية في الآتي :

ـ استخدام الأسلوب الساخر من خلال استخدام الطرافة والدعابة في تصوير الأحداث وتشابكها ، فيستشعر القارئ في النص جرس الضحكات المجنونة التي تحمل في مكامنها لغة نقد المجتمع ولغة التغيير والإصلاح .
ـ تصوير الشخصية في اقل عدد من الكلمات والتصوير الفني البارع لمقاطع مجتمعه من الريف والرعاة وحواري باريس وما تحوي من لصوص وحراس .
ـ الدقة في تجسيد روائع فنيات التعبير لواقع الإحساس بالحياة من خلال مشاهده الاجتماعية إذ تسمع من خلالها رنين الضحكات وأصوات العواصف الهائجة في البحار والأصوات الحادة وطرقاتها في معارك الحقول ، فينقل القارئ إلى عمق الإحساس بالأحداث وتشكلها في لوحان ناطقة بالحياة بجمال وإبداع .
ـ التسلسل في المشاهد في انسياب ؛ في ثنائية مترابطة بين تسلسل الحدث وبراعة تشكيل منظومة المشاهد في اتساق منساب جذاب .
ـ تعتمد نصوص " رابلية " على حقيقة اعتبار أن الضحك هو الوسيلة الوحيدة الفعالة التي تفيق القراء من سباتهم العميق ، وتحثهم على الرؤية الواعية ، ويشكل هذا الأسلوب الساخر ـ الذي اختاره رابلية كخصوصية يتمايز فيها ادبه عن غيره ـ عنوانا للتفاؤل المطلق لديه وأيماناً برسالته في التغيير ، وتشكل تلك النصوص ثورة جادة في رسالة التغيير والإصلاح لمجتمعة في كافة الأبعاد الفكرية والكنسية والاجتماعية ، وبعداً معبرا عن منظومة فكرة وتصوراته الفلسفية في الحياة ولغة المجتمع .

وفي نهاية مطاف تلك الوقفة النقدية في هذه الهالة المختارة من روائع الأدب الفرنسي ، أرجو أن أكون قد وفقت في تلك الإضاءة النقدية ، ولعل هناك ملتقى يجمعنا في روائع الأدب المتلاحمة بين حضارات الشعوب في ارتشافات أدبية جديدة وأطياف قزحية تتناول الإبداعية الأدبية حيثما كانت وأينما حلت .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى