الثلاثاء ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

فيلم«زنديق» للفلسطيني ميشيل خليفي

يعود المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي في فيلمه الروائي «زنديق»، إلى مدينة الناصرة ـ مسقط رأسه ـ ليقدم حاضرها وماضيها بأسلوب جديد.

وتدور أحداث الفيلم على مدى أربع وعشرين ساعة حافلة بالتوترات والأحداث التي لا تزال تنعكس في راهن الفلسطينيين منذ النكبة إلى اليوم على خلفية عودة مخرج فلسطيني يعيش في أوروبا إلى رام الله، لتصوير فيلم يوثق للنكبة في 1948م.

ويطرح خليفي في فيلمه الذي يؤدي فيه الفنان الفلسطيني محمد البكري الشخصية الرئيسية فيه باسم "ميم" سؤالاً مغايراً لما يطرح دائماً على اللاجئين الفلسطينيين الذي رحلوا أو اجبروا على الرحيل عن منازلهم عام 1948م ليكون موجهاً إلى من بقوا في بيوتهم "لماذا بقيتم لماذا لم ترحلوا أريد أن اعرف ماذا جرى معكم؟".

ومن أول الفيلم تتكشف سريعاً، علاقة بطل الفيلم «ميم» (محمد بكري) المتوترة وغير المضبوطة بشكل من الأشكال مع حبيبته. وهي العلاقة التي ستأتي كتفصيل من اشتباك ذاتي بين ميم (الفرد) والمحيط: التاريخ، المكان، المجتمع، التغرب، السياسة، الانتماء. فـ «ميم» مخرج الأفلام الوثائقية، يضطر إلى المجيء إلى الناصرة لتقديم العزاء لموت عمه. لحظة الموت هذه، التي يبدأ فيها الفيلم، ستنفض اللثام عن ملامح عديدة من شخصية «ميم» الجدلية، فهو غير مؤمن بالله، وكافر بالعائلة كذلك، مغترب أي منفي طوعاً، كما أنه كافر بالتقاليد وكافر أيضاً بعواطفه، أي أنه «الزنديق» الذي يتبدى لنا بوضوح منذ المشاهد الأولى من الفيلم، إلا أن علاقته بالتاريخ لا يمكن أن تتسم بالرفض أو التسليم المطلق، لأن التاريخ يتمدد وينعكس في سلوكيات أجيال لاحقة، وهو يتخطى كونه مكتسباً معرفياً ليصير محفزاً ومحرضاً ومستولداً لمزايا بشرية بشعة كالحقد أو الغضب أو العنف أو العمى الإنساني والأنانية والجشع، إلا أن الأسئلة التي تتمخض عنه بوصفه كمّا من أحداث مترابطة ومتلاحقة، تتكثف في الفيلم فتأتي في محور الحدث الأهم: (نكبة 1948). ويصبح توثيق النكبة جزءاً من سياق سينمائي داخل علبة الفيلم نفسه، فكاميرا «ميم» ستقابل بعض الأشخاص المسنين الذين يحكون مأساتهم وعلاقاتهم بالمكان «السابق»، أي ما بات «كليشيه» كل مهتم بالقضية الفلسطينية، فيكون التوثيق لعبة سينمائية، أو «سينم»ا داخل السينما. لكن هذا التوثيق سيبدو في الفيلم وكأنه عرضي، ديكور، خاص جداً، وذاتي، بمعنى نأيه عن التوظيف الدعائي والسياسي وجعله يؤدي وظيفة «نوستالجية» وجمالية لها علاقة ببطل الفيلم وحده.

من هنا، ستكون الأسئلة التي يطرحها "ميم" على أمه المُستحضرة أكثر وقعاً على الجمهور، لأنها ستكون أسئلة مباشرة، غير متوارية في لعبة مونتاج الفيلم المستقل. فبعد أن يسترجع بعض ذكرياته مع والدته، يلح عليها في سؤاله "لماذا بقيتم؟". كما يوجه لها سؤالاً معكوساً عن سبب بقائهم في فلسطين، " لماذا لم تنزحوا؟".

سؤالٌ يرتسم في كادر خارج الشعارات والخطابيات العاطفية واللوم، فهنا يقوم خليفي بسؤال الضحية عن سبب بقائها لتجلد كل هذه السنوات بدلا ًمن أسئلة اعتدناها في الكثير من الأفلام والتي يدور أغلبها في فلك لوم الفلسطيني الذي ترك أرضه ليعاني في بلاد الشتات. وهو سؤال عقلاني بالمقام الأول، أساسي، ولا بد منه بعد كل تجارب الفلسطينيين السابقة، إلا أنه سؤال مهذب جداً وسياسي بعيد عن الدراما يطرح "النزوح" بدلاً من "الهرب" أو ترك الأرض، أو حفظ الأرواح. فشخصية العمل المحورية "ميم"، هي من سيقرأ الواقع ويُزج فيه سواء وافقت على صيغته أم رفضتها، وبالتالي فإن السؤال يتقاطع مع شخصية البطل المغترب، المقيم في أوروبا، الآتي لينظر المدينة بوصفها ’ إكزوتيك’ ومادة خصبة لعمل فني.

دعوة إلى التحرر قبل التحرير

تمثل الكثير من مشاهد الفيلم إسقاطات على الواقع بكل ما فيه من أبعاد سياسية واجتماعية بدأت من المشهد الأول للجدار الذي تقيمه (إسرائيل) على أراضي الفلسطينيين، ورحلة البحث عن قبري والديه في مقبرة الناصرة دون أن يفلح في العثور عليهما، مروراً بالعلاقة الجنسية العابرة مع فتاة يهودية في (إسرائيل)، وعدم إيجاد فندق يسمح له بان يمضي ليلته فيه هرباً من الثأر.

ويبدو أن خليفي أراد لكل مشاهد أن يتسع خياله ليسقط المشهد على الواقع الذي يريد، في عرض يتخلله عودة البطل إلى كاميراته بحثاً عن مشاهد صورها تؤنس وحدته التي لم يجد سوى سيارته كي يمضي فيها جزءاً من ليلته، بعد أن أُغلقت دونه كل الأبواب حتى منزله الذي حاول العودة إليه في البداية ليجد نفسه مطارداً من عائلة القتيل الذي قتله ابن شقيقه.

ويقدم خليفي في الفيلم صوراً حية من مدن الناصرة التي تضم كنيسة العذراء مريم، وبيت لحم التي يفصلها جدار اسمنتي عن مدينة القدس ورام الله العاصمة السياسية للفلسطينيين، في رحلة عودة بعد سنوات من الغربة للمشاركة في عزاء أحد الأقرباء لتبدأ منه حكاية ليلة واحدة يختصر فيها خليفة على مدار ساعة ونصف حكاية شخصية لحكاية شعب.

ويستحضر خليفي في مشهد يعيد إلى الأذهان تلك المفاتيح التي حملها اللاجئون لمنازلهم عندما رحلوا أو أجبروا على الرحيل عنها عام 1948م، على أمل العودة إليها بعد أيام.. عندما يعود البطل إلى منزل العائلة المهجور ليجد المفتاح مخبأً أسفل حجر أمام الباب ليدخل إليه.

ويشاهد الجمهور بعد ذلك عكس ما يتوقع إذ بدلاً من أن يحتفظ بما يجده من صورة للعائلة يجده يحرقها بل إنه يحرق الصليب معها وعندما يسأل عن معجزة الماء في كنيسة العذراء في الناصرة يجيب رجلٌ ثملٌ أن شركة (إسرائيلية) سحبت الماء من المكان.

ويشتمل الفيلم ضمن مشاهده على عرض لواقع عدد من أهالي غزة الذين يتسللون للأراضي المحتلة عام 48 بهدف العمل، أو إحضار أطفال فلسطينيين لاستغلالهم وبيع أعضائهم، ويذكر المشهد بحالة الانقسام التي يعيشها الفلسطينيون عند سؤال البطل لأحد الأطفال ـ الذين يلتقي بهم بعد أن يخبره أنه من مخيّم رفح الذي هدمت (إسرائيل) نصفه ـ عن والده ليكون الجواب أنه معتقل ولكن ليس عند (إسرائيل) بل لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس.

كما تشكل المرأة عنصراً أساسياً في الفيلم بكل ما يمكن أن تعكسه من مدلولات مثلت فيها الأرض والشعب أحياناً، وأحياناً أخرى المرأة ذاتها لينتهي الفيلم في مشهد تظهر في امرأة برداء أبيض تسير في ماء بحيرة أو نهر تدعو البطل أن يتبعها فيما كان يصور بها ليضع الكاميرا ويحاول أن يتبعها قبل أن تختفي في الماء.

ويؤكد خليفي، رغم التشابه إلى حد التطابق بين شخصيته الحقيقية والشخصية التي يقدمها البكري في الفيلم، يؤكد أن عمله " ليس سيرة ذاتية وربما يكون بطله توأمي لكنه لا يشبهني، رغم أن نسبة كبيرة من الأدوات في الفيلم متعلقة بي شخصيا".
ويرى خليفة أن فيلمه يدعو "إلى التحرر قبل التحرير" من خلال ما يقدمه من مشاهد لمدينة الناصرة التي تبدو ليلاً مدينة أشباح، إلا من شباب يعتدون على من يمر في أزقتها محاولين الثأر لعملية قتل يكون فيها القاتل ابن شقيق بطل الفيلم.

من جهته صرح بطل الفيلم الفنان محمد بكري لوكالة الأنباء العالمية "رويترز" أن: " الفيلم يعكس شاعرية ورومانسية ميشيل خليفة كمخرج وكاتب وشاعر".
مشيراً إلى أن "الفيلم لا يعبر عن القضية السياسية بشكل مباشر، بل يطرحها من خلال رؤية سينمائية خاصة"، موضحاً أنه "يدور بشكل رئيسي في شوارع الناصرة، ليصور في ليلة مظلمة المدينة المخيفة والشباب المتسكع الذي يعتدي على كل من لا يعرفه، ومدينة الفئات الطائفية التي تتقاتل، والعنف والابتعاد عن الثقافة والانتماء".

وحسب بكري فإن "الزندقة" هنا تأتي لتصف شخصاً يتعامل مع الإبداع لكونه مخرجا أراد تصوير النكبة، وتلقى نكبات "أفظع" من (نكبة48) التي جاء لتصويرها".

وقال: "الفيلم يشكل إضافة جديدة لمسيرته الفنية وليس بالضرورة أن يكون انعكاسا للواقع، لكن يمكنه القول أن ميشيل نجح في إيصال ما يريد في كل مشهد تم تقديمه."

ميشيل خليفي رائد "السينما الفلسطينية" المستقلة ..

عندما نتحدث عن السينما الفلسطينية المستقلة لابد من أن نذكر رائدها المخرج ميشال خليفي من جيل ما بعد النكبة والذي احتكر هذا التعريف عندما قدم أفلامه الوثائقية والروائية المتميزة التي تمكنت من كسر الطوق الوهمي حول فلسطين من خلال مخاطبة إنسان القضية لا القضية في المطلق، ميشال خليفي من الجليل الفلسطيني ولد عام 1950م في مدينة الناصرة أي لم يعرف وطنه إلا محتلاً ومن أهم المحاور التي ركز عليها ميشيل خليفي ذاكرة المكان واعتبره بطلا خفياً في أفلامه والتي من خلالها كرم واحتفل بأهمية الإنسان الفلسطيني في مكانه الطبيعي والواقعي.

هاجر ميشال خليفي إلى بلجيكا عام 1970م ودرس المسرح وشغل فيه كبداية ثم اكتشف السينما حيث درسها في مدينة بروكسل وأدرك أهمية استخدام الكاميرا كمنظار فكري ومؤثر في العالم لكنه لم يخدم هاجسه في تغيير وجهة النظر الغربية عن فلسطين، كما عمل خليفي في التلفزيون البلجيكي الذي أتاح له الفرصة للعودة إلى فلسطين عام 1980م ليقرر المباشرة بفيلم تسجيلي طويل بعنوان "الذاكرة الخصبة"،الذي عده النقاد السينمائيون "الفيلم التأسيسي لتيار السينما الفلسطينية الجديدة".

وبعد عامين قرر خليفي أن يلمس الأرض ثانية في فيلم "معلولة تحتفل بدمارها" حيث نرى مجددا أن ذاكرة المكان ومفاتيحها هي الأرضية التي يتحرك عليها فيلمه الثاني أيضاً.

وكان "عرس الجليل" عام 1987م الفيلم الروائي الأول والأكثر شهرة وقد أخرجه وأنتجه خليفي حيث حصد الكثير من الجوائز العربية والعالمية، إلا أن "عرس الجليل" لم يتوج بالتسويق التجاري العربي المرجو رغم اختراقه غير المسبوق لمهرجان كان السينمائي حيث حاز هذا الفيلم على الجائزة الأولى للنقاد الدوليين.

وفي فيلم "نشيد الحجر" عام 1990 قدم خليفي صورة عن الانتفاضة الفلسطينية حيث مزج بين الأحداث الفادحة على واقع الأرض وقصة حب شاعرية لامرأة فلسطينية تبحث في علاقتها بحبيبها الذي كان قد اعتقل لأسباب نضالية.

ومن فرط اهتمام ميشال خليفي في مجتمعه وتفاصيله الصغيرة يدخل إلى فيلمه الجديد عام 1994م تحت عنوان "الجواهر الثلاث" حيث يذكر بما سرق من الوطن من جواهر وجوهر عن طريق الحكاية الشعبية الطفولية والحلم الذي يريد أن يتحد بالواقع.
وفي عام 2004م أخرج خليفي فيلمه الوثائقي "الطريق 181" بالتعاون مع المخرج (الإسرائيلي) "إيال سيفان"، الذي هاجر إلى فرنسا عام 1987م، معتبراً اليهود الذين هاجروا إلى (إسرائيل) عنصريين، بسبب ممارستهم لقانون عنصري، يسمح لهم الهجرة إلى (إسرائيل)، وفي نفس الوقت يحرم الفلسطينيين ممارسة الحق نفسه. وقد أثار ذلك الأمر جدلاً واسعاً في الأوساط السينمائية الفلسطينية والعربية، إذ عده النقاد العرب شكلاً من أشكال التطبيع الفني مع الكيان الصهيوني، وقد تناولا فيه قضية الحدود التي رسمها قرار (181) للأمم المتحدة عام 1947م لتقسيم فلسطين، والقاضي بإقامة دولتين فلسطينية و(إسرائيلية)، والذي أعطى 56 % من الأرض للأقلية اليهودية و43% للأكثرية العربية على أن تبقى بقية الأرض محايدة.

إلا أن خليفي أكد ـ حينها ـ أن الفيلم، مدته أربع ساعات ونصف، "يتحدث عن استعمار فلسطين لا أكثر، وقد تطرق إلى مواضيع سياسية عدة، واليهود الصهاينة لا يريدون لأحد أن يرى هذه الحقيقة وهذا الواقع". مضيفاً: " الفيلم "شواه" فلسطينية ـ كلمة عبرية معناها (كارثة) أو (نكبة) ـ ، ولكن بصيغة أخرى غير كارثة اليهود في أوروبا.هذه الـ "كارثة ـ نكبة" عاشها الفلسطيني على أرضه وبأيدي صهيونية (إسرائيلية).
ويعد فيلمه "الزنديق" آخر أعماله السينمائية الروائية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى