الاثنين ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

في رتابة السجن الخانقة، أبقتني الكتابة إنسانًا*

"الورق، أي ورق، هو من أثمن الأشياء على الإطلاق بالنسبة للسجين السياسي"

بقلم : نجوجي وا ثيونجو

لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل، الثاني عشر من ديسمبر عام 1978.

عاجزًا عن مواجهة وخز ألياف ثلاث بطانيات شفافة فوق مرتبة امتلأ حشوها من ألياف خشنة انكمشت وتجمعت في كتل صلبة كالحجارة. جلست إلى المكتب، تحت وهج لمبة عارية بقوة 100 واط، أكتب كلمات على ورق التواليت.أستطيع سماع وقع خطوات حارس الليل، وهو يمشي ذهابًا وإيابًا في الممر بين صفّي الزنازين المتقابلين.

زنزانتي هي الزنزانة رقم 16 في جناح سجن يضم 18 سجينًا سياسيًا آخر. هنا ليس لدي اسم. أنا مجرد رقم في ملف: K6,77. سريري عبارة عن إطار حديدي صغير ملاصق لجدار من الزنزانة. أما مكتبي فهو لوح صغير مقابل الجدار الآخر. هذان الشيئان يملآن الزنزانة الصغيرة.

في نهاية الممر يوجد مكان مسدود به مرحاضان، وحجرة غسيل تحتوي على حوض واحد فقط، وحجرة استحمام تتسع لأربعة أشخاص. كل هذه المرافق مفتوحة: دون أبواب. في الطرف الآخر من الممر، بجوار زنزانتي، يوجد فناء صغير للتمارين، وأبرز معالمه سلة مهملات ألومنيوم واحدة وشبكة بالية تُستخدم أحيانًا للعبة "التنكويت" أو الكرة الطائرة، معلقة بين عمودين حديديين.

يوجد باب من القضبان الحديدية عند مدخل الفناء - بين فناء التريض وجناح الزنازين - وهو مغلق دائمًا ليلًا. يُحيط بجناح الزنازين والفناء أربعة جدران حجرية مزدوجة عالية جدًا لدرجة أنها تحجب تمامًا خط الأفق من الأشجار والمباني، الذي كان من الممكن أن يمنحنا لمحة عن عالم الحياة النشط خلف الأسوار.

هذا هو سجن كامِيتِي شديد الحراسة، أحد أكبر السجون في أفريقيا. يقع بالقرب من ثلاث بلدات — رُويرُو، كيامبُو، ونيروبي — وعلى بُعد خطوات قليلة حرفيًا من كلية جامعة كينياتا، لكن يمكن القول إننا على سطح المريخ. نحن معزولون تمامًا عن كل شيء وعن الجميع، بما في ذلك السجناء المدانون في باقي عنابر السجن، باستثناء فرقة مختارة من حراس السجن المدربين تدريبًا عاليًا وقادتهم من الضباط .

شديد الحراسة: كانت هذه العبارة تملؤني رعبًا كلما صادفتها في الروايات، وخصوصًا في أعمال ديكنز، وقد ظللت دائمًا أقرنها بإنجلترا والإنجليز؛ كانت تستحضر في ذهني صور جحافل من القتلة الخطرين على شاكلة " ماجويتش " في رواية "آمال عظيمة"،، المستعدين دائمًا للفرار عبر الغابات الكثيفة والمستنقعات، لينشروا مزيدًا من الخراب والرعب في مجتمع مستقر، مسالم، متدين، ويخاف الله، مجتمع من ملاك العقارات الذين يرون أنفسهم تجسيدًا للمجتمع بأسره. كما كانت تستحضر في ذهني صور السجناء السياسيين في جزيرة روبن، من بينهم مانديلا، وهم يحطمون الصخور دون غاية سوى تحطيمها. لكن عامًا من الإقامة في سجن كامِيتِي علّمني ما كان يجب أن يكون بديهيًا: أن نظام السجون هو أداة قمعية بيد أقلية حاكمة لضمان أقصى درجات الأمن لدكتاتوريتها الطبقية على بقية السكان، وهو ليس حكرًا على إنجلترا وجنوب إفريقيا فحسب.

تقترب خطوات الحارس المدوية. أعلم أن الحارس الذي يتجول لا يستطيع دخول زنزانتي - فهي دائمًا مغلقة بقفلين، ومفاتيحها محفوظة بدورها داخل صندوق يُؤخذ في تمام الساعة الخامسة من قِبل العريف المناوب إلى مكان آمن خارج الأسوار المزدوجة - لكنه بالطبع يستطيع أن يُلقي نظرة إلى داخل الزنزانة عبر نافذة صغيرة مستطيلة ذات قضبان حديدية في الجزء العلوي من الباب. وقد صُمّمت هذه النافذة بحيث لا تتسع سوى للوجه فقط.

يستمتع هذا الحارس بالحديث بالألغاز والتواصل بطريقة ملتوية. بالطبع، هذه وسيلة لحماية نفسه، لكنه يستمتع أيضًا برؤية السجين يحاول جاهدًا فك المعاني الخفية، إن وُجدت.

تتوقف الخطوات. لم أكن بحاجة للنظر إلى الباب لأعرف أن الحارس يراقبني. أشعر بذلك في أعماقي. إنها غريزة يكتسبها المرء في السجن، غريزة الملاحقة الماكرة. أخذتُ وقتي، وفي النهاية التفتُّ نحو الباب. ملأ وجه الحارس النافذة بأكملها: لا أعرف شيئًا أكثر تهديدًا ورعبًا من ذلك الوجه المبتور الجذع، يحدق إليك بصمت قاتل من خلف قضبان زنزانة السجن الحديدية. يُبدد الصوتُ ابتسامتَه:

 يا بروفيسور... لماذا لم تذهب إلى السرير؟ ماذا تفعل؟

يا للارتياح! أستعين بالنكتة الرائجة حاليًا في جناح الاعتقال.

أكتب رسالة إلى جومو كينياتا بصفته سجينًا سياسيًا سابقًا.

يحتج الحارس مجادلاً:

 حالته كانت مختلفة .
 كيف؟
 كانت قضيته في زمن الاستعمار.
 وهذه، قضية في زمن ما بعد الاستعمار؟ ما الفرق إذًا؟

يجيب:

 قضية في زمن الاستعمار... الآن نحن مستقلون—هذا هو الفرق.
 قضية استعمارية في بلد مستقل، أليس كذلك؟ البريطانيون سجنوا كينياتا البريء.وهكذا تعلّم كينياتا أن يسجن الكينيين الأبرياء. أهذا هو الفرق؟

يضحك، ثم يعيد ما قاله:

 البريطانيون سجنوا كينياتا. كينياتا يسجن الكينيين.
يضحك مجددًا، ويضيف:
 افهمها كما تشاء... لكن اكتب عريضة جيدة... قد تحظى بجلسة استماع هذه المرة... نجمك ساطع في السماء... أيها السجين السياسي السابق.

يقهقه لنفسه:

 هل تعني كلمة ’السابق’ نفس معنى كلمة "المرحوم" — hayati؟
 ماذا تقصد؟
 هل يمكنني أن أقول السجين السياسي المرحوم بدلًا من السجين السياسي السابق؟

تشعرني نبرة صوته أنه يعرف الفرق وأنه يحاول إيصال شيء ما. لكنني الليلة أشعر بنفاد صبري ؛قلت له:
 أنت تعلم أنني لم أعد أدرّس اللغة الإنجليزية
أصرّ قائلاً:
 لا يمكنك أبدًا التنبؤ بلغة النجوم.

ثم قال مبتسمًا:
 من كان معلمًا يظل معلمًا دائمًا.
ثم ابتعد ضاحكًا.

في مذكراته في السجن، "الرجل مات"، علق وولي سوينكا بذكاء قائلاً: "بغض النظر عن مدى دهاء السجين، فإن فعلًا إنسانيًا شجاعًا من أحد حرّاسه يلعب دورًا رئيسيًا في بقائه على قيد الحياة."

وهذا الحارس خير مثال على صحة تلك الملاحظة. فهو من أخبرني في مارس عن تشكيل لجنة الدفاع عن نجوجي في لندن والتظاهرات التي جرت أمام السفارة الكينية في 3 مارس 1978. يستمتع بالكلام بالألغاز وبالتواصل بطريقة ملتوية. بالطبع، هو يفعل ذلك لحماية نفسه، لكنه يستمتع برؤية السجين يحاول استكشاف المعاني الخفية، إن وُجدت. لكن الليلة، تبدو ضحكته أكثر مباشرة وتعاطفًا، أو ربما هي نوع آخر من الألغاز يمكنني أن أفسرها كما أشاء.

يحرُس الممر في الليل حارسان يتناوبان. أحدهما ينام، والآخر يبقى مستيقظًا.
عند الساعة الواحدة يتبادلان الأدوار. وهما أيضًا لا يستطيعان الخروج، إذ إن الباب بين الممر وساحة التريض مقفل والمفاتيح أُخذت بعيدًا.حرّاس الليل هم سجناء أيضًا، يحرُسون سجناء آخرين.لكنهم يتقاضون أجرًا على ذلك، وسجنهم اختياري أو مفروض عليهم بسبب غياب سبل أخرى للعيش.يقول لي أحد الحراس، وهو شاب لم يكمل الصف السابع، إن طموحه أن يصبح طيّارًا مقاتلًا!ويقول لي آخر، وهو جد، أن طموحه كان في السابق أن يصبح موسيقيًا.

إلى الجحيم أيها الحراس! ولتذهب الأفكار المتطفّلة! الليلة لا أريد التفكير في الحراس والسجناء، ولا في قضايا استعمارية أو ما بعد استعمارية.أنا مستغرق تمامًا في وارينجا، بطلة الرواية الخيالية التي أكتبها على ورق المرحاض منذ قرابة عشرة أشهر!

اللونان الطاغيان في عنبر السجن هما الأبيض والرمادي، وأنا مقتنع بأن هذين هما لونا الموت

ورق المرحاض: حين قرأتُ لأول مرة في ستينيات القرن العشرين في سيرة كوامي نكروما الذاتية غانا، أنه كان يخزن ورق التواليت في زنزانته في سجن جيمس فورت للكتابة عليه، بدا لي الأمر رومانسيًا ويفتقر إلى الخيال، رغم الدليل الفوتوغرافي المرفق في الكتاب. الكتابة على ورق المرحاض؟

الآن عرفتُ: الورق، أي ورق، هو من أثمن ما يمكن أن يمتلكه السجين السياسي، لا سيما سجين مثلي، زُجّ به في السجن دون محاكمة بسبب كتابته. فالرغبة في الكتابة...

انتشال الشظايا الحادة المغروسة في ذهني،
من جهة لأنتزع بعض السكينة لعقلي،
ومن جهة أخرى لعلّ عالمًا ما، في وقت ما، يعلم…

... تكاد تكون رغبةً لا تُقاوَم لدى السجين السياسي.

في سجن كاميتي، يعكف جميع السجناء السياسيين تقريبًا على كتابة أو تأليف شيء ما، معظمهم على ورق المراحيض.والآن، نفس ورق المراحيض القديم الجيد - الذي خدم كوامي نكروما في سجن جيمس فورت، ودينيس بروتوس في جزيرة روبن، وعبد اللطيف عبد الله في جناح "جي" في كاميتي، وغيرهم عدد لا يُحصى ممن راودتهم الرغبة ذاتها — مكّنني أنا أيضًا من أن أتحدى، يوميًا، القصد من احتجازي وسجني: أسر العقل.

وميض، نبضة، إشارة بالكاد حية
تتحدث عن إرادة عنيدة،
عن تأكيدٍ قاتمٍ لقيمة ما،
في وجه الريح
على شاطئ صخري، أو بين الصخور
حيث تهوى المطارق الغليظة
دون انقطاع على الذهن.

أصبحتُ الآن أفهم تمامًا ما كان يقصده دينيس بروتوس. لقد كانت كتابة روايةٍ فعلَ تأكيدٍ يوميّ، شبه ساعٍ، على إرادتي في البقاء إنسانًا وحرًّا، رغم برنامج الدولة الرامي إلى إذلال السجناء السياسيين وتحطيم إنسانيتهم بطريقة حيوانية.
خذ مثلًا الخصوصية — أعني انتهاكها الوحشي

خذ على سبيل المثال ،الخصوصية، - أعني انتهاكها الوحشي. حارس يتعقّبني مستيقظًا ونائمًا على مدار 24 ساعة. من المروّع، بل المزعزع للعقل، أن تجد حارسًا يراقبك وأنت تتغوط أو تتبول في قصرية أطفال داخل زنزانتك، أو أن تجده واقفًا عند مدخل دورة المياه ليراقبك تؤدي العملية ذاتها. يظل النور الكهربائي مشتعلًا طوال الليل. لكي أتمكن من النوم، أربط منشفة فوق عينيّ، مما يؤدي إلى إرهاقهما، فبعد شهر تبدأان في الاحتراق والدموع. لكن ما هو أشدّ إيلامًا من ذلك هو أن تستيقظ في منتصف الليل، من نوم بلا أحلام أو حلم موهوم باللذة أو كابوس فظيع، لتجد عينين بلا جسد تحدقان بك من خلف قضبان حديدية.

أو الرتابة: يثور العقل البشري على التكرار الدائم. ففي الحياة الاجتماعية العادية، حتى الأسرة الأكثر ترابطًا نادرًا ما تقضي يومًا كاملًا معًا في المكان نفسه تدور في دوائر لا معنى لها. الرجل والمرأة والطفل يمضون في أنشطتهم المختلفة في أماكن مختلفة، ولا يلتقون إلا مساءً ليروي كلٌّ منهم تجاربه المختلفة. وقد أظهرت تجارب أُجريت على الحيوانات أنه عندما تُحبس في مساحة ضيقة وتُخضع لروتين متكرر، تنتهي بها الحال إلى أن تمزق بعضها البعض. والآن، كانت حكومة كينياتا تجري التجربة نفسها على البشر.

في سجن كاميتي، نرى الوجوه ذاتها كل يوم، بالزيّ الأبيض نفسه الذي نسمّيه "كونجورو". أما الطعام، فهو الذرة والفاصوليا صباحًا، وظهرًا، وعند الثالثة بعد الظهر. تمر حياتنا هنا بنفس الروتين اليومي الرتيب، في مساحة ضيقة لا تخلو من غبار قاتل وحجارة رمادية باهتة. اللونان الطاغيان في عنبر السجن هما الأبيض والرمادي، وقد أصبحتُ على يقين بأنهما لونا الموت.

ولا يمكن أن يكون المسؤولون غافلين عن النتائج المحتملة لهذه التجارب في التعذيب النفسي: الفاليوم هو الدواء الأكثر وصفًا هنا. و يتوقع الطبيب أن يكون السجين السياسي مجنونًا أو مكتئبًا، ما لم يثبت العكس.

لهذا الأمر تاريخ. قُصَّت عليّ حكاية مروعة عن سجين سياسي كان معتقلًا في هذا الجناح ذاته، قبل أن أصل إليه، وقد أصيب بانهيارٍ عقلي. راقبته السلطات وهو ينهار تدريجيًا، حتى انتهى به الحال إلى أن أكل فضلاته. ومع ذلك، أبقاه النظام على هذه الحال لمدة عامين.

بعد مرور أسبوع على اعتقالي، تمكن واسونجا سيجيو، الذي قضى في هذا القسم تسع سنوات لكنه حافظ على ذهن حادّ كالموسى وقلب من فولاذ، من التسلل بعيدًا عن أعين الحارس اليقظة الذي كان يحرسني آنذاك، وفي غضون ثوانٍ قال لي كلمات أصبحتُ أعتز بها كثيرًا:

قد يبدو غريبًا أن أقول لك هذا، لكنني، بمعنىً ما، سعيدٌ لأنهم أحضروك إلى هنا. في ذلك اليوم - في الواقع قبل أسبوعٍ تقريبًا من مجيئك - كنا نقول إنه سيكون من الجيد لكينيا سجن المزيد من المثقفين. أولًا، لأن ذلك قد يوقظ معظمهم من أوهامهم. وقد ينجو بعضهم من السجن ليحكي للعالم ما جرى. المسألة هي... فقط راقب عقلك... لا تدعهم يحطمونك، وستكون بخير حتى لو احتجزوك مدى الحياة... لكن عليك أن تحاول... يجب أن تحاول، من أجلنا، من أجل من تركتهم خلفك.

بالإضافة إلى كونها تمردًا من عقل مسجون، كان تأليف رواية وسيلة لأُبقي بها عقلي وقلبي متماسكَين.

(انتهى المقتطف)

من كتاب "مصارعة الشيطان: مذكرات من السجن" لـ نجوجي وا ثيونجو 2018.

نجوجي وا ثيونجو/ Ngũgĩ wa Thiong’o: وُلد نجوجي وا ثيونجو في ليمورو، كينيا، عام ١٩٣٨، وهو أحد أبرز الكُتّاب والباحثين المعاصرين. ألّف روايات "حبة قمح" و"لا تبك يا بني" و"بتلات الدم"، بالإضافة إلى روايتي "ميلاد ناسج أحلام" و"مصارعة الشيطان" (الصادرتين عن دار النشر "نيو بريس"). رُشّح لجائزة مان بوكر الدولية، من بين جوائز أخرى، وهو حاليًا أستاذ متميز في اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كاليفورنيا، إيرفين.رحل وا ثيونجو عن دنيانا فى 28 مايو 2025 م
*هذا هو المقطع الأول من الفصل الأول: تأملات حرة على ورق المرحاض من كتاب "مصارعة الشيطان: مذكرات من السجن" لـ نجوجي وا ثيونجو الصادر عام 2018.

(عن أخبار الأدب 8 يونيو 2025)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى